لندن – تتحول اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مع الوقت إلى تجمع سنوي “لتنفيس البخار” من قبل زعماء العالم حول قضايا محورية تطرح أبعادها الاستراتيجية، لكن دون الوصول إلى حلول في نهاية الاجتماع، الذي يحول مدينة نيويورك إلى مزاد دبلوماسي مفتوح.
وتعكس هذه الديناميكية عودة الأمم المتحدة إلى قواعدها الرئيسية، منذ تأسيسها في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتكون الضامن الدولي لعدم اندلاع حرب عالمية ثالثة. وهذا كل ما تقوم به المنظمة الدولية اليوم. ويقول دبلوماسيون عملوا في مجلس الأمن إن “مسار الأمم المتحدة يشبه مسار طائرة ظلت على المدرج دون أن تكون قادرة على الإقلاع، منذ تأسيسها إلى الآن”. وتحتاج الطائرة أولا إلى إصلاح كي تقلع.
لم تفض اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى حلول مجدية تنهي النزاعات المستمرة والحروب المفتوحة على أكثر من جبهة بل تحولت إلى ما يشبه مزادا دبلوماسيا مفتوحا تكون الكلمة فيه للدول الكبرى على حساب الدول الصغيرة، وانحسر دورها فقط في تقديم ضمانات بعدم نشوب حرب عالمية ثالثة، ولأن العالم بحاجة إلى مؤسسات دولية تحفظ الاستقرار الدولي، يستدعي ذلك إصلاح الأمم المتحدة، غير أن هذا الإصلاح يحتاج بدوره إلى إصلاح النظام العالمي القائم، من نظام قائم على الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، وقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في افتتاح أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، الثلاثاء، من نظام عالمي “تسوده الفوضى” وسط تهديدات بانهيار النظام العالمي المستند إلى القوانين.
عطل في مجلس الأمن
لا يمكن توقع أي إصلاح في الأمم المتحدة بشكل عام من دون إدخال تغييرات جذرية على مجلس الأمن، المؤسسة الأقوى والأكثر نفوذا على الإطلاق. وتكمن أهمية مجلس الأمن في أنه يعبر عن مصالح استراتيجية وأمنية وسياسية لدول مازالت تتحكم في النظام العالمي الذي ترسخت دعائمه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتوقيع على “نظام سان فرانسيسكو” عام 1951.
وتتحكم الدول الخمس الأعضاء الدائمين في المجلس، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، في حل النزاعات الدولية من خلال ديناميكية التوازن القائمة على النزاعات الداخلية فيما بينها. ويعني هذا أن “اختطاف” القرارات الدولية الحاسمة، التي غالبا ما تكون من اختصاص مجلس الأمن وحده، هي عملية قائمة على التوافق بين هذه الدول.
ويهمش النظام المعمول به اليوم في المجلس إلى حدّ كبير عشر دول أخرى غير دائمة، يتم انتخابها بشكل دوري كل عامين، وغالبا ما تعبر عن تكتل إقليمي، كالمجموعة العربية أو الأفريقية أو جنوب شرق آسيا أو أميركا اللاتينية.
وفي معظم الأحيان تكون مشاركة هذه الدول، التي يحق لها أيضا تولي رئاسة المجلس دوريا، غير مؤثرة إذا ما لجأت إحدى الدول الكبرى إلى حق النقض (الفيتو).
وكان الهدف الأساسي من الفيتو وقت تأسيس المنظمة الحفاظ على الأمر الواقع في النظام الدولي، عبر تجنيبه أي تغيرات جذرية، في صورة صراعات مسلحة أو تدخلات عسكرية خطرة أو مغامرة نووية. وكان يتم ذلك من خلال احتواء أي تصعيد بين القوى الكبرى في العالم عبر تفريغ هذا التصعيد من مضمونه، وعدم السماح له بالانتقال إلى مرحلة المواجهة من خلال الفيتو.
فإذا تبنت الولايات المتحدة قضية تعارض مصالح الاتحاد السوفييتي سابقا، فيسمح نظام الفيتو لموسكو بتعطيل المشروع الأميركي في أروقة مجلس الأمن، بدلا من الرد عليها بشكل أكثر تهورا. وفي هذه الحالة توافق الولايات المتحدة عن التخلي عن مشروعها في سبيل احتواء غضب الاتحاد السوفييتي. وفرض هذا النظام على واشنطن، كمثال، من أجل تمرير أي مشروع قرار أن تتوافق أولا على بنوده مع القوى الأخرى المنافسة لها. ويعرف هذا الأسلوب بـ”الدبلوماسية متعددة الأطراف”، وهي الأساس الأول الذي قامت عليه الأمم المتحدة.
لكن في سبيل سعيها للحفاظ على استقرار النظام العالمي وقعت القوى الكبرى في خطأ تجاهل مصالح الدول الأصغر. وبدلا من ذلك مُنحت بعض الصلاحيات “الاستشارية” في أغلبها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تمثل “البرلمان الدولي”، فيما يحتفظ مجلس الأمن حصرا بصلاحيات “الرئيس أو رئيس الوزراء” في أي دولة.
ويقول دبلوماسي أميركي، طلب عدم نشر اسمه، إذ مازال يعمل في الأمم المتحدة، إن “الجمعية العامة كيان خاص بالدول الصغيرة، ونحن لسنا صغارا”.
ويعكس ذلك حقيقة قصر الإصلاحات الكبرى التي تحتاجها المنظمة في يد الدول الخمس الكبار فقط، إذ لا تريد كل دولة أن تتخلى عن الفيتو، إذ أن هذه الدول جميعا، ودون استثناء، هي من تقود التدخلات العسكرية في العالم تاريخيا.
ويقترح دبلوماسيون سابقون ومسؤولون في الأمانة العامة للأمم المتحدة إعادة تشكيل مجلس الأمن عبر السماح بضم عدد أكبر من الدول لعضويته، بالإضافة إلى إصلاح نظام العضوية والتصويت.
ويشمل الاقتراح، الذي يؤيده دينيس هاليدي، مساعد الأمين العام سابقا، جعل العضوية قائمة على “التمثيل الإقليمي”، بحيث تصبح هناك دولة أو اثنتان ممثلتين عن تكتل إقليمي معين، كما يعدل نظام التصويت بطريقة أكثر ديمقراطية ويصبح قائما على مبدأ “لكل دولة صوت واحد”.
لكن هذا المقترح يحمل مخاطر عدة. فإذا ما وجدت إحدى الدول الكبرى أنها أرغمت على التخلي عن إحدى مصالحها الاستراتيجية المرتبطة بأمنها القومي، فمن الممكن أن تتجاهل نتيجة تصويت المجلس وتتدخل عسكريا لفرض رؤيتها على باقي الدول. وفي هذه الحالة لن تكون الدول “الصغيرة” التي تم ضمها حديثا للمجلس قادرة على التصدي لهذه القوة العظمى، وقد تقود المواجهة إلى اندلاع صراع عالمي مسلح.
ويطرح السفير جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، نظام التصويت في الاتحاد الأوروبي كبديل لنظام التصويت الحالي في مجلس الأمن. ويقوم التصويت في الاتحاد على نظام النقاط، بحيث تحسب قيمة الصوت بعدد النقاط وفقا لعدد سكان الدولة، ومساهمتها الاقتصادية والمالية في ميزانية الاتحاد، وحجم الناتج المحلي الإجمالي.. ومعايير أخرى.
ويحسب صوت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا بـ29 نقطة، بينما يحسب صوتا مالطا وقبرص بـ3 نقاط فقط، وصوت لوكسمبورج بـ6 نقاط، في حين يساوي صوت هولندا 18 نقطة. ويعرف هذا بنظام “ترجيح الأصوات”.
ويقول بيومي “إذا نجحنا في إقناع الدول الكبرى في مجلس الأمن على تبني نظام مماثل للتصويت، بحيث يمكنها الحصول على أصوات أعلى وتأثير أكبر من باقي الدول الأعضاء فسيمثل ذلك خطوة كبيرة باتجاه الإصلاح”.
ووفقا لهاليداي، فإن “إصلاح الأمم المتحدة لا يكون سوى من أعلى”. ويعكس ذلك تصورا عاما ظهر في تصريحات الكاتب الأميركي توماس فريدمان، الذي قال، منتقدا دور بلاده في الأمم المتحدة، “نحن نستخدم الأمم المتحدة عندما يكون الأمر في صالحنا، ونتجاهلها عندما يكون تجاهلها أيضا في صالحنا”.
إصلاح النظام العالمي
لكن إصلاح الأمم المتحدة لن يتم إلا عبر إصلاح النظام العالمي، الذي تعبر عنه أولا. وتواجه النظام العالمي اليوم تحديات مغايرة عن تلك التي كان ينظر لها كدعائم له خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ويحتاج الغرب أولا للوصول إلى صيغة توافق مع روسيا حول صراعات كبرى في أوكرانيا وروسيا إلى جانب ملفي كوريا الشمالية وأفغانستان. ويمثل صعود الصين، التي لطالما كانت القوة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة وباتت تهدد احتلالها هذه المكانة طوال 150 عاما، إحدى مسببات زعزعة استقرار النظام العالمي، التي تمثلت في اندلاع حرب تجارية غير مسبوقة بين الصين وواشنطن.
كما تخشى واشنطن أيضا من عودة أوروبا كقوة اقتصادية منافسة، إذ تضم دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة أكبر سوق استهلاك عالمية على الإطلاق. ويكمن العامل المشترك هنا في مدى قدرة الدول العظمى على التعايش مع قوى أخرى صاعدة، قد تشكل منافسة لها، سواء من النواحي العسكرية أو الاقتصادية أو التكنولوجية. ويكمن عدم الاستقرار الحالي في عدم قدرة الولايات المتحدة على استيعاب هذا التنافس باعتباره أمرا واقعا جديدا يجب أن تتكيف معه.
ويقول دبلوماسيون غربيون لـ”العرب” إن “الولايات المتحدة تشعر أن عصر الأحادية القطبية لم يكن سوى ‘لحظة أحادية قطبية’، وأنها شارفت على الانتهاء”.
ويعني ذلك تحول النظام العالمي، الذي كان قائما بشكل عام عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، على الديمقراطية والسوق المفتوحة، إلى نظام جديد، غير ثنائي القطبية هذه المرة، لكن متعدد الأقطاب. ولا تعرف الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى الأكبر في العالم، كيف تتعامل مع نظام عالمي كهذا من دون الدخول في مواجهات مسلحة، كما حدث عقب الحرب العالمية الأولى.
وتكمن المشكلة الثالثة التي يواجهها النظام العالمي في صعود كيانات “ما تحت الدولة”. وتتمثل هذه الكيانات في عصابات الاتجار بالمخدرات والميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية. ويفرض ذلك على الدول الكبرى تغيير خططها بحيث تكون أكثر مرونة وقدرة على ملء الفراغ الناجم عن تحول هذه الكيانات الجديدة نسبيا إلى كيانات أقوى من بعض الدول. ويظهر ذلك بوضوح في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان وكولومبيا وأفريقيا الوسطى ومالي وغيرها.
وعلى ما يبدو فإن العالم بات في حاجة إلى المؤسسات الدولية التي تحافظ على استقرار النظام العالمي أكثر من أي وقت مضى، لكن المشكلة هي أن هذه المؤسسات باتت أضعف من أي وقت مضى.
فمنظمة التجارة العالمية مازالت غير قادرة على وضع قواعد للتجارة تتناسب مع الظروف والعوامل واتفاقات تجارية حديثة وصعود كتل جديدة، رغم محاولاتها المستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن. كما يبدو صندوق النقد الدولي عاجزا عن تخطى مرحلة الأزمة الاقتصادية العالمية، التي اندلعت عام 2008، ومنذ ذلك الحين يبدو كل عام أضعف من العام الذي مضى، ويمنح صلاحياته تدريجيا إلى مجموعة العشرين الكبار، التي باتت تتحول مع الوقت إلى جسم متحكم في النظام المالي والاقتصادي العالمي، بطريقة لا تقوم على التعددية في صنع السياسات.
من المشاكل التي يواجهها النظام العالمي صعود كيانات “ما تحت الدولة”. وتتمثل هذه الكيانات في عصابات الاتجار بالمخدرات والميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية. ويفرض ذلك على الدول الكبرى تغيير خططها بحيث تكون أكثر مرونة وقدرة على ملء الفراغ الناجم عن تحول هذه الكيانات الجديدة نسبيا إلى كيانات أقوى من بعض الدول
وتكمن مشكلة الولايات المتحدة في أنها منقسمة من الداخل. ففي وقت تسعى فيه المؤسسات التقليدية إلى الحفاظ على نفوذ واشنطن المهيمن على النظام العالمي، تتسبب إدارة ترامب كل يوم في تقليص هذا النفوذ، وترك فراغات، خصوصا داخل أروقة المؤسسات الدولة وعلى رأسها الأمم المتحدة، لقوى أخرى منافسة كروسيا والصين.
ويقول كيفين رود، رئيس وزراء أستراليا الأسبق، “إننا بتنا نتعامل مع الأمم المتحدة كأمر مسلم به، وننظر إليها باعتبارها قطعة مريحة من الأثاث العالمي، إذ يظل مجرد وجود الأمم المتحدة مبعثا على الاطمئنان، دون إدراك حقيقة تاريخية تقول إنه لا شيء يظل كما هو للأبد”.
وأضاف “هذا يعتمد على قدرة المؤسسات الدولية على التحمل والبقاء، بالنظر إلى أن هذه المؤسسات في أغلبها حديثة نسبيا، ولا تملك خبرة التعامل مع كل هذه الأزمات التي يواجهها العالم اليوم”.
ومن غير المتوقع أن تأخذ الدول الكبرى المتحكمة في الأمم المتحدة زمام المبادرة من أجل إصلاحها من تلقاء نفسها، رغم بعض التغيرات في موازين القوى في العالم، كصعود ألمانيا كقوة اقتصادية عظمى تهيمن على أوروبا، وتحول الهند إلى ركيزة أساسية في استقرار آسيا.
ويقول محللون إنه “من غير الواقعي تخيل تجار الأسلحة يسعون إلى وقف الصراعات، والتكتلات العسكرية تسعى إلى استتباب السلم في العالم”.
ويكمن الأمل في نضج نظام عالمي قائم على التعددية القطبية. وبدأت بوادر هذا النظام في الظهور على هامش النزاعات التي تصاعدت بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين حول الاتفاق النووي مع إيران، وفرض رسوم جمركية على واردات الاتحاد الأوروبي من الصلب والألومينيوم للسوق الأميركية، إلى جانب عدم ثقة الأوروبيين في رؤية إدارة ترامب لمستقبل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعلاقة الإدارة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتبني هذه الخلافات تطلعات الاتحاد الأوروبي كي يصبح قوة عالمية مستقلة عن الهيمنة الأميركية، كما دعا رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك في وقت سابق من الشهر الجاري. لكن من غير المتوقع أن يحدث ذلك في المستقبل القريب. وفي هذه الأثناء ستظل الأمم المتحدة جالسة على مقعد متحرك بانتظار الإصلاح.
العرب