من تاريخ الأفكار الفلسطينية المجهضة.. “الطبقة العاملة” مثلا

من تاريخ الأفكار الفلسطينية المجهضة.. “الطبقة العاملة” مثلا

اشتعلت الصحف والمجلات، في سبعينيات القرن المنصرم، ومع صعود “اليسار” العربي بمنظماته المتنوعة وأدبياته الجديدة، بسجالاتٍ فكريةٍ وتاريخيةٍ في شأن وجود طبقة عاملة حقيقية في البلدان العربية. وكان السؤال آنذاك: هل تطوّرت حقاً طبقةٌ عاملةٌ عربيةٌ بالمعنى السوسيولوجي – التاريخي لمصطلح “الطبقة”؟ وكيف يمكن أن تنشأ طبقةٌ عاملة، بالمفهوم الماركسي، في بلدانٍ ذات اقتصاد ريعي وخدمي، مثل مصر التي عرفت الصناعة الحديثة منذ أكثر من مئتي عام، ومع ذلك كان عدد خدم البيوت في سنة 1947 نحو مليونين وسبعمئة ألف، أي ضعف عدد العمال في المدن؟ وفوق ذلك، كيف تزدهر طبقةٌ عاملةٌ في بلدانٍ تتسم بظاهرة العمالة الأجنبية المهاجرة، مثل دول الخليج العربي؟ وهؤلاء العمال لا يربطهم بالبلد أي رابط، وهم، فضلاً عن ذلك كله، لا يتكلمون لغة المواطنين الذين هم أقلية بين سكان البلد. وقد توسّعت تلك الأسئلة، لتشمل الواقع الفلسطيني في الشتات، وصار السؤال: هل يمكن أن تتطوّر “طبقة عاملة فلسطينية” في مجتمعٍ متناثر من اللاجئين؟ وهل هناك “برجوازية فلسطينية” فعلاً؟ وكيف يمكن أن تظهر مثل هذه البرجوازية في غياب دولة فلسطينية ونمط إنتاج فلسطيني مستقل؟
إن عبارة “طبقة” هي، في الأصل، مصطلح دلالي، يشير إلى وجود نسق اجتماعي – إنتاجي ذي سمة محددة. ولم ينشأ هذا النسق هكذا عفو الواقع، بل نشأ بالتراكم التدريجي، وخلال عملية تاريخية مديدة، اتسقت من خلالها عوامل الإنتاج ووسائل الإنتاج وأنماط الإنتاج والفئات الاجتماعية المطابقة، فالطبقات لا تنشأ في فضاءٍ سديمي، بل في نطاق الدولة الثابتة والاقتصاد المتحرّك. والطبقات الاجتماعية استطراداً التي لا تتراصف كالطبقات الجيولوجية، بل كفئات مندغمة في الإنتاج، غير أن الحال في بلادنا العربية ليست على هذا المنوال؛ فالدولة لدينا هي مزيجٌ من سلطةٍ قبليةٍ عتيقةٍ وشركةٍ استثماريةٍ نصف حديثة. ومن المحال أن تتطوّر في هذا النطاق طبقاتٌ موصوفة على غرار الطبقات الاجتماعية في البلدان الأوروبية، على سبيل المثال. نعم، هناك عمّال فلسطينيون، أو أيدٍ عاملة فلسطينية تعمل في السوق اللبنانية مثلاً أو السورية أو الخليجية. لكن من العبث الفكري اعتبارها “بروليتاريا فلسطينية”، تماماً مثل وجود برجوازيين فلسطينيين (الصحيح أن يقال أثرياء أو رجال أعمال فلسطينيين) تنتشر أعمالهم هنا وهناك. لكن ذلك لا يعني، على الإطلاق، وجود “طبقة برجوازية فلسطينية”؛ فهؤلاء الأثرياء كانوا دائماً من الاقتصاد الذي يعملون في نطاقه وشروطه وقوانينه. والشركات التي أسّسها فلسطينيون، على أهميتها المالية أو الاقتصادية، كانت شركات أفراد أو شركات مساهمة. وفي الحالة الثانية، كان المساهمون الكبار فيها أثرياء من دول الخليج العربي، ولا سيما الكويت وقطر. فهي، بهذا المعنى، ليست شركاتٍ فلسطينية، بل شركات عابرة للوطنية، وتلتزم قوانين البلد الذي تعمل فيه.

الأثرياء الجدد
لم يكن الأثرياء الفلسطينيون الذين ارتقوا في عالم الأعمال والمال بعد النكبة الفلسطينية في سنة 1948 من أبناء الأعيان، كآل الحسيني وطوقان والنشاشيبي وعبد الهادي والخالدي والشوّا

والجعبري، ولم يتحدّروا من الفلاحين والعمال، إلا قليلون جداً، بل جاءوا من الأبناء المتعلمين للبرجوازية الصغيرة والوسطى الذين استفادوا من التوسّع الكبير في النمو الذي عرفته دول الخليج العربي والمملكة السعودية، جرّاء الطلب المتزايد على الإسكان والتعليم ومشاريع البنية التحتية، كالطرق والكهرباء والماء بعد طفرة النفط الأولى. وفي الفترة نفسها، ظهرت فئة من الفلسطينيين شبه ثرية، كالمهندسين والمحاسبين والإداريين والأطباء وأساتذة الجامعات، وبعض هؤلاء انخرط في أعمال الشركات الكبرى، مثل تايم لايف وشل وشركة نفط العراق IPC والتابلاين، وكانت تلك الشركات تحتاجهم لإتقانهم الإنكليزية. وحصل كثيرون من هؤلاء الأثرياء الجدد على الجنسيات اللبنانية والسورية والأردنية، وبدرجة أقلّ على الجنسيات الكويتية والقطرية والسعودية، فتخلّصوا من القيود التي كانت مفروضة على استثمارات الأجانب، واندمجوا في أعمال المقاولات والإنشاءات الهندسية والتجارية في البلدان التي أقاموا فيها، وصاروا جزءاً من عناصر السوق الاستثمارية المحلية. وفي هذا الميدان، لمعت أسماء كثيرة، مثل عبد الله درويش في قطر وعبد المحسن القطّان في الكويت وعمر العقاد في السعودية ويوسف بيدس وبدر الفاهوم وسعيد خوري وحسيب الصباغ وكامل عبد الرحمن ورفعت النمر في لبنان وآل شومان والمصري في الأردن. وساهم هؤلاء بقوة في الازدهار الذي شهدته الدول التي أقاموا فيها، مثلما ساهمت الأموال الفلسطينية التي أمكن إخراجها من فلسطين في سنتي 1947 و1948 في إطلاق فورة مالية واقتصادية في الدول المجاورة.

البدايات
امتلك الأعيان الفلسطينيون، وعائلات كثيرة، قبل سنة 1948، ودائع نقدية كبيرة في المصارف العربية خارج فلسطين. وفي ما بعد، تمكّنوا من تحويل معظم أموالهم التي كانت مودعةً في المصارف المحلية إلى الخارج، بعد صدور قرار التقسيم في سنة 1947، وقبيل إعلان دولة إسرائيل في 14/5/1948. وكان لدى الفلسطينيين أموالٌ بالجنيه الإسترليني مودعة في المصارف البريطانية، علاوة على سندات كانت قد أصدرتها حكومة الانتداب. وقد تمكن البنك العربي الذي أسّسه عبد الحميد شومان في القدس في سنة 1930 من استعادة جميع أموال المودعين، وكذلك الأموال المودعة لدى البنك العثماني في القدس، ولدى بنك باركليز البريطاني. وشكلت هذه الأموال، وغيرها بالطبع، القاعدة الأولية لظهور رجال الأعمال الفلسطينيين الجدد في البلدان العربية. والمعروف أن ودائع الفلسطينيين في فرع البنك العربي في مدينة حيفا حُوِّلت إلى فرعي بيروت وعمّان في سنة 1948، وودائع فرع يافا حُوِّلت إلى فرعي نابلس ورام الله في الضفة الغربية، وجرى افتتاح فرع جديد للبنك العربي في القدس الشرقية، بدلاً من الذي بات تحت الاحتلال الإسرائيلي لتلبية طلبات أصحاب الودائع. وانتقلت شركة التأمين العربية إلى لبنان بعد سنة 1948، وكذلك الخطوط الجوية للشرق الأوسط التي أُسّست في فلسطين في سنة 1943. وكانت شركة سابا للمراجعة أُسّست أولاً في حيفا في عشرينيات القرن المنصرم، ثم تمكّن صاحبها فؤاد سابا من نقل أموالها إلى الفروع الخارجية في سورية والأردن ولبنان قبيل النكبة. وعلى غرارها، انتقلت إلى لبنان شركة الكات CAT التي كان إميل البستاني أسّسها في عكا سنة 1941. وعلى هذا النحو، تمكّن الفلسطينيون اللاجئون إلى لبنان والأردن من استعادة 154 خزنة بنكية تحتوي ممتلكات شخصية ثمينة. ومن بين 60 مليون جنيه فلسطيني، كانت في التداول اليومي قبل 1948، انتقل إلى الأردن عشرة ملايين جنيه، وإلى لبنان ثلاثة ملايين جنيه، وإلى سورية 1،5 مليون جنيه. واستناداً إلى الأموال التي تدفّقت على دول الجوار العربي، والتي بلغت في لبنان وحده نحو 150 مليون جنيه إسترليني (يوسف بيدس، النهار، 27/1/1967)، ساهم الفلسطينيون في ازدهار اقتصادات لبنان والأردن والكويت. والعجيب أن الفلسطينيين تعرّضوا، في هذه الدول الثلاث بالتحديد، للمصائب، وأحياناً للطرد: في الأردن سنتي 1970 و1971، وفي لبنان بين الأعوام 1975 و1987، وفي الكويت في سنة 1991.

أوهام لم تصمد
كثيراً ما تحدثت الأدبيات الاقتصادية الفلسطينية، عن “بعث الاقتصاد الوطني الفلسطيني” وعن “خلق نواة القطاع العام الفلسطيني”، فقد ظلّ مدير مؤسسة صامد، أحمد قريع (أبو علاء) حتى سنة 1985 على الأقل، أي بعد تدمير معظم منشآت “صامد” في لبنان، وإفلاس بعض

المشروعات الخارجية، يردّد تلك المقولات التي لا أساس علمياً لها، ففي خطبته أمام المؤتمر الثالث لمؤسسة صامد في عمان في 17/7/1985 لم يتورّع عن القول إن “مؤسسة صامد هي الأداة الاقتصادية للثورة الفلسطينية ونواة قطاعها العام (وهي تسعى) إلى تكوين قطاع عام في الشتات، وبناء نواة اقتصاد وطني فلسطيني (…)، وإن صامد هي نواة القطاع العام الفلسطيني في المهجر ونواة الاقتصاد الوطني الفلسطيني”.
هذا الكلام الذي روّجه “باحثون” تهليليون يجافي العلم الاقتصادي البسيط، ويخالف التجربة الواقعية التي برهنت أن من غير الممكن تأسيس اقتصاد وطني، ذي قوانين اقتصادية ومالية واستثمارية وقطاع عام، من دون تأسيس دولة ذات نطاق سيادي، وسلطة سيادية وقوانين ومؤسسات وسوق. ومن المحال تحقيق مثل هذا التصوّر غير المبني على العلم بين اللاجئين الفلسطينيين في مَهَاجرهم المتعدّدة، والذين يخضعون لقوانين الدول المضيفة وآليات السوق فيها. والكلام على اقتصاد فلسطيني خارج فلسطين خرافةٌ مثل خرافة البروليتاريا الفلسطينية والبرجوازية الفلسطينية التي سيطرت في إحدى المراحل على الأدبيات اليسارية في صفوف المقاومة الفلسطينية.
* * *
ذلك الكلام المتهافت علمياً، والذي تعرّض مراراً للنقد الحاد في تلك الحقبة، يذكّرنا بالشعارات والعبارات التي راجت كثيراً في عقد السبعينيات من القرن العشرين، فقد كانت المقالات والخطب والبيانات تُفتتح بعبارة سارية مثل: “إن سمة عصرنا هي الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية”، أو “أثبتت الأحداث صحة موقفنا المبدئي”… إلخ. وبالطبع، برهنت الوقائع بطلان معظم المواقف الأيديولوجية تلك، وفساد معظم التوقعات، كالتنبؤ بأن القرن العشرين “لن يطوي أعوامه إلا بهزيمة الإمبريالية وانتصار الاشتراكية في كل مكان”. والغريب أن بعض الكُتاب ومثقفي المنظمات الفلسطينية ما برح، حتى الآن، يستعمل تلك المصطلحات البائدة، كأنهم يرغبون في بعثها. وهل تُبعث الأموات؟ والعجيب أيضاً أن دراساتٍ كثيرة تستعيد اليوم مفهومات ومصطلحات عفّ عليها التقادم، ومنها فكرة “الطبقة”، خصوصاً الطبقات العاملة العربية ومشتقاتها، كالطبقة العاملة الفلسطينية أو البروليتاريا اللبنانية أو ربما البحرينية والكويتية.