مع تصاعد نذر عملية عسكرية واسعة قد يشنها نظام بشار الأسد على محافظة إدلب، بدعم من حليفيْه، إيران وروسيا، وتعهد تركيا بأنها “لن تقف موقف المتفرّج ولن تشارك في مثل هذه اللعبة”، فإن المنطقة قد تكون مقبلة على تصعيد كبير، قد يتجاوز الحدود السورية إلى حربٍ في الإقليم. تقع إدلب شمال غرب سورية، عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة. أهميتها ليست في هذا فحسب، بل ثمّة سببان آخران. الأول، أنها تمثل آخر معقل رئيسي تبقّى للمعارضة، بعد أن استعاد نظام الأسد السيطرة على معظم الأراضي السورية، بعد سبع سنوات من انطلاق الثورة، ولذلك من المستبعد أن يسلموا بسهولة. الثاني، إنها المحافظة التي تجمع شعث جُلَّ الفصائل العسكرية التي تقاتل النظام. وبالتالي، سقوط إدلب يعني أنه لم يعد لهم مأوى آخر يلجأون إليه في بلادهم. الأسباب الثلاثة، جعلت من إدلب موضوع نزاع إقليمي ودولي ثلاثيّ الأضلاع: تركيا من ناحية، وروسيا وإيران من ناحية ثانية، والولايات المتحدة من ناحية ثالثة. وفي فلك كل ضلع، ثمة قوى محلية سورية، وإقليمية، ودولية، تدور فيه.
بالنسبة لتركيا، فإن عملية عسكرية واسعة في إدلب تعني مئات آلاف من اللاجئين السوريين
“تصرّ روسيا وإيران على ضرورة خضوع المحافظة لنظام الأسد”
الذين سيطرقون أبوابها. وتستضيف تركيا نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ سوري، وهي تصرّ على أنها لن تسمح لمزيد منهم بعبور الحدود، ذلك أن طاقاتها الاستيعابية بلغت أقصى حد لها. وبسبب الكثافة السكانية في المحافظة، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من “حمام دم وكابوس إنساني لم يسبق له مثيل” في حال أنفذ نظام الأسد، وداعموه، الروسي والإيراني، وعيدهم بشن هجوم عليها. في المقابل، تصرّ روسيا وإيران على ضرورة خضوع المحافظة لنظام الأسد، وإسدال الستار على الثورة التي يعدّونها “إرهاباً”. ولم تستجب كلتا الدولتين الشريكتين لتركيا في مسار أستانة لمناشدات الأخيرة في القمة التي جمعت بين زعمائها في طهران، الأسبوع الماضي، بالبحث عن حل سياسي يجنّب المحافظة وسكانها ويلات الحرب. أما الضلع الثالث الأميركي، والقوى التي تدور في فلكه، فإنه، وكما سبق أن فعل، يطلق إدانات، كثيرة ويرفع نبرة الصوت، ويحذّر من “عواقب وخيمة”، كما فعلت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، إذا استمر القصف الجوي الذي تقوم به روسيا ونظام الأسد على المحافظة، بل وتتوعد الولايات المتحدة برد عسكري ضد قوات الأسد إذا ما استخدمت السلاح الكيميائي مرة أخرى.
المآل الذي تتجه إليه الثورة السورية هو حصاد سبع سنوات من الأخطاء التي ارتكبها الثوار السوريون، من سياسيين وعسكريين، كما هي حصاد حسابات تركية، سياسية وعسكرية، خاطئة، فضلا عن تواطؤ أميركي شائن. لم أضمّن هنا جرائم النظام السوري وجرائم حلفائه، ذلك أنه لا يتوقع منهم غير ذلك. ولم أشر إلى الموقف العربي، ذلك أنه غير قائم، وهو غير ذي شأن يُرتجى، فهو مُنْفَعِلٌ لا فاعل.
أخطأ الثوار أولاً عندما فشلوا في اجتراح مشروع وطني سوري جامع. كما أخطأوا ثانياً حين تشرذمت صفوفهم. وأخطأوا ثالثاً حين تحوّل كثيرون منهم، سواء كانوا سياسيين أو عسكريين، إلى وكلاء لأطراف خارجية، إقليمية ودولية. وأخطأ بعض منهم، رابعاً، عندما ظنّوا أن إسرائيل يمكن أن تكون ورقة يلعبونها لصالحهم مع الولايات المتحدة وضد نظام الأسد وإيران، فكان أن باعتهم إسرائيل في الجنوب والجنوب الغربي السوريين في شهر يوليو/ تموز الماضي. أما تركيا، والتي اختارت، منذ وقت مبكر من عمر الثورة السورية، أن تأخذ موقفاً معها وضد نظام الأسد، فإنها بالغت، في البدء، في اطمئنانها للموقف الأميركي المخادع، وتلكأت كثيراً قبل أن تأخذ خطوات ملموسة وفعالة لدعم الثورة، ولكن بعد فوات الأوان. ثمَّ إنها ما لبثت أن وجدت نفسها أمام معضلة استراتيجية حقيقية، عندما دخلت روسيا، القوة العالمية، المعركة مباشرة خريف عام 2015. حينها، صحت تركيا على واقعٍ جيوستراتيجي حرج، فكانت كحبة البندق بين فكيِّ الكماشة الأميركية – الروسية. الولايات المتحدة تدعم خصومها الأكراد في شمال سورية، وروسيا، تبتزّها بملف الأكراد نفسه، وتمنيّها بموازنة الكفّة مع الولايات المتحدة المتنكّرة لها باعتبارها حليفا.
إلا أن الخطأ الأكبر في حسابات تركيا الاستراتيجية في سورية، كان ركونها إلى “شريكيها”، الروسي والإيراني، في مسار أستانة لإيجاد حل سياسي للصراع السوري. وكانت كل من تركيا وروسيا وإيران توصلوا العام الماضي إلى اتفاق ينصّ على إنشاء أربع مناطق لـ”خفض التصعيد” على مستوى سورية: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. وأضيفت إليها منطقة خامسة، باتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن، لشمل مدينة درعا في جنوب سورية ضمن تلك المناطق. ولكن النظام السوري، بدعم حليفيه الروسي والإيراني، وبتواطؤ أميركي، وعجز تركي، ألغوا مناطق خفض التصعيد واحدة تلو الأخرى، كان آخرها، المنطقة الجنوبية، في يوليو/ تموز الماضي، والتي تشمل درعا، وامتداداتها في الجنوب الغربي، على الحدود مع فلسطين المحتلة. المفارقة هنا أن إسرائيل لعبت الدور الأساس في إقناع إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للقبول بعودة قوات النظام إلى تلك المنطقة، بناء على اتفاق مع روسيا يُبعد القوات والمليشيات الإيرانية عنها، فضلا عن العودة إلى العمل باتفاق فك الاشتباك لعام 1974. وفي كل مرة، كان النظام يقضم منطقة من مناطق “خفض التصعيد” الخمس، كان مقاتلو المعارضة وعائلاتهم يُنفون في الغالب إلى إدلب، وكثيراً ما قامت تركيا بدور الوسيط، وهي، من حيث تدري أو لا تدري، كانت تجمع شعث الثوار في إقليم واحد، لا ليشكلوا جبهةً متماسكةً ضد نظام الأسد وحلفائه، بل ليبادوا فيه!
أما الموقف الأميركي المشين، فبدأ منذ اليوم الأول للثورة السورية، عام 2011، عندما رفض الرئيس السابق، باراك أوباما، أن يقدّم لها دعماً فعلياً، في الوقت الذي سعى فيه، بنجاح، لمحاصرة أي دعم ذي قيمة يقدّم لها من الحلفاء الأميركيين. وعلى الرغم من أن ترامب أقدم
“الأمر الوحيد الذي يبدو مؤكداً أن إدلب لن تبقى خارج قبضة النظام طويلاً”
مرتين على قصفٍ محدود لقوات النظام السوري، بعد ثبوت استخدامه غازاتٍ سامة، في ريف حمص الشرقي العام الماضي، وفي الغوطة الشرقية هذا العام، إلا أنه أوقف برنامج تدريب الفصائل السورية المقاتلة وتسليحها، وعزّز من دعم الانفصاليين الأكراد، قبل أن يتواطأ عملياً مع الروس في توفير غطاء لتصفية المناطق السورية التي كانت خارج سيطرة النظام.
اليوم، تجعجع الولايات المتحدة كثيراً، متهمة روسيا وإيران بالاشتراك في جرائم الحرب الوحشية التي يرتكبها نظام الأسد، وهي تصدر كثير وعيد، لكن العالم كله يعلم أنه وعيد خاوٍ. وحدها تركيا تقف اليوم على أعتاب أزمةٍ حقيقية، فلديها اثنا عشر موقعا للمراقبة العسكرية داخل إدلب، وهي ترسل تعزيزاتٍ عسكرية كبيرة إليها، وتهدّد بالرد على أي هجوم يستهدف قواتها. بل إنها ترسل أسلحة وذخائر وصواريخ للفصائل السورية المقاتلة هناك، وتعمل على تشكيل “جيش وطني” من عشرات الآلاف من عناصر هذه الفصائل، وهو ما قد يضع تركيا على خط صدام عسكري خطير مع روسيا، من دون أن تحظى بتغطية عسكرية من “حلفائها” في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
لا يعني ما سبق أن صداماً عسكرياً يكون طرفاه روسيا وتركيا مباشرة حتمي، الأغلب أنها ستكون معركة بالوكالة، وقد يتوصل الطرفان إلى حلٍّ سياسي. الأمر الوحيد الذي يبدو مؤكداً أن إدلب لن تبقى خارج قبضة النظام طويلاً، ونحن قد نكون على أبواب إسدال ستارة على واحدةٍ من مراحل الثورة السورية، من دون أن يعني ذلك عدم استمرارها بسياقات وأشكال أخرى. للأسف، ذلكم هو حصاد الأخطاء في حسابات الثوار وحلفائهم، وتلكم هي نتيجة تواطؤ الأضداد والخصوم واجتماعهم على وأد ثورةٍ عادلةٍ ضد نظام وحشي مجرم.
أسامة أبو إرشيد
العربي الجديد