لندن – تبدو منطقة إسينيورت، التي تم بناؤها على أطراف إسطنبول، عامرة بناطحات السحاب اللامعة مثل هونغ كونغ أو دبي، لكن التفحص الدقيق يظهر أن معظم الأبراج غير مكتملة وتفتقر إلى النوافذ والأثاث وما تبقى منها مظلمة ومعظمها خال من الشاغلين.
ونسبت صحيفة الغارديان البريطانية إلى محمد كرمان، وهو وكيل عقارات محلي، قوله وهو في مكتبه الصغير في الساحة المركزية في إسينيورت إن “البناء في المناطق السكنية توقف 100 بالمئة لأن المواد وكل شيء بالدولار، أنت تدفع بالدولار”.
ويشير كرمان بذلك إلى ارتفاع سعر الدولار وانهيار الليرة، الذي أثار حيرة الأسواق العالمية، لكن من ينظر إلى أفق إسطنبول سوف يعرف الجذور الحقيقية للأزمة.
هناك أدلة على حدوث طفرة بناء جامحة تستند إلى الديون دون تفكير بالعواقب الخطيرة، حيث تنتشر ناطحات السحاب الجديدة ومراكز التسوق الضخمة في الشوارع، إضافة إلى مشاريع استراتيجية مثل أكبر مطار في العالم.
ويقول محللون إن حمى البناء دون خطط مالية رصينة هي أحد الأسباب الرئيسية لأزمة الاقتصاد التركي الحالية، والتي كانت تمثل نحو 20 بالمئة من نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد وتوظف مليوني شخص خلال السنوات الأخيرة.
وجاء تمويل تلك الطفرة العقارية بعد الأزمة المالية العالمية قبل 10 سنوات حيث مولت شركات التطوير العقاري مشاريعها من القروض ذات الفائدة المنخفضة بالعملات الأجنبية، ولذلك فإنها ستواجه أزمة خانقة بعد انهيار الليرة حيث يصبح سداد تلك القروض أكثر صعوبة مع كل تراجع في قيمة الليرة.
وتشير الإحصاءات الحكومية في نهاية عام 2016 إلى أن ما يصل إلى 90 بالمئة من تمويل الشركات العقارية التركية جاء من قروض بالعملات الأجنبية.
وكانت الشركات تعاني انخفاض الليرة المستمر بإيقاع بطيء منذ نحو 3 أعوام، لكنها سقطت في حفرة عميقة بعد الانهيار الكبير للعملة التركية بسبب المواجهة مع الولايات المتحدة بشأن استمرار احتجاز القس الأميركي أندرو برانسون بتهم تتعلق بالإرهاب.
ويقول نيهات بولنت غولتكين، المحافظ السابق للبنك المركزي التركي إن “تركيا بلد يحاول الوصول إلى معدل نمو مرتفع ولكن ليس لديها ما يكفي من رأس المال الأجنبي ولذلك فإنها تواجه أزمة كل 10 سنوات تقريبا”.
ويبدو قطاع البناء النموذج المثالي للأزمة التركية. فعلى سبيل المثال، تم تمويل مبنى “إسطنبول سفير” أحد أطول المباني في أوروبا عند اكتماله عام 2011 من خلال قروض بالدولار تكلف اليوم 4 أضعاف قيمتها عند احتسابها بالليرة التركية.
كما تعتمد تركيا بشكل كبير على واردات مواد البناء، فهي تاسع أكبر مستورد للصلب في العالم، وقد استوردت العام الماضي ما قيمته 9 مليار دولار وهي فاتورة تضاعفت قيمتها بالليرة التركية.
تلك الطفرة جعلت الاقتصاد التركي يعتمد على قطاع البناء بشكل خطير. حيث شكل في العام الماضي ما يصل إلى 19 بالمئة من الاقتصاد. وسبق أن حذر اقتصاديون أتراك من هذا الاعتماد المفرط على صناعة حساسة للغاية للتقلبات العالمية.
ويقول غولتكين “إن تمويل الدولة لا يختلف في الواقع عن التمويل الشخصي. إذا اقترضت المال للتفاخر، فسوف يأتي يوم يطاردك فيه الدائنون حين تكون الديون بالعملات الأجنبية فإن أعباءها ستكون مضاعفة بعد انهيار الليرة”.
وكانت طفرة البناء قد بلغت ذروتها في عامي 2013 و2014 حين قدمت البنوك التركية قروضا منخفضة الفائدة فاندفع المطورون العقاريون إلى مشاريع جديدة حيث تم بناء 69 ناطحة سحاب يزيد ارتفاعها على 100 متر في إسطنبول منذ عام 2008.
كما اندفعت الحكومة في بناء المشاريع الاستراتيجية مثل الجسور المعلقة ونفق تحت مضيق البوسفور والمطار الجديد، الذي من المتوقع أن تصل تكاليفه إلى 10 مليار يورو.
وتم اقتراض 5.7 مليار يورو في عام 2015 وكان ذلك القرض يعادل 18 مليار ليرة أما اليوم فإنه يعادل 40 مليار ليرة.
وجرى إبرام الكثير من هذا الاقتراض على أساس هوامش الربح التي لم تتحقق. وقد حصل كبار المسؤولين التنفيذيين من شركات البناء التركية على رواتب ومكافآت ضخمة وعلى تسهيلات من حزب العدالة والتنمية في ما يتعلق بالقوانين ومعايير البناء.
وقبل تعيين صهر أردوغان وزيرا للطاقة والذي أصبح الآن وزير الخزانة والمالية، كان براءت البيرق يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة جاليك القابضة، وهي إحدى أكبر شركات البناء في تركيا. وقد اتهمت الحكومة بتغيير قانون الضرائب لتوفير ملايين الدولارات لشركة البيرق.
ويقول كاجين بولوت الذي عمل مناصب عليا في المبيعات والتخطيط في عدد من شركات البناء التركية إن “الشركات لا تتصرف وفق خطط طويلة الأجل. أطول خطة رأيتها في شركة تركية كانت لمدة شهرين. وهنا تكمن المشكلة الرئيسية”.
وتشير تقديرات مؤسسات مالية عالمية إلى أن أصول الأجانب في تركيا فقدت أكثر من 41 مليار دولار من قيمتها بسبب تراجع الليرة في العام الحالي.
وتشير بيانات البنك المركزي إلى أن ملكية غير المقيمين للأصول المالية التركية انخفضت من 92 مليار دولار في أغسطس من العام الماضي إلى نحو 51 مليار دولار في بداية الشهر الحالي.
العرب