خلال المؤتمر الصحافي الذي عقدته وزارة الدفاع الروسية لإيضاح رواية موسكو عن تفاصيل وملابسات إسقاط الطائرة «إيل 20» الروسية في الأجواء السورية، لم تكن كبرى المفاجآت ما ذكره اللواء إيغور كوناشينكوف عن تصرفات طياري المقاتلات الإسرائيلية التي «تدل إما على عدم مهنيتهم، أو على الأقل على الاستهتار الإجرامي». كذلك لم تكن ذروة الإدهاش قد تمثلت في الشكوى من «جحود» الجانب الإسرائيلي وعدم معاملته موسكو بمستوى الحدود الدنيا من التعاون.
المفاجأة الكبرى تمثلت في كشف النقاب عن الخدمات الأمنية الحساسة التي قدمتها الاستخبارات الروسية لنظيرتها الإسرائيلية داخل الأراضي السورية وفي مناطق سيطرة «تنظيم الدولة»، الأمر الذي عنى أن موسكو كانت مستعدة لتعريض حياة عناصرها لأخطار محدقة في سبيل إنقاذ حياة العملاء الإسرائيليين. وكان ذلك التعاون الوثيق يعني أيضاً أن موسكو أخفت عن حليفها النظام السوري أنساق تعاونها مع الاستخبارات الإسرائيلية، حتى باح كوناشينكوف مؤخراً بخطوطه العريضة.
في المقابل، لم يكن سراً أن موسكو تعاونت مع دولة الاحتلال في الجولان المحتل، وثمة اليوم ستّ نقاط مراقبة للشرطة العسكرية الروسية، على نقيض من القرار الأممي حول فصل القوات والذي يحظر أي وجود عسكري في الهضبة للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. ولم يكن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية بحاجة لاستعراض أفضال أخرى قدمتها موسكو، بينها إقناع ميليشيات إيران في سوريا بإبعاد مقاتليها وأسلحتها الثقيلة مسافة 140 كم شرق الجولان.
والأهم في تلك الخدمات قد يكون التزام الجانب الروسي باتفاقياته مع الجانب الإسرائيلي حول عدم التصادم في الأجواء السورية، فلم يكتف بإخراس الرادارات عند كل عملية إسرائيلية وعدم إبلاغ النظام بها، بل أعلم الجانب الإسرائيلي 310 مرات حول عمليات روسية، مقابل 25 مرة فقط من الجانب الإسرائيلي. و«هذا رد جاحد تماماً على كل ما قامت به روسيا الاتحادية من أجل الدولة الإسرائيلية والإسرائيليين في الفترة الأخيرة»، حسب أقوال اللواء كوناشينكوف.
ولأن الرئيس الروسي يكره أن يبدو ضعيفاً أو مغلوباً في أنظار العالم، وعلى نحو خاص ضمن إطار حسن استثمار مغامرته العسكرية الراهنة في سوريا، فإن رد بوتين اتخذ وجهتين حتى الساعة. الأولى تمثلت في إصدار الأوامر إلى الجيش الروسي لإطلاق التشويش الكهرومغناطيسي الكفيل بإغلاق أجواء المتوسط المحاذية لسوريا، والوجهة الثانية كانت تفعيل صفقة تعود إلى عام 2010 وتتضمن توريد أربع منظومات صواريخ الدفاع الجوي «إس ـ 300» المتطورة متوسطة المدى. أما مراجعة التفاهمات الروسية ـ الإسرائيلية، فهي خيار باق في إطار التلميح والتلويح، لا غير.
مرجح إذن أن المقاتلات الإسرائيلية لن تتوقف عن عملياتها داخل الأراضي السورية، إذ لم يكن المتوسط هو ميدان اختراقها الوحيد وأجواء لبنان مفتوحة أمامها ومشرعة. كذلك فإن بطاريات «إس ـ 300» لن تُنشر غالباً إلا في مناطق محددة من الساحل السوري ومحيط القاعدة الروسية في حميميم. وبالتالي فإنّ الأيام المقبلة قد تثبت أن الخلاف الروسي ـ الإسرائيلي لن يتجاوز مبدأ ذرّ الرماد في العيون، على الجانبين.
القدس العربي