هبوط العملة الإيرانية والتركية.. لماذا تركع العملات أمام الدولار؟

هبوط العملة الإيرانية والتركية.. لماذا تركع العملات أمام الدولار؟

شهدت الآونة الأخيرة هبوطا لعدد من العملات المحلية التي هددت استقرار اقتصاديات بلدانها بل وأنظمتها السياسية، فبعد ما ضجت به الأنباء حول انهيار الليرة التركية عقب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن تجاه أنقرة، واستمرار هبوطها حتى الآن أمام الدولار، تبدو واشنطن مستمرة في نهجها نحو الحرب الاقتصادية بفرض العقوبات، وذلك بعد ما شهده هبوط الريال الإيراني لمستويات قياسية مؤخرا وصلت بحسب موقع “بلومبرغ” الاقتصادي بين 118 ألف إلى 121 ألف ريال مقابل الدولار الواحد، وذلك عقب إعلان ترامب لإعادة مسار العقوبات الاقتصادية تجاه طهران، ليطفو على السطح سؤال حول الأسباب الكامنة وراء قوة الدولار وهيمنته، وكيف تستخدم الولايات المتحدة الدولار كأداة عقابية لفرض سطوتها على العالم، كما يُطرح تساؤل حول مستقبل الدولار وإمكانية تراجع قوته في مقابل عملات أخرى. هذه الأسئلة يجيب عنها التقرير الاقتصادي التالي.

نص التقرير
بينما كان الأميركيون يستمتعون بشراء الأجهزة الإلكترونية الصينية منخفضة الأثمان والحقائب الإيطالية الرخيصة في متاجرهم المحلية مدعومين بقوة الدولار كعملة عالمية أولى؛ كانت أسراب رؤوس الأموال الأجنبية(1) تحلق هاربة من الاقتصاد الأرجنتيني المنهار -وعملته البيزو الأكثر انهيارا- ناحية الولايات المتحدة وسط إغراءات ارتفاع الدولار، تاركة خلفها اقتصادا وشعبا يرزحان تحت وطأة أزمة اقتصادية عنيفة، في وقت حاولت فيه الحكومة الأرجنتينية التخفيف من آثار تحكم الدولار المطرد في البيزو بلا طائل، إذ دفعت قوة الدولار البلاد إلى رفع أسعار الفائدة 3%، أواخر أبريل/نيسان الماضي، لتصل إلى أكثر من 30%، ودعم البنك المركزي الأرجنتيني عملته المحلية بمبلغ يقدر بثلاثة مليارات دولار وسط خسارتها لأكثر من ثلث قيمتها أمام العملة الأميركية خلال الأشهر الماضية(2).

وبينما يكافح الأرجنتينيون من أجل دفع ثمن أساسيات الحياة وعلى رأسها الغذاء، حيث تتعامل البلاد مع تضخم مرتفع وصل إلى 26% ويُتوقع تجاوزه لنسبة 30% قريبا، وفي محاولة للسيطرة على الإنفاق رفعت الحكومة يدها عن دعم الخدمات العامة كالكهرباء والمياه والغاز، حتى ارتفعت فاتورة الكهرباء الشهرية على سبيل المثال من متوسط 700 إلى 4 آلاف بيزو(3)، أدى الوضع القائم حينها إلى استعداد الحكومة لفعل أي شيء تقريبا لمقاومة ارتفاع الدولار أمام السقوط الحر للبيزو، وعنى الموقف القيام بأي شيء بالفعل، وصولا إلى إعلان الرئيس الأرجنتيني “ماوريسيو ماكري” في مايو/أيار الماضي للجميع عن سعي بلاده الحصول على قرض بقيمة 50 مليار دولار من صندوق النقد الدولي(4)، المتهم الأول في الكارثة الاقتصادية التي ألمّت بالاقتصاد الأرجنتيني عام 2001 بعد تخلفها عن سداد ديونه وقتها، وكعادة الصندوق، وبعد إنهاء الأرجنتين الإجباري لقطيعة دامت 12 عاما معه، لم تتأخر موافقته على القرض بحال، وتم الاتفاق في الشهر التالي -يونيو/حزيران الفائت- مباشرة. كان ما حدث يعني استسلاما أرجنتينيا مباشرا لوطأة الضربات الدولارية، إلا أنه سلط الضوء بشكل أعمق على مأزق يعيشه العالم منذ مئة عام تقريبا، مأزق يُدعى “هيمنة الدولار”.

الصعود للعرش

خرج أول دولار للحياة عام 1914 عند إنشاء بنك الاحتياطي الفيدرالي، ورغم أن تاريخ صعوده رسميا ليصبح عملة الاحتياط العالمية، أو العملة التي تعتمد البنوك المركزية حول العالم في احتياطاتها النقدية عليها، كان صعودا بعد ثلاثة عقود من ابتكاره، فإن صعوده الحقيقي على عرش العملات العالمية بدأ بعد فترة وجيزة من صدور الطبعة الأولى، عند إصدار مذكرة إنشاء الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من مكتب النقش والطباعة “Bureau of Engraving and Printing على إثر عدم موثوقية واستقرار نظام العملة قبلها، وهو نظام كان خليطا من الأوراق النقدية الخاصة التي أصدرتها البنوك الحكومية الأميركية، والعملات المعدنية التي أصدرتها وزارة الخزانة، والعملات والأوراق النقدية الأجنبية حينها(5).

في ذلك الوقت، تفوق الاقتصاد الأميركي على الاقتصاد البريطاني الأكبر في العالم، لكن بريطانيا كانت لا تزال مركزا للتجارة العالمية، حيث إن معظم تلك التجارة كان يتم التعامل بها وفق العملة البريطانية “الجنيه الإسترليني”، لذا، ولخلق استقرار نسبي في أسواق العملات قامت معظم الدول المتقدمة بربط عملاتها بالذهب، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يجعل من استمرار ذلك الوضع خيارا متاحا، إذ تخلت العديد من تلك الدول عن معيار الذهب لتكون قادرة على دفع نفقاتها العسكرية بأموال ورقية، كما قامت بتخفيض قيمة عملاتها لتتمكن من شراء الكثير من المنتجات المطلوبة في زمن الصراع.

بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب، حدث الأمر الذي كانت تنتظره واشنطن، إذ وجدت بريطانيا التي احتفظت بثبات معيار الذهب للحفاظ على مركزها كعملة عالمية رئيسة، وجدت نفسها مضطرة لاقتراض الأموال للمرة الأولى، وكانت الولايات المتحدة بطبيعة الحال هي وجهتها باعتبارها المُقرض المفضل وقتها لدول كثيرة كانت راغبة في شراء السندات الأميركية أو صكوك الدين الأميركي المقومة بالدولار. وفي عام 1919 أُجبرت بريطانيا على التخلي عن معيار الذهب تحت وطأة خسائر التجار الدوليين الذين يتعاملون بالجنيه الإسترليني، ليبدأ عهد صعود الدولار كعملة احتياط عالمية بدلا من العملة البريطانية الأثيرة.

كان على الولايات المتحدة أن تقوم بخطوتها الإستراتيجية التالية وهي الحيلولة دون عودة الدول لمعيار الذهب، لذا وعندما لاحت لها فرصة الحرب العالمية الثانية، بدأت تُغذي دول “الحلفاء” بالأسلحة والغذاء وإمدادات السلع الأخرى، مقابل حصولها على مدفوعات بالذهب لا بالدولار، كانت الإستراتيجية بسيطة وفعالة تماما، لذا وعندما انتهت الحرب كانت الولايات المتحدة تمتلك الغالبية العظمى من الذهب المستخرج وقتها في العالم، مانعة تلك الدول فعليا وبدون إجبار رسمي من العودة لمعيار الذهب بسبب استنزاف احتياطاتها الذهبية بشكل شبه كامل.

وبسبب الاضطرابات الاقتصادية والمالية التي أحدثتها الحربان العالميتان، تقرر عقد مؤتمر في ولاية “نيوهامبشير” عام 1944، حضره مندوبو 44 دولة، لوضع أسس مستقرة لتداول العملات، وتقرر في المؤتمر، كما كان متوقعا ووسط مقاومة من الاقتصادي البريطاني الشهير “جون ماينرد كينز”، أنه لا يمكن ربط عملات العالم بالذهب ولكن بالدولار الذي يرتبط بالذهب، لتنشأ ما أصبح يُعرف باتفاقية “بريتون وودز” الشهيرة، وهي اتفاقية توجت الدولار رسميا ليصبح عملة الاحتياط العالمية المدعومة بأكبر احتياطي من الذهب على الأرض(6)، وتم استبدال احتياطيات الذهب باحتياطيات الدولار، واحتاجت الدول إلى أماكن منطقية لتخزين دولاراتها، فبدأت بشراء سندات الخزانة الأميركية معتبرة إياها مخزنا آمنا للأموال.

وتحت تعلق البنوك المركزية العالمية بأستار كعبة الفيدرالي الأميركي المالية، وارتفاع الطلب على سندات الخزانة، إلى جانب العجز الداخلي الأميركي لتمويل البرامج المحلية سواء بسبب حرب فيتنام أو برامج المجتمع العظيم (The Great Society)؛ أغرقت الولايات المتحدة العالم بأوراق النقد، وبدأت المخاوف في الارتفاع من استقرار الدولار أمام العملات الأخرى، لذا بدأت الكثير من الدول في تحويل احتياطاتها الدولارية إلى ذهب مرة أخرى، لتجد واشنطن نفسها ملزمة برد الذهب الذي تجمع فيه منذ عقود، لكن الأهم كان التهديد الحادث لهيمنة الدولار بعد استتباب أمره، ولأن المثالية الدولية لم تكن في قاموس الرئيس الأميركي حينها “ريتشارد نيكسون”، خرج على العالم عام 1971 ليعلن إلغاء منفردا لإمكانية تحويل الدولار إلى ذهب(7)، فيما عُرف بعدها بـ “صدمة نيكسون” (Nixon shock)، ما أدى إلى ترسيخ أقدام الدولار بشكل كامل، ومن ثم وصولنا بعد عقود إلى أسعار الصرف المتغيرة بشدة اليوم.

القوة

رغم تراجع القوة الأميركية نسبيا بسبب صعود قوى اقتصادية جديدة وعملاقة، وعلى رأسها الصين ثم كتلة الاتحاد الأوروبي في العقدين السابقين؛ لا يزال الدولار يحكم أنظمة العالم المالية باعتباره العملة المفضلة للاحتياطيات الأجنبية والمعاملات التجارية الدولية، وعلى الأرجح فإن الدولار يقوم بهذا الدور للآن لأنه لا توجد عملة أو دولة أخرى قادرة على توفير خدمات العملات الاحتياطية، علاوة على ما تتمتع به أميركا من اقتصاد كبير وثري ومستقر للغاية، ولديه قدرة عالية على توليد الدخل الضريبي، وبنك مركزي شديد المصداقية، ونظام حكم مؤسساتي مستقر، وقوة عسكرية ودبلوماسية شديدة الضخامة، وأسواق مالية واسعة وعميقة.

لكن النقطة الأهم تتمثل دوما في قدرتها على تقديم كميات كبيرة من الدولارات، والسندات الحكومية، وغيرها من الأصول المقومة بالدولار، دون أن تقترب من أي نوع من أنواع الأزمات التي قد تؤدي إلى تغيرات مفاجئة أو غير متوقعة في قيمة تلك الدولارات والسندات(8)، فضلا عن أن الإدارات الأميركية المتعاقبة حافظت دوما على قيمة الدولار ولم يتخذوا إجراء اقتصاديا يسحب الثقة كتخفيض قيمته، باستثناء مرة واحدة أتت بالاتفاق والتشاور مع حكومات فرنسا وألمانيا الغربية واليابان والمملكة المتحدة عام 1985 حينما ارتفع الدولار نحو 50% أمام عملات أكبر أربعة اقتصادات في ذلك الوقت على مدار خمسة أعوام سابقة على ذلك التاريخ ما تسبب في صعوبات كبيرة للصناعة الأميركية، فكانت اتفاقية بلازا (Plaza Accord)، والتي استمر العمل بها عامين فقط، ثم تم إيقافها بموجب اتفاقية اللوفر (Louvre Accord) عام 1987.

وحتى في ظل الأزمات التي تنشأ من قلب الاقتصاد الأميركي تبدو سيناريوهات “موت الدولار” أو ما شابهها متسرعة للغاية وغير دقيقة بحال، كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008 وانهيار “ليمان براذرز” وما تبعه من انهيار اقتصادي ومالي عالمي، عندما هرع المستثمرون للملاجئ وتلقى الدولار انتقادات لاذعة من قبل روسيا والصين لدوره في اضطراب الاقتصاد العالمي، وفي ظل كل ذلك ظلت العملة الأميركية الخضراء الملاذ الآمن للجميع عكس الانطباعات العامة، وارتفعت قيمته بنسبة 5% أمام سلة العملات الرئيسية بعد ثلاثة أشهر فقط من الانهيار المصرفي العالمي(9).

برغم ذلك، لم يكن الدولار دائما بالقدر نفسه من القوة، فقبل أكثر من عقد كان اليورو، العملة الأوروبية الموحدة، ينافس الدولار في سابقة لأي عملة أجنبية أخرى، إلا أن أزمة الديون السيادية الأوروبية عام 2008 لم تطل النزال الثنائي لتعلن استمرار سيطرة الدولار المعتادة، وتكشف عن هشاشة الاتحاد الأوروبي وعملته، وهي هشاشة ما زالت تنخر في جسد القارة العجوز، وعلى الأرجح فإن الخروج البريطاني من الاتحاد وما تبعه من أحاديث تعلو وتخفت عن انفراط حبة العقد التالية لن يكون آخرها.

وبالنسبة للصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم والقوة المرشحة من الأغلب لكسر الهيمنة الأميركية، فإنها تقوم بمحاولات على استحياء لتدويل عملتها “اليوان”، رغم إدراكها جيدا عدم جاهزيتها بحال لتسلم الراية العالمية في الوقت الحالي حتى بفرض تفوق اقتصادها على الاقتصاد الأميركي ومضاهاة القوة العسكرية الأميركية الكاسحة، لأنه وإن تحققت تلك الشروط فإن هيكل اقتصادها الحالي يتعارض مع هذا الدور، لذا فقد أعطى الحزب الشيوعي الأولوية لإعادة استدامة النمو الاقتصادي المتراجع، وتغيير هيكل الاقتصاد من مصنع العالم الذي يركز على الصناعات الرخيصة الكثيفة، إلى الصناعات ذات التقنية العالية، فيما يُعرف بـ “خطة الصين 2025″، علاوة على بناء المؤسسات الداخلية.

إذن تُفضّل الحكومة الصينية تنفيذ تلك الإستراتيجية بتأنٍّ على استعجال الجائزة التي يستحوذ عليها الدولار منذ قرن مضى وهي حالة العملة الاحتياطية العالمية. ولعل دفعها “الرنمينبي” إلى الواجهة الدولية حاليا واعتمادها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 ضمن سلة عملات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي -بجانب الدولار والين واليورو والجنيه الإسترليني لتصبح قابلة للتداول الحر دوليا- لعل ذلك يُعدّ خطوة صغيرة على الطريق تحسبا للدور المستقبلي المحتوم بالتحول من العملة الخضراء إلى عالم منبثق بلون عملة بكين الأحمر، إلا أن من غير المرجح أن يحدث ذلك خلال العقد القادم بأي حال.

العملات المهزومة

لطالما كانت قوة الدولار وهيمنته مهمة لواشنطن، ليس على مستوى الاقتصاد الأميركي وقدرته اللامحدودة على تشغيل آلات طباعة الدولار فحسب، وإنما في معاقبة الأنظمة والحكومات لإجبارها على فعل أو عدم فعل أشياء لا تريدها الولايات المتحدة، وهي رافعة نفوذ شديدة الأهمية ويستخدمها ترمب بشكل متكرر كسوط على أظهر الاقتصادات المختلفة، من خلال العقوبات والتهديد بالحروب التجارية كوسيلة مفضلة عنده لممارسة الضغط في الخارج بشكل لم يسبق له نظير بهذا الحجم. وتمنح قوة الدولار للعقوبات الأميركية قدرة تدميرية مالية كبيرة، فيمكن لواشنطن تجفيف التجارة والاستثمار والتمويل للدولة التي تريد معاقبتها من خلال التهديد بتجميد وصول شركائها التجاريين إلى أسواق أميركا المحلية، حتى لو لم تكن الشركات أميركية، علاوة على فرض غرامات موجعة.

ينظر ترمب إلى العقوبات المالية والاقتصادية، التي تستمد قوتها من هيمنة وقوة الدولار، على أنها سلاح منخفض التكلفة يمكن أن يضغط على الحكومات الأجنبية لتنفيذ ما يريده، وبالتأكيد لا يُعدّ نهج ترمب -بغض النظر عن كثافته- بدعا من الإدارات الأميركية السابقة، فعلى مدى العقد الماضي تضاعف عدد برامج العقوبات من 17 إلى 34 بحسب ما تُظهره الأرقام الحكومية الأميركية(10).

     


وفي الآونة الأخيرة، كانت مضاعفة ترمب للتعريفات الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم التركية، بنسبة 50%، و20% على الترتيب، ومعاقبة وزيرين تركيين إثر اعتقال سابق تركي لقس أميركي؛ نقطة تحول بالنسبة للاقتصاد التركي الذي يواجه أزمة فعلية، خاصة مع قوة الدولار أمام الليرة والتي يمكن إدارتها لضرب العملة التركية بشكل كبير كما ظهرت بوادره، ومتى أرادت الولايات المتحدة ذلك.

وما زالت العقوبات الأميركية سارية أيضا ضد روسيا بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، ولعل مشاهد انهيار الروبل الروسي لم تغب عن الأذهان أواخر ذلك العام بسبب توجه المستثمرين للدولار، حتى فرضت بعض الدول الحليفة والمحيطة بروسيا مثل بيلاروسيا ضريبة غير مألوفة في العالم بنسبة 30% على عمليات شراء الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، وذلك على إثر فرض العقوبات الغربية على موسكو وتراجع أسعار النفط.

ولا يزال ترمب يضرب بسوط الدولار القوي على جسد الاقتصاد الإيراني أعقاب انسحابه من الاتفاق النووي مع طهران والذي تفاوض عليه سلفه باراك أوباما، وتوقيعه لعقوبات جديدة لطالما حاول الإيرانيون لا سيما الرئيس حسن روحاني تجنبها، وأتت النتيجة المعتادة في انهيار الريال الإيراني وأزمة اقتصادية ومالية تعصف بالإيرانيين وذلك بعد هبوط الريال الإيراني لمستويات قياسية وصلت بحسب موقع بلومبرغ بين 118 ألف إلى 121 ألف ريال إيراني مقابل الدولار الواحد، وهو ربما رقم لا يشي بعد بأسوأ النتائج. ورغم تمتع العقوبات الأميركية الدولارية بسجل نجاح رسمي، كان عراق صدام حسين، على سبيل المثال، خاضعا لحظر تجاري ومالي شبه كامل عام 1990، لكن ذلك لم يؤد إلا لإفقار الشعب العراقي وتقوية النظام، تاركا للولايات المتحدة خيارين لا ثالث لهما، إما التخلي عن العقوبات وإما الغزو، فحدث ما شاهده العالم عام 2003 من غزو شامل.

منذ أواخر شهر يناير/كانون الثاني الماضي ارتفع مؤشر الدولار أمام العملات الرئيسة بما يزيد على 7% من قيمته(11)، واستمر في سحق عملات الأسواق الناشئة بنسب متفاوتة، كالراند الجنوب الأفريقي، والليرة التركية، والدولار الأسترالي، والروبل الروسي، والريال البرازيلي، والبيزو الأرجنتيني وغيرها من العملات(12).

تضغط واشنطن على الاقتصادات العالمية عن طريق استغلال ما يُسمى بـ “الامتيازات الباهظة” (The exorbitant privileges) التي ابتكرها الفرنسيون وكانت مرادفا عندهم لنظام بريتون وودز، حيث تعني الفائدة التي تحصل عليها الولايات المتحدة بسبب عملتها الخاصة، أو الدولار، كونها عملة الاحتياط الدولية، لينتج عنها “نظام مالي غير متماثل” يدعم فيه الأجانب مستويات معيشة المواطن الأميركي وكذا الشركات الأميركية متعددة الجنسيات، ما يعني أن طباعة الدولار لا تكلف الولايات المتحدة سوى بضعة سنتات لمكتب النقش والطباعة، مقابل إخراج دول أخرى لسلع حقيقية مقابل الحصول على تلك الأوراق(13).

مستقبل القبضة الخضراء

في أبريل/نيسان عام 2014 أصدرت مجموعة “سي إن بي سي” تقريرا خاصا تحدث فيه مجموعة من خبراء العملات عن المستقبل المالي العالمي، وانتهى الخبراء إلى أنه وفي غضون 25 عاما تقريبا سيظل الدولار الأميركي، على الأرجح، هو عملة الاحتياط العالمية كما هو الوضع الحالي، وفي الفترة نفسها قد لا يصمد البيتكوين -العملة الإلكترونية الأشهر- أو لا يكون موجودا على الإطلاق، وأشار أحد هؤلاء الخبراء “نيكولاس كولاس”، كبير محللي السوق في “ConvergEx”، إلى أن الدولار من المرجح أن يظل عملة احتياط عالمية ما دام سعر السوق العالمي لكلٍّ من الذهب والنفط والأسلحة بالدولار(14).

يدعم تلك الفرضية النتائج التي توصل لها “إيسوار براساد”، يد الصين العليا في صندوق النقد الدولي سابقا وأستاذ السياسة التجارية بجامعة كورنيل في نيويورك، وزميل معهد بروكينغز في واشنطن العاصمة، في كتابه “فخ الدولار” (The Dollar Trap)، وهي أن الدولار ليس له منافس بمواصفات عملة عالمية، وربما لن يظهر ذلك المنافس لعدة عقود قادمة. ويركز براساد في كتابه على بحث مستقبل النظام النقدي الدولي، ومن نتائج بحثه أن الأمر لا يتعلق بامتلاك الولايات المتحدة سياسات جيدة أو آفاق نمو خاصة، وإنما بحقيقة أن بقية العالم يبدو أضعف عندما يتعلق الأمر بالمؤسسات المالية القوية التي تملكها الولايات المتحدة، كما أن العالم وببساطة شديدة ليس لديه مكان آخر يذهب إليه، خاصة في أوقات اضطراب الأسواق المالية العالمية، بما في ذلك، وللمفارقة، الاضطرابات التي تنشأ في الولايات المتحدة نفسها(15).

إيسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية بجامعة كورنيل في نيويورك (مواقع التواصل الاجتماعي)

بناء على ما تقدم، يظل الدولار الأميركي رغم الأمنيات والآراء المتضاربة يحكم العالم ماليا رغم التراجع الأميركي الملحوظ على مستويات عدة، ورغم تنامي قوى اقتصادية تكسب مساحات جديدة كل يوم على حساب الانحسار الأميركي، وعلى الأرجح سيظل كذلك لفترة طويلة، مع فشل جميع الخيارات المالية الأخرى -حتى غير التقليدي منها- في زحزحته عن عرشه.

آدم المخزنجي

الجزيرة