واشنطن – عندما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأعلن عن ملامح سياسته الخارجية، بدا واضحا أنه سيرمم العلاقات التي أفسدتها إدارة سلفه باراك أوباما وسيتدارك المزالق التي أدخلت فيها الإدارة الأميركية السابقة واشنطن، وهو ما حدث فعلا، لكن بطريقة مختلفة وبصورة معاكسة للمتوقع، ووفق شعار ترامب، الرئيس ورجل الأعمال، الدفع مقابل الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة كقائدة للنظام العالمي.
أعاد ترامب تحسين علاقات تاريخية توترت في عهد أوباما، على غرار العلاقات الخليجية الأميركية، لكنه في نفس الوقت يهدد علاقات لا تقل أهمية، وهي علاقات الولايات المتحدة مع أوروبا وحلف الناتو، كما أقام علاقات مع دول “عدوة”، كروسيا وكوريا الجنوبية، وأدخل العالم، بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والأمنية، في متاهة التعامل مع انقلابه على سير نظام معمول به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وباتت ملامح السياسة الخارجية التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب واضحة، وهي “دع الآخرين يدفعون نيابة عنا”. ويخاطر هذا النهج بتحويل السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى “بورصة مواقف” تعتمد بالأساس على حجم الأسهم التي تمتلكها كل دولة وفقا للأموال التي قامت بسدادها.
ويعني هذا المزيد من الانسحاب الأميركي من أكثر القضايا الاستراتيجية حساسية على الساحة الدولية، إذ يقتصر انخراط واشنطن في حل النزاعات والتوسط في مفاوضات تنهي أزمات كبرى، كالأزمة السورية والحرب في اليمن، على بناء موقف تحركه عقلية “المقابل”. وغالبا ما يكون المقابل، وفقا لعقيدة ترامب، ماليا.
تقديم التنازلات هو حلقة ضمن سلسلة طويلة من سياسة قسرية وفجة تعكس شخصية ترامب التي تتسم بشفافية ومباشرة قد تصلان إلى الوقاحة أحيانا
لا تقتصر هذه السياسة، غير المسبوقة بالنسبة للمهتمين بالسياسة الخارجية في واشنطن، على خصوم الولايات المتحدة فقط، لكنها تمتد أيضا إلى حلفائها.
ومنذ أن كان مرشحا رئاسيا، دأب ترامب على مطالبة أعضاء حلف الناتو بـ”سداد ما عليهم من مستحقات”. وتتمحور هذه المستحقات حول اتفاق وقعته الدول الأعضاء خلال قمة الناتو التي انعقدت في ويلز عام 2014، وتوصل المجتمعون خلالها إلى اتفاق يقضي بتخصيص كل دولة عضو في الحلف 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على الدفاع.
ويمثل الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 51.1 بالمئة من إجمال الناتج المحلي لدول الناتو، وتتخطى المساهمة الأميركية لدعم الحلف مساهمات ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا مجتمعة.
وقال ترامب في أول أيامه في البيت الأبيض إن “الناتو عفا عليه الزمن”. وبسبب المساهمات المالية من قبل حلفاء الولايات المتحدة كاد ترامب ينهي أحد أكثر المؤسسات الاستراتيجية التي يقوم عليها النظام الدولي أهمية.
وتنظر الدول الأوروبية خصوصا إلى هذه السياسة، بالإضافة إلى التقارب الكبير، على المستوى الشخصي، الذي أدى إلى تقديم ترامب تنازلات لنظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة هلسنكي التي انعقدت منتصف يوليو الماضي، باعتبارها مخاطرة استراتيجية غير محسوبة العواقب.
سياسة جديدة بعقلية قديمة
لا يجد ترامب معضلة كبرى في تقويض حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في سبيل تطبيق عقيدة “أميركا أولا” التي أوصلته إلى الحكم. وتترجم هذه العقيدة نزعة انعزالية تعيد الولايات المتحدة مرة أخرى إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما كانت واشنطن تنتهج سياسة تقوم على الحياد وعدم التدخل المباشر في النزاعات الدولية الكبرى. وحتى مشاركة الجيوش الأميركية في الحرب العالمية الأولى لم تشكل بداية واقعية للسياسة التوسعية الأميركية التي سيعرفها العالم في النصف الثاني من القرب العشرين.
لكن تكرار سياسة العزلة، من وجهة نظر ترامب، لا يمثل قناعة راسخة تشكل نهجه تجاه السياسة الخارجية، لكنها أحد العوارض التلقائية لتحويل فلسفة “دفع الفواتير” لجوهر النفوذ الأميركي الخارجي.
طوال الوقت شكلت العقوبات الأميركية، بصيغتيها المباشرة وغير المباشرة، محور عقاب دول وقادة يتبنون مواقف لا تتسق مع المصالح الأميركية. لكن ترامب، إلى جانب العقوبات الاقتصادية، خلق ديناميكية جديدة توظف برامج تمويلية تتبناها الأمم المتحدة ضمن فضاء القوة الأميركية الجديدة. وتقوم هذه القوة على محركات مالية نابعة من قناعة ترامب بأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لتقديم خدمات الحماية والدعم والتوسط في الأزمات الدولية مجانا.
وأقدمت الولايات المتحدة على تطبيق نفس السياسة في عقاب الفلسطينيين، قبل أسابيع من طرح خطة السلام الأميركية، المعروفة إعلاميّا بـ”صفقة القرن”.
ويرى ترامب أن اعتماد الفلسطينيين، في الضفة الغربية وقطاع غزة، على الجهات المانحة الدولية يخلق تصلبا في مواقفهم السياسية تجاه مفاوضات الحل النهائي.
ويعتقد مسؤولون كبار في البيت الأبيض أن وجود منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تجسيد لواقع تسهم فيه الأمم المتحدة، من وجهة نظرهم، في منح الفلسطينيين موقعا تفضيليا ومساحة مناورة لتأجيل الوصول إلى السلام.
وأصدر ترامب الأسبوع الماضي قرارا بوقف المساهمة الأميركية، التي تصل إلى 60 مليون دولار سنويا، لوكالة الأونروا، وقال إن عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين على قوائم الوكالة يفوق بكثير عدد اللاجئين الفعليين.
وتتسق هذه الرؤية مع توجهات اليمين الإسرائيلي المتطرف، في سعيه لإنهاء حق العودة، وتغيير مفهوم اللجوء، الذي يؤثر على مستقبل إسرائيل السياسي والديمغرافي. وتقوم السياسة الأميركية على خنق الفلسطينيين اقتصاديا من أجل إجبارهم على تقديم تنازلات.
وقبل قرار وقف تمويل الأونروا، قال الرئيس الأميركي إنه قرر وقف 200 مليون دولار من المنح والمساعدات الأميركية المقدمة للسلطة الفلسطينية. ومعظم هذه المساعدات والمنح كانت تقدم لمؤسسات تنموية وجمعيات أهلية.
ويريد ترامب خلق مركزية في عملية تمويل الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة. وتقوم هذه الفلسفة على إنهاء الطابع “الدولي” للتمويل الذي يصل إلى الفلسطينيين، وقصره على جهة تملك الولايات المتحدة نفوذا كبيرا عليها، يمكنها من التحكم في مسألة التمويل بشكل مباشر. وفي نهاية يونيو الماضي، التقى وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني بوزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان في قبرص.
وقالت مصادر عربية إن الجانبين اتفقا على أن تتولى قطر مسألة التمويل، خصوصا في قطاع غزة، ضمن ترتيبات التوصل إلى تهدئة طويلة الأمد بين حركة حماس وإسرائيل. ويعتقد ترامب أن وقف مساهمات الولايات المتحدة سيجبر الفلسطينيين على “تقديم تنازلات” تفضي إلى استعادة عجلة المفاوضات المتوقفة منذ عام 2014.
شفافية إلى درجة الوقاحة
تقديم التنازلات هو حلقة ضمن سلسلة طويلة من سياسة قسرية وفجة تعكس شخصية ترامب التي تتسم بشفافية ومباشرة قد تصلان إلى الوقاحة أحيانا.
وتخلو مقاربات ترامب من الدبلوماسية، خصوصا تجاه قضايا شكلت عقبة أمام رؤساء الولايات المتحدة السابقين. والعام الماضي لجأ ترامب إلى عصا العقوبات الغليظة عندما قرر وقف قرابة 300 مليون دولار ضمن المساعدات العسكرية التي تتلقاها مصر على خلفية قرار البرلمان الموافقة على قانون الجمعيات الأهلية المثير للجدل. واستأنفت واشنطن المساعدات هذا العام، بالتزامن مع توسط مصر لتحقيق تهدئة في قطاع غزة.
وتبنت واشنطن نفس السياسة تجاه باكستان، إذ أوقفت 300 مليون دولار من حزمة المساعدات العسكرية التي يتلقاها الجيش الباكستاني، إثر شكوك أميركية بتلقي حركة طالبان وشبكة حقاني دعما من المخابرات العسكرية الباكستانية، وشن هجمات داخل أفغانستان انطلاقا من ملاذات آمنة على الحدود بين البلدين.
ويحاول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حل الأزمة مع إسلام أباد خلال زيارة يقوم بها حاليا إلى البلد الإسلامي النووي، يلتقي خلالها رئيس الوزراء الجديد عمران خان، وقائد الجيش النافذ الجنرال قمر جاويد باجوا، ووزير الخارجية شاه محمود قريشي.
وتأمل واشنطن في تقديم باكستان “تنازلات” تتعلق بشن عملية عسكرية واسعة النطاق على حركة طالبان في باكستان، آملة في أن يؤدي ذلك إلى تخفيف الضغط على القوات الأميركية في أفغانستان وتحسين الأوضاع هناك.
كما يرى ترامب في أزمة المقاطعة، التي فرضتها السعودية ومصر والإمارات والبحرين في يونيو 2017 على قطر، فرصة للحصول على عقود تسليح واستثمارات مباشرة جديدة من قبل قوى خليجية تتمتع باتفاقات دفاعية وأمنية محورية مع الولايات المتحدة.
وتحاول قطر، على وجه الخصوص، ضمان عدم إعلان الولايات المتحدة عن مواقف حاسمة ضدها في الأزمة، في ظل عقيدة شخصية يتبناها ترامب تعادي الإخوان المسلمين وتنظيمات متشددة أخرى تحظى بدعم قطر، إلى جانب انتقاده للعلاقات المتنامية بين قطر وإيران.
ومنذ توليه مهامه في البيت الأبيض رافعا شعار “لنعيد للولايات المتحدة عظمتها”، قلب ترامب العلاقات التجارية رأسا على عقب، فشن هجمات لم تفرق بين الحليف والخصم. وأحد أبرز أهدافه كان اتفاقية التبادل الحر لأميركا الشمالية (نافتا)، الاتفاق الذي يعود لـ25 سنة مع جارتيه كندا والمكسيك، والذي وصفه بـ”المخادع” و”الكارثي” للولايات المتحدة.
وأصر ترامب على إعادة التفاوض على نافتا، وبعد أن باتت اتفاقية أخرى جاهزة عمليا، تسببت تصريحاته التي تنتقص من كندا، أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، الأسبوع الماضي بإخراج المفاوضات عن مسارها.
وأضاف “لن نوقّع اتفاقا سيّئا للكنديين، وبصراحة تامّة، إنّ عدم وجود الفصل 19 الذي يضمن اتّباع القواعد سيكون أمرا سيّئا للكنديين”. والأسبوع الماضي اصطدمت المفاوضات بين واشنطن وأوتاوا حول تحديث اتفاقية نافتا بتشدّد ترامب الذي رفض تقديم أي تنازلات، مما دفع الطرفين إلى إرجاء المحادثات لبضعة أيام.
واستؤنفت المفاوضات بين كندا والولايات المتحدة الأربعاء في واشنطن. ومن المواضيع الشائكة في هذه المفاوضات مسألة الإبقاء في الاتفاق الجديد على آلية تتيح التحكيم في الخلافات التجارية بين شركاء المعاهدة وهو أمر منصوص عليه في الفصل 19 من الاتفاقية الموقّعة في 1994. وفي حين يريد الأميركيون التخلّص من هذه الآلية فإن الكنديين يريدون الإبقاء عليها.
كذلك فإنّ مواقف البلدين تتعارض حول مسألة أخرى هي بند “الاستثناء الثقافي” الذي يتمسّك به الكنديّون ويريد الأميركيون التخلّص منه، ذلك أنّ هذا البند يؤمّن الحماية بصورة خاصة لقطاعي الإنتاج الثقافي والإعلام المرئي والمسموع في كندا. وتراقب المكسيك عن كثب سير المحادثات، إذ ستسير عليها نفس البنود التي سيتفق الجانبان حولها إذا ما قررت البقاء في الاتفاق.
لكن وضع المكسيك، التي ينظر إليها بشكل خاص باعتبارها الحلقة الأضعف في معادلة نافتا، يظل صعبا، إذ يشك كثيرون في أن ترامب يعاقب ميكسيكو سيتي على سياساتها الرافضة لتمويل بناء جدار عازل على الحدود يحد من الهجرة غير الشرعية، وهو بصمة ترامب الذي تعهد به خلال حملته الانتخابية.
امتدت “الحرب التجارية” التي يشنها ترامب إلى الحلفاء الأوروبيين، إذ هاجم الاتحاد الأوروبي ووصفه بـ”المنافس”، في وقت تواجه بروكسل المجهول فيما يتعلق ببريكست. وجاءت هذه التصريحات بعد إعلان واشنطن فرض رسوم جمركية على صادرات أوروبا للولايات المتحدة من الصلب بقيمة 25 بالمئة والألومنيوم بقيمة 20 بالمئة.
حرب خاصة مع الصين
فيما يتعلق بالصين، فقد فرض ترامب مجموعة من الرسوم الجمركية العقابية للضغط عليها للقيام بتنازلات. ويمكن أن تدخل حملته الشرسة ضد بكين مرحلة جديدة مع فرض رسوم على سلع تصل قيمتها إلى 200 مليار دولار.
وبدأت عواقب ذلك تتردد في ثاني اقتصاد في العالم، وإذا ما تصاعدت قد تؤثر على الاستثمارات والموردين والثقة. قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز للصحافيين، إن هناك “احتمالا بالتأكيد” أن يمضي ترامب قدما في فرض الرسوم الجمركية على الصين، بعد انتهاء فترة التعليقات العامة.
وينتظر المستثمرون ليروا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستمضي قدما في فرض رسوم جمركية على سلع صينية بقيمة 200 مليار دولار، وهو ما سيكون تصعيدا كبيرا في النزاع التجاري بين الصين والولايات المتحدة.
وأمام الشركات وأفراد الشعب حتى السادس من سبتمبر الجاري للإدلاء بتعليقاتهم حول الرسوم المقترحة، والتي تغطي كل السلع بداية من عصا الصور الشخصية (سيلفي ستيك) وحتى أشباه الموصلات.
وحذر كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي موريس أوبستفلد من أن “خطر تفاقم التوترات التجارية الحالية… هو أكبر تهديد في المدى القريب على النمو العالمي”.
وعبر أقوى البنوك المركزية في العالم، الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، عن رأي مماثل محذرا من أن “تصعيدا في الخلافات التجارية العالمية يمثل خطرا مترتبا محتملا على النشاط الفعلي”.
العرب