الشِجار اللبناني بشأن نظام الأسد يتقدّم بعناوين مختلفة: اللاجئون السوريون في لبنان، “تطبيع” العلاقة مع دمشق، تلزيمات إعادة إعمار سورية، تعثّر تشكيل الحكومة.. والفريقان المتناكفان يختلفان حول “الموقف”، السلبي أو الإيجابي مع الأسد. بل طلعت أصوات أخيرا، نفد صبرها من تأخّر تشكيل الحكومة، مفادها بأن الطبقة السياسية التي اعتادت على أخذ الأمر من دمشق، في الصغيرة والكبيرة، صار لزاماً عليها أن تعود إليها، إلى أصولها، لتيسير شأن الحكومة وحلّ الخلافات بين أقطابها. عبّر أحدهم عن هذا الحنين لزمن الوصاية الأسدية: “رزق الله لما كان غازي كنعان يحدّد تشكيلات اللوائح الانتخابية، ويأمر رئيس الحكومة أو غيره بتوزير فلان، أو بتعيين آخر..”.
“المنتصرون” الممانعون ما زالوا ينظرون إلى الواقع الأسدي وكأنه “نظام” قائم بذاته؛ كما كان أيام دخول جيش مؤسّسه، حافظ الأسد، إلى لبنان صيف 1976، لوقف الزحف الفلسطيني -الوطني التقدمي باتجاه المناطق التي كانت توصف سنتها باليمينية – الإنعزالية. هل يمكن تخيّل حدث شبيه الآن؟ (خصوم الممانعين لا يقلّون عنهم تغافلاً. يتصوّرن أن “المجتمع الدولي” الذي يستقوون به، بدورهم، ما زال على عهده السابق من التناسق والتماسك والانتظام. ولكن هذا موضوع آخر، وإن تقارب مع موضوعنا).
وفضل التقاليد الانتصارية أنها جديرة بالإسقاط على الواقع الأسدي، فتسجّل أمجاده، وترفع
أكاليل الغار. وبهذه الروحية، نصّب بشار الأسد شبحاً لا يعرف الموت، يحييه الإيمان بأبديته. أو قلْ فزاعة، تُرفع عالياً بوجه من يتجرّأ على السؤال، مجرّد السؤال عن طبيعة هذه الانتصارات. وفي قلب هذه اللجاجة، يُثبّت العقل الوطني اللبناني، فيفوَّت؛ يعاند الوقائع، كأن عيناً مجرّدةً تخطئها.
نظام المخابرات الذي حكَم لبنان، وروّض طبقته السياسية، ونزع عنها الإرادة السياسية الحرّة، التي لم تكن أصلاً قوية.. هو نظام ميّت حيّ. كان أيام عزّه قوياً علينا وعلى الفلسطينيين. أما الآن، فبالكاد تراه يأخذ قراراً، أو يبادر إلى فكرةٍ، غير الأفكار الإعلامية التجميلية العاطفية (بالأحرى أفكار شركات العلاقات العامة). وما زالت طبقة السياسيين اللبنانيين على عماها، المقصود، إذ لا تملك موارد سياسية كثيرة، ولا قراراً، هي الأخرى، ولا طبعا مبادرات. طبقة عائشة على الصبحانية، على الرغم من “الذكاء الخارق” لبعض لوالبها. عدوة المعرفة، معرفة سورية، وما يحصل فعلاً داخلها. ربما تعلم تلك العقول المزهوة بنفسها، ولكن لا يفيد الآن، وسط الانتصارات المذهلة، إضعاف معنوياتها وتبنّي سرديّة العدو…
مع أنه، وبعيداً عن معرفةٍ مفصّلة للواقع السوري الآن، واعتماداً فقط على ما هو متداول، ووسط كل الاتجاهات، يمكننا رسم الملامح العامة لنظام الأسد؛ وهي وحدها تنبئ بهول التغيير الذي طرأ على بنيته، وهرميته، نتيجة حربه على شعبه، ومدى عجزه الطارئ عن إدارة صراعات إقليمية، بعدما نزع عن نفسه الأصول، أي إدارة الشأن الوطني السوري، معتقداً بأنه بذلك إنما ينقذ نظامه.
ما عادت سورية اليوم كما كانت أيام عزهّا الإقليمي. في جوّها وعلى أرضها ومياهها الإقليمية روسٌ، واتفاقيات ثنائية وقواعد عسكرية وطلعاتٌ جوية مدمّرة. وهم، الروس، يعتقدون أنهم سيتولّون “الحل السياسي” في سورية، بعدما قصفوا وهجّروا؛ وشرطتهم العسكرية تتدخل لفض الاشتباكات بين الفرق الأسدية المتعادية على الغنائم، أو على أحياء النفوذ وزواريبه؛ بل اختاروا قادة لامعين من هذه الفرق، ليلحقوهم بقيادتهم المباشرة، ويتحوّلوا إلى “أزلامها”. ثم مناكفة روسية إسرائيلية حول مدى الانسحاب الإيراني من الأراضي السورية، وسكوت تام عن الغارات الإسرائيلية على منشآت إيرانية، أو قوافل السلاح الحزبلهية. واتفاقيات أخرى، مع إيران، جديدة وقديمة، تطرح السؤال عن الفرق بينها وبين الاتفاقيات مع روسيا. إذا كان الأسد “أجّر” لروسيا أرض حميميم وغيرها، فماذا أعطى للإيرانيين؟ وماذا أعطى الإيرانيون للروس؟ ماذا تبادلوا؟ قايضوا؟ وهؤلاء ماذا أعطوا للإسرائيليين أو الأتراك؟ وهكذا… وتنافس يضعف تركيا، أو ويقويها. وأولويتها الكردية التي يلعب عليها الجميع أيضا: الروس، الإيرانيون، الأميركيون.. وبهذه الأولوية، قد لا تتصدّى تركيا لاجتياح إدلب، إذا كان ثمن
تغاضيها هو فوزها النهائي بالأكراد. والأقوى عسكريا من الجميع، أي الولايات المتحدة، صاحبة مزاج خاص، لا استراتيجية، كما ينبغي للإمبراطوريات أن تكون. وقد تُنقذ السوريين الأكراد وقد تطنّشهم. من يدري؟ تُبقي العالم لاهثاً محتاراً، بلعبتها هذه التي لا تنال إلا من السوريين.. والهوْجة الترامبية ليست وحدها المسؤولة عن الميوعة الإستراتيجية الأميركية. قبل ترامب، كان باراك أوباما يردّد “ليس للولايات المتحدة استراتيجية في سورية”. فيما البغدادي، زعيم “داعش”، يطلق تسجيلاً صوتياً، يعلن فيه: “دولة الخلافة باقية. وليست محصورة في هجين” (جيبه في دير الزور). وقبل ذلك، تمكّن “داعش” من غزو قرىً في السويداء، وقتل 250 شخصا من سكانها، وخطف عشرات، في عمليةٍ مشبوهة، بدا فيها النظام مترهلاً، عاجزاً عن حماية “انتصاراته”؛ أو متواطئا معها، مسهِّلا عملياتها الإجرامية، عقاباً لأهالي السويداء على عدم إذعانهم بالانخراط في جيشه. ولا تمييز بين الاحتمالين من حيث ضررهما البالغ على دولة نظام الأسد.
ما الذي يبقى بين أيادي الأسد؟ الفتك بالسوريين وحده المجال المتوفّر لدى الأسد، بعدما تجاوزته الأمم في ممارسة ما كان يمارسه هو على المسرح اللبناني: الصراع بين هذه الأمم على سورية، بداخلها، بساحتها، بالنيران المجرّبة وغير المجرّبة، باللحم الحيّ لأبنائها. فيكون نوعٌ غريب من تقسيم العمل بين تلك الأمم والأسد: هي تلعب، بشروط بعضها بعضا، بموازين قواهم، بنوعية أسلحتهم؛ فتقتل من السوريين ما تيّسر. فيما الأسد خارج اللعبة تماماَ. لا دور له غير الواجهة الرسمية القانونية، وقد يُستغنى عنه أحيانا. حتى هذا الدور الزهيد، قد يغلو عليه يوماً.. ولكنه، في المقابل، مطلق الحرية في قتل شعبه والتنكيل به. لم يبق بين أيادي الأسد غير قتل السوريين. لم يعد له ملعب آخر يلعب فيه. اللاعبون، كباراً أو متوسطين، يقرّرون ويقتلون، فيما هو يقتل وحسب.
إلا أولئك المتساذجين من اللبنانيين الذين يعاندون الواقع، وينشدون حلا سوريا لمنازعاتهم الرخيصة، ينشدون حَكَما شبَحاً، فالأسد بقي أسداً، صحيحٌ، ولكن على شعبه وحسب.
دلال البزري
العربي الجديد