تشير حرب الكلام التي لا تنفكّ تتصاعد بين إيران والولايات المتحدة إلى أن الشرق الأوسط سيكون على المحك في الأشهر المقبلة مع بدء سريان العقوبات. وقد أكدت الإدارة الأمريكية مرارًا تكرارًا أن “تغيير النظام” و”التدابير العسكرية” ضد إيران ليست على جدول أعمالها، بل ذكرت أن الهدف هو تغيير السلوك، وليس النظام.
ولكن بالرغم من ذلك، لا شكّ في أنّ النظام الإيراني مهدد. إذ يقوم كل من تأكيد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن “الرخاء، والأمن، وحرية الشعب الإيراني هي خسائر مقبولة في المسيرة من أجل تحقيق الثورة”، وتغريدات ترامب الشخصية في هذا الصدد تدلّ على الرغبة في تفكيك الدولة الإيرانية تمامًا. فقد أشار ترامب مؤخرًا إلى أن النظام قد ينهار بسبب سياسة العقوبات الأمريكية. وفي حين أن هذه التصريحات جاءت ردًا على التعليقات التحريضية للنظام الإيراني، إن التهديدات الموجهة إلى الحكومة الإيرانية تبدو حقيقية. فلم تنجح احتجاجات آب/أغسطس الواسعة سوى في زيادة الشعور بأن تغيير النظام مطروح على الطاولة. أمّا على المستوى الإقليمي، فقد دعا الخطاب الأمريكي إلى تساؤلات كثير حول إلى أي مدى ستذهب الولايات المتحدة لتغيير إيران.
إنّ النظام الإيراني قمعي وتوسّعي. ومن المؤكد أنّه إذا غيّر في سلوكياته التي تشمل دعمه للميليشيات الوكيلة ولبرنامج القذائف البالستية، سيفيد الاستقرار الإقليمي والكثير من الأشخاص الذين يعيشون في الشرق الأوسط. ولكن إذا يكمن هدف السياسة الأمريكية في تغيير هذه السلوكيات إلى جانب زعزعة استقرار الدولة نفسها، فإن السياسة الحالية قد تحدث أضرارًا تفوق منافعها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وحتى الاتحاد السوفيتي تعطي انطباعًا بأن واشنطن تعتمد على إحدى الاستراتيجيتين عند محاولة “تغيير السلوك”، ألا وهما: الاحتواء أو تغيير النظام. ويتطلب الاحتواء الصبر والمرونة. فلا تعِد هذه الاستراتيجية بتحقيق انتصار سريع أو سهل. كما يمثل الاحتواء حلاً وسطيًا بين الانفراج والتراجع، حسبما اقترح الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان في الخمسينيات من القرن المنصرم بهدف احتواء الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، لا يبدو أن سياسة العقوبات الحالية مصمَّمة للاحتواء، على الرغم من أهدافها المعلنة. فمن خلال الخروج من الصفقة النووية مع إيران، رفض ترامب فرصة احتواء إيران مستخدمًا المفاهيم نفسها. أمّا العقوبات التي ستُنفّذ في هذا الشهر فتشير إلى أن التداعيات التي ستترتب عليها ستزيد من عدم الاستقرار الإقليمي أكثر مما ستغير سلوك إيران.
ويشار إلى أن الاحتواء بصفته استراتيجية جيوسياسية لوقف التوسع الإيراني يتطلب سياسةً راسخةً وطويلة الأجل، فضلاً عن الحفاظ على نوع من توافق دولي على أهداف الإجراءات المتخذة في حق إيران. ومع ذلك، فإن الانسحاب من الاتفاق النووي قد أحدث شرخًا في العلاقات عبر المحيط الأطلسي، ويبدو أنه ما من توافق حول السلوك المحبذ لإيران لدى الغرب. بالإضافة إلى ذلك، يدعو الاحتواء إلى مستوى معين من المشاركة مع الخصم، غير أن ذلك احتمال غير وارد إن كان بالنسبة إلى ترامب أو إلى إيران. علاوةً على ذلك، إن الارتباك والغموض اللذين يحيطان بالأهداف الإقليمية الأوسع للولايات المتحدة يقلل من احتمال فهم النظام الإيراني لمصالح الولايات المتحدة، ناهيك عن الامتثال لها.
كما يبدو أن سياسة العقوبات في صيغتها الحالية مصمَّمةٌ لتغيير سلوك إيران عبر تغيير النظام. فمن خلال إضعاف النظام عن طريق العقوبات والضغوطات الأخرى، تكون هذه الاستراتيجية قد بدأت أساسًا في إشعال فتيل أزمة اقتصادية قد تحثّ الشعب الإيراني على الإطاحة بقادته. وعلى الرغم من أن التحول السياسي الإيجابي لإيران قد يكون هدفًا جديرًا بالتحقيق، إن التنفيذ الفعلي لهذه الاستراتيجية يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. فمن خلال جعل الشعب الإيراني رهينةً لأفعال حكومته، تخاطر إدارة ترامب في تقوية موقف النظام.
وفي كلتا الحالتين، لا يزال لدى إيران بعض المنافذ للتبادل الاقتصادي، وقد تزداد أكثر بسبب المنافسة القائمة بين الولايات المتحدة والدول الأخرى – وبالتحديد الصين وروسيا. كما يبدو أن آية الله الخامنئي لم يعد يعتمد على أوروبا لإنقاذ “خطة العمل الشاملة المشتركة”، إذ تبقى الصين وروسيا سوقين يمكن الوصول إليهما. وتشتري الصين وحدها ٦٥٥ ألف برميل يوميًا من إيران، ما يمثّل ٦٠ في المئة من صادرات النفط الإيراني، ما يجعلها مهمةً لفعالية العقوبات الأمريكية. ومع استمرار حرب الولايات المتحدة التجارية مع الصين، من غير المحتمل أن تميل قيادتها إلى المشاركة في الضغط على إيران. ففي الواقع، قد تردّ الصين في حربها التجارية مع الولايات المتحدة من خلال السعي إلى تنمية الاقتصاد الإيراني. وفي السياق عينه، لا تبدو روسيا مهتمةً بالضغط على إيران بشكل خاص، لا سيما بالنظر إلى مصالحهما المشتركة جزئيًا في سوريا.
وبعيدًا عن تفاصيل المسألة الإيرانية، أظهرت الأبحاث حول العقوبات أنّ معدل نجاحها في إحداث تغيير طويل الأمد لسلوك النظام منخفض. فإذا أخذنا العراق وحده كمثال، ندرك حدود العقوبات ضد الأنظمة الاستبدادية ونتائجها المحتملة. فبعد ثلاثة عشر عامًا من العقوبات التي أضعفت دولة العراق، وإنّما فشلت في تغيير سلوكيات الدولة، اختارت الولايات المتحدة في نهاية المطاف التدخل العسكري لتحقيق التحولات السلوكية التي كان من المفترض أن تحققها تلك العقوبات. وبالتالي، فإن فشل العقوبات المحتمل في تغيير سلوك إيران بشكل جوهري قد يجعل التدخل العسكري احتمالاً أكثر جاذبيةً للإدارة، لا سيما إذا استمرت إيران في محاولات توسيع نفوذها في المنطقة.
ونظرًا لاحتمال حصول ركود، قد يبدو تغيير النظام في ضوء ما ذُكر مغريًا. لكن إذا اختارت الولايات المتحدة تغيير النظام الإيراني بالقوة بدلاً من السعي إلى الإصلاح التدريجي، فإن النتيجة ستكون مختلفةً قليلاً عن ثورة “الربيع العربي”، أي سيكون هناك موجة من الثورات تليها عودة سريعة إلى هياكل الدولة القائمة، ولا سيما الجيش. علاوةً على ذلك، إذا شعرت القيادة الإيرانية بالتهديد، فإن حروبها السابقة تُظهر مدى قوة البلاد في القتال والمقاومة. وقد سبق أن استجابت إيران للعقوبات من خلال التهديد المتكرر بإغلاق مضيق هرمز، من دون إظهار أي إشارة على تغيير سلوكها. أمّا استمرار انتشار الوكلاء الإيرانيين في جميع أنحاء المنطقة فهو سبب آخر يدعو إلى قلق بالغ، إذ قد يباشرون بشكل منهجي باستهداف القوات الأمريكية وحلفاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما أنه ليس من الحكمة أن ننسى برنامج إيران النووي، إذ وُضعت “خطة العمل الشاملة المشتركة” أساسًا لوقفه.
وحتى إن ازدادت جاذبية فكرة تغيير النظام بصفتها “حل حاسم” لمشكلة مستعصية، على إدارة ترامب أن تتذكر أن استراتيجية الاعتماد على تغيير النظام للتأثير على سلوك الجهات الحكومية غالبًا ما تزيد من هذا السلوك. فلدى الولايات المتحدة تاريخ طويل في تغيير الأنظمة – بتكاليف متفاوتة – إلاّ أن هناك نتيجة واحدة تعيد نفسها مرارًا وتكرارًا، ألا وهي “الفوضى”. فحقيقة استراتيجية تغيير النظام هي أنها لا تعتمد على التخلص من نظام استبدادي فحسب، بل أيضًا على استبداله بنظام صديق. ويشار إلى أن اهتمام الولايات المتحدة بتشكيل حكومات صديقة في المنطقة أدّى إلى محاولات فاشلة في العراق وأفغانستان، ما أحدث حالةً من عدم الاستقرار تزدهر فيها أنشطة المجموعات الإرهابية. أمّا إذا واجه ترامب هذا القرار، فعليه أن يفهم أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل حرب أخرى في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، يجب أن تركّز الاستراتيجية الأمريكية المتكاملة، بصفتها بديل لمواجهة التحديات الإيرانية الإقليمية، على ممارسة الضغوطات الذكية من خلال العمليات العسكرية والأنشطة الاستخبارية والعقوبات الموجّهة. . كل هذا لا يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تمنح إيران حرية التصرف كما تختار. لذلك، وعوضا عن محاولة تغيير النظام، يجب أن تعمل واشنطن على الحد من مستوى الخطر الذي تشكله إيران وذلك من خلال التركيز على أهداف ضيقة مثل ردع المبادرات الإيرانية المزعزعة للاستقرار، والحد من الأنشطة الإيرانية الخبيثة واعتراض أي شحنات أسلحة ترسلها إيران إلى وكلائها.
عبداله بن داود
معهد واشنطن