صدر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أحد الكتب المهمة الصادرة في عام 2014، التي تقدم تحليلا لظاهرة الإسلام السياسي وحركاته، ولقيمة هذا الكتاب، فقد أعيد طبعه في نفس العام، ونظرًا لأهمية الموضوع، والناشر والمؤلفين، سوف نحاول احاطة القارئ علما بهذا الكتاب، في مقالين، نطرح فيهما عرضا لأبحاث الكتاب الستة، مصحوبا بتقديم رؤية نقدية لأهم القضايا والمنطلقات الفكرية التي يثيرها كل بحث من هذا الأبحاث.
أولا: المشاركون في تحرير وتأليف الكتاب
الكتاب قام بتحريره باحثان مقدران من مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، هما د. جمال السويدي، مدير المركز، د. أحمد الصفتي، مدير إدارة الدراسات الاقتصادية بالمركز. وشارك في تأليف فصول الكتاب الستة، نخبة من الباحثين ذوي الخلفيات والتخصصات المتنوعة هم : د. عبد اللـه سهر، د.محمد سعدي، د.عبد الحق عزوزي، د.جيونغمين سيو، د.محمد الحداد، د.بهجت قرني.
أن انحدار القوة الأمريكية وانكماشها إلى الداخل على حساب تعهداتها بضمان استقرار العالم كدولة مهيمنة، وما يسببه ذلك من نشاط سياسي في مناطق الفراغ التي ستتركها
ثانيا: عرض نقدي للكتاب
ما يلفت انتباه القارئ منذ البداية، هو الارتفاع الملحوظ في كثافة القراءة المستخدمة في تأليف الكتاب، ويتضح ذلك من المساحة الكبيرة التي خصصت للهوامش والمراجع (74 صفحة من 435 صفحة) أي نحو 17% من المساحة الكلية للكتاب. وهو ما يشي بسعة اطلاع الباحثين على التراث وثيق الصلة بموضوعات الكتاب، وتوقع بأن تكون مادة الكتاب متجاوزة لهذا التراث، سمة الأعمال العلمية التراكمية. ونلفت نظر القارئ إلى أننا سوف نتنقل بين الفصول، بالعرض والتحليل النقدي، مستخدمين نفس عناوين الفصول وبترتيبها كما وردت في الكتاب.
(1) صعود التيارات الإسلامية في ضوء معادلات الهيمنة وتوازن القوى الإقليمي
يقسم عبد اللـه سهر، هذا الفصل (ص27- 54) إلى ثلاثة أقسام وخاتمة، حيث يقدم في الأقسام الثلاثة، جهدًا نظريًا يستند إلى أسس ومنطلقات النظرية البنيوية في تفسير التغيير السياسي الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط، ثم يقدم محاولة لتطوير تفسير علمي لظاهرة “الربيع العربي” تجمع بين المنظور الكلي والمنظور الجزئي. وفي القسم الثالث يستعرض نماذج الصراع والهيمنة في المنطقة العربية وثيقة الصلة بحركات الإسلام السياسي. وفي خاتمة الفصل، وبالاستفادة من الجهد النظري المطروح، يحاول الباحث طرح بعض السيناريوهات المستقبلية المحتملة ذات الصلة باستشراف آفاق المستقبل التي يمكن أن يتمخض عنها الربيع العربي.
يذهب الباحث إلى أن الربيع العربي، يمثل ظاهرة عبر قومية، تميزت بثلاث خصائص مشتركة هي:(1) التماثل: من حيث المقدمات والنتائج دون نفي وجود بعض أوجه الاختلاف والتباين. (2) التزامن: بمعنى أن أحداث الربيع العربي قد تزاحمت تواريخها في إطار زمني محدود جدًا، فهل كان هذا التزامن عفويا، أم نتاج تدبير. (3) الفجائية: بمعنى السرعة في تواتر الأحداث، وارتفاع سقف المطالب، والقدرة في النهاية على الإطاحة بحكام راسخين ظلوا في سدة الحكم عقودا. ويستقر الباحث على اختيار النظرية الواقعية الجديدة بحلتها البنيوية، كأداة لفهم الظاهرة، مستعرضا الأفكار الرئيسية للنظرية كما طورها كينيث والتز K. Waltz، كما استعرض الباحث، مقولات عدد آخر من أتباع الواقعية الجديدة، التي اهتمت بالتنظير للنظام العالمي متعدد القطبية.
وينتهي الباحث من هذه المراجعة النظرية الوافية إلى “أن انحدار القوة الأمريكية وانكماشها إلى الداخل على حساب تعهداتها بضمان استقرار العالم كدولة مهيمنة، وما يسببه ذلك من نشاط سياسي في مناطق الفراغ التي ستتركها، سيجعل هذه المناطق (الشرق الأوسط نموذجا) بؤرًا لتحولات لن تخلو من تدخلات خارجية، علاوة على أنشطة الكيانات السياسية المحلية التي ستنشط هي الأخرى في زمن التحول مستغلة ضعف الكيانات والمؤسسات الرسمية للدول، وبالنظر إلى التحولات الدولية المستجدة، ومن أبرزها استفحال قوة المنظمات غير الحكومية واتشارها، وبوجه خاص المنظمات الاقتصادية، والتكوينات الإثنية والدينية، وقدرتها على تخطي الحدود الاقليمية، والنفاذ إلى الدول، واختراق مفهوم السيادة التقليدي، بفعل أدوات الاتصال والتواصل الحديثة، فقد نشأ واقع دولي إقليمي جديد أفرز مخرجات جديدة” (ص38).
غير أن هناك مشكلات تمنع من الارتكان الكامل للنظرية الواقعية الجديدة، لم يوضحها الباحث. فهذه النظرية على سبيل المثال، تعجز عن رؤية أسباب التغيير المحلية، أو بالأحرى تعتبرها أحد مظاهر بنية العلاقات الدولية في لحظة مكانية وزمانية محددة. وهي نظرة رغم صحتها الجزئية، فإن تلك التحولات المحلية، تمثل في أحيان كثيرة حركة مناهضة بصورة أو بأخرى لهيمنة النظام العالمي ووكلائه المحليين في تلك اللحظة. وبالتالي فإن الحركة الجماهيرية في بلدان الربيع العربي لا يمكن اعتبارها حركة انفعال بالتغيير في بنية النظام العالمي والعلاقات الدولية فقط، وإنما هي حركات فاعلة للتخلص من الاستبداد والفساد وقمع الحريات التي تعاني منه تلك البلدان، وأحيانا تكون حركة رافضة للمخططات الجديدة في المنطقة، كما فعلت مصر في 30 يونيه 2013.
في القسم الثاني من الفصل، حاول الباحث تفسير الظاهرة بالجمع بين المنظور البنيوي والمنظور الجزئي، مركزا على تناول الأحداث التاريخية المفصلية التي مرت على الشرق الأوسط، منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، مرورا بالحرب الإيرانية العراقية، ثم غزو العراق للكويت، ومحاولة تركيب هذه الأحداث وفقا للنظرية الواقعية الجديدة. ثم تناول بالتحليل أثر ودور الشباب في تحريك ثورات الربيع العربي، ساعدهم في ذلك، من وجهة نظر الباحث، أن غالبيتهم عاطلون عن العمل، “بعيدين عن المشاركة الفعلية في المؤسسات الرسمية المعنية بصناعة القرار، ما يجعلهم في حالة قابلة للاستقطاب السياسي الناقم على الأوضاع القائمة (ص41). ثم تناول الباحث الظاهرة “التكنوشبابية” والتفاعل السياسي غير المسبوق الذي شهدته بلدان الربيع العربي، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي بكل أنواعها. ذلك التفاعل الذي تم بمنأى عن الصالونات والأحزاب كما كان يحدث في العصور الماضية.
في القسم الثالث من الفصل، تحت عنوان: ما يسمى “الربيع العربي” ونماذج الصراع والهيمنة في المنطقة العربية، ينطلق الباحث من فكرة صراع النماذج الإسلامية الرسمية، (الإسلام السعودي التقليدي، الإسلام الأزهري المعاصر، الإسلام الإيراني الثوري)، ويرى أنه مع “تصاعد وتيرة الصراع بين النموذجين، الثوري والتقليدي، وانعكاساته على المستوى غير الرسمي أو الشعبي، برز بشكل غير مسبوق عدد كبير من التيارات الأكثر استقلالية عن الحكومات – كما يرى – أن التغيرات البنيوية التي طرأت على المنظومة العالمية، متزامنة مع صعود الإسلام الشعبي، أدت إلى دخول لاعبين جدد ضمن رقعة القوة والمصالح (ص48).
أن الحكومات العربية عليها التعامل بقدر من المسئولية مع “جماهيرها الذكية” وخاصة الجيل الجديد الذي “وُلد خارج رحم المعادلات التي تعرفها تلك الحكومات
والحقيقة أنه من الصعب الاعتماد على النظرية البنيوية إلى نهاية المطاف، كما يذهب الباحث، لأن هذه النظرية لا تساعد كثيرا على فهم وتفسير كامل لنشأة الجماعات الإسلامية الثورية والتقليدية والحداثية، فالصراع المباشر والخفي في بعض الدول العربية، هو بالتأكيد صراع طائفي (سني- شيعي) وليس معركة بين الإسلام التقليدي والثوري. كما أن الأمر لا يمكن اختزاله في الصراع بين النماذج الإسلامية فقط، وإغفال الأبعاد التاريخية، كالصراع التاريخي المستمر بين القوى العلمانية والقوى الدينية، منذ سقوط الخلافة العثمانية، كما لا يمكن إغفال الصراع بين النظم الحاكمة وبين الجماعات الراديكالية التي ترفع شعار إقامة الدولة الإسلامية، وتريد فرض ارادتها بالقوة ونفي الآخر. وأخيرًا لا يمكن اغفال حقيقة توظيف القوى الكبرى والإقليمية لبعض من هذه الجماعات في تحقيق مآربها ضمن صراع القوى في العالم، كما حدث من توظيف جماعة الإخوان في ضرب النظام الناصري في مصر، أو كما حدث من توظيف التنظيمات السلفية الجهادية في حرب أفغانستان.
وقد أجاد الباحث في هذا القسم تفسير تصدر حركات الإسلام السياسي المشهد الثوري على حساب قطاع الشباب المحرك لهذه الثورات، وكيف استفادت القوى السلفية من الثورة في التحول بمساعدة جماعة الإخوان المسلمين الى جماعات سياسية، وكيف نجحت قوى الإسلام السياسي في الفوز بالاستحقاقات الانتخابية في مختلف بلدان الربيع العربي.
وانتهى الباحث في خاتمة بحثه إلى تقديم العديد من التوصيات المهمة، فالنظام العالمي متعدد الأقطاب قيد التشكل، ولن تحترم القوى الكبرى علاقاتها التقليدية مع بلدان المنطقة، ما لم تغير هذه الدول من نفسها. كما أن الحكومات العربية عليها التعامل بقدر من المسئولية مع “جماهيرها الذكية” وخاصة الجيل الجديد الذي “وُلد خارج رحم المعادلات التي تعرفها تلك الحكومات، وبعيدًا عن ميادين الحروب التي اعتادتها” (ص53). وأخيرًا يذهب الكاتب إلى أن قدرة الدول الرئيسية في المنطقة (السعودية، إيران، مصر) على التفاهم والتعاون من الممكن أن يُعَجل باستقرار المنطقة على المدى المتوسط، ولأن هذا الاحتمال ضعيف، وهو محق في ذلك، فإن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو استمرار حالة الصراع الإقليمي بأشكال مختلفة.
(2) الحركات السياسية الإسلامية – تحديات السلطة وتحولات الخطاب
يحاول محمد سعدي في هذا الفصل (ص 55-172) الاجابة على حزمة من الأسئلة المحورية، منطلقا من ست فرضيات، يتم اخضاعها للفحص والاختبار في ثنايا الفصل، يمكن تلخيصها فيما يلي: أن الربيع العربي وفر للحركات السياسية الإسلامية فرصة العمل السياسي الشرعي، الذي يوجب تبني نهجا من الواقعية والبراجماتية، وتقديم توافقات وتنازلات، كما أنه كلما تزايد دخول هذه الحركات معترك السياسة، فإنها ستفقد تمايزها الأيديولوجي، ويتسع مجال انتقالها من منطق الدعوة إلى منطق الدولة، ما يستلزم من هذه الحركات القيام بثورة نقدية وفكرية لمراجعة تراثها، وفقا لضرورات الواقع وشروط الحداثة السياسية. إنه كلما زادت درجة انفتاح هذه الحركات على المجال السياسي والديمقراطي، كلما أدى ذلك إلى مزيد من تنوعها وانقسامها، وزيادة حدة الصراع بين الأجيال داخل هذه الحركات. وأخيرا فإن الباحث يفترض أن هذه الحركات سوف تدخل مرحلة ارتباك بسبب ضيق أفقها السياسي وعدم جاهزيتها الفكرية والتنظيمية، ما يجعل أداءها عرضة للنقد السريع من المجتمعات العربية التي تبرز فيها هذه الحركات، وأفولها على المدى المتوسط، دون أن يعني ذلك أفولها التام كحركات اجتماعية وسياسية.
يرصد الباحث في القسم الأول من الفصل مواقف الحركات السياسية الإسلامية، في كل من مصر وتونس والمغرب من الربيع العربي، متفقا مع غالبية الكتابات وثيقة الضلة، التي اتفقت على ان الحراك الاجتماعي والسياسي في الربيع العربي جاء نتيجة لفعل جماهيري وجماعي تبلور بعيدا عن الأطر التنظيمية والأيديولوجية والوسائط السياسية التقليدية، مبرزًا حقيقة دور الشباب ووسائل التواصل الاجتماعي في اندلاع الحراك العربي من خلال تنسيق الاحتجاجات وتأطيرها. لافتا الانتباه إلى أن هذه الحقائق، تشير إلى تراجع الخطاب الديني كمصدر إلهام للفعل السياسي. بدليل أن الحركات الإسلامية التي التحقت متأخرة بهذا الحراك، اضطرت الى الخضوع والالتزام بالشعارات والمطالب التي رفعتها القوى الشبابية التي أشعلت الثورة. ويستعرض الباحث تفاصيل الأحداث في البلدان الثلاثة، منتهيا إلى أن سلوك الحركات الإسلامية كان متشابها إلى حد كبير، يتسم بالمراوغة والحذر والدهاء، غير أن سلوك النظم الحاكمة لم يكن كذلك، فعلى عكس مصر وتونس، “نجح النظام السياسي المغربي، معتمدا على حسه الاستباقي، في احتواء الاحتجاجات الشبابية والمطالب الشعبية عبر اعتماد اصلاحات مهمة، الأمر الذي مكنه من تطويق الحراك الشعبي من ناحية، وسحب البساط من تحت أقدام حركة 20 فبراير وجماعة العدل والإحسان من ناحية أخرى (ص74).
أن الحركات الإسلامية التي التحقت متأخرة بالحراك الثوري، اضطرت الى الخضوع والالتزام بالشعارات والمطالب التي رفعتها القوى الشبابية التي أشعلت الثورة.
في القسم الثاني من الفصل، يقدم سعدي تفسيرا للصعود السياسي للحركات السياسية الإسلامية في البلدان الثلاثة المذكورة، ويصف صعود حزب النهضة في تونس بالعودة القوية، بينما جاء صعود حزب العرية والعدالة المصري اكتساحًا غير مدروس، أما حزب العدالة والتنمية المغربي فكان صعوده هادئا. ويذكر ثمانية عوامل متضافرة أدت إلى هذا الصعود: أن هذه الحركات كانت موجودة بالفعل في الشارع السياسي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وخبرت العمل تحت الضغط، وجاء الحراك الشعبي ليطلق ملكات التنظيم والحركة دون ضغوط. أن خبرة الحركات التنظيمية السرية والعلنية أفادها في التجربة السياسية بعد اندلاع الأحداث، فظهرت الكيانات الحزبية الإسلامية مكتملة في فترات وجيزة، وهي الميزة التي لم تتوافر لبقية الأحزاب المدنية. أن هذه الحركات بتجنبها رفع الشعارات الدينية – كرها أو طواعية – في بداية الثورة، مع استمرارها في أداء دور متميز في تقديم الخدمات المعيشية والمساعدات، أكسب هذه الحركات مقبولية عالية في الشارع، وبين أوساط الفقراء والمهمشين. بعد تمكن الحركات من الشارع، بدأت في استغلال الخطاب الديني وتأجيج المشاعر الدينية المتجذرة في وجدان المجتمع. استرجعت كل الحركات السياسية في البلدان المذكورة، تراث المظلومية وتاريخه، والتسويق لفكرة انفرادهم دون غيرهم بتحمل ظلم وقهم النظم الحاكمة، ويرتبط بالعامل السابق الترويج لفكرة “الطهرانية السياسية” على معنى حض الناخبين على التصويت لمصلحة الأحزاب السياسية الإسلامية التي لم تختبر، بدلا من التصويت للأحزاب الاشتراكية أو القومية أو الليبرالية التي خاضت تجارب فاشلة. ويلفت السعدي الانتباه إلى عامل مهم، وهو أن بروز الحركات الإسلامية السياسية لم يكن نتيجة قوتهم التنظيمية فقط، وإنما نتيجة ضعف خصومهم السياسيين.(ص81)
ينتقل سعدي في القسم الثالث، إلى تحليل وتقييم تجربة الحكم وتحديات السلطة، أو ما يسميه المحنة الجديدة. وقد اشتمل التحليل على المداخل السياسية، الفكرية والدينية، الاقتصادية، والحقوقية، كاشفًا عن التحديات التي واجهت هذه الحركات خلال تجربة الحكم، لافتا الانتباه إلى الأخطاء التي تورطت فيها، فعلى المستوى السياسي، لم تلتزم هذه الحركات بالديمقراطية كفلسفة وقيم، وتعاملت معها بأسلوب تكتيكي، كما أنها لم تتوقف عن استغلال الدين في السياسة. وفيما يتعلق بالمدخل الفكري الديني، يرى الباحث أن هذه الحركات لم تقدم ما يشير إلى عزمها على تجديد الفكر السياسي الاسلامي، بما يتفق مع مستجدات العصر، وافتقدت هذه الحركات إلى مؤسسات للبحث والتفكير تعالج القضايا الشائكة بين الدين والدولة، والقضايا ذات الصلة بمفاهيم وممارسات الحرية والتعددية والاختلاف وغيرها. وعلى الصعيد الاقتصادي، يذهب سعدي إلى أن أحزاب النهضة، والحرية والعدالة، والعدالة والتنمية، لا تمتلك خططًا اقتصادية شاملة ومتكاملة يمكنها إحداث الإصلاح الاقتصادي والتنمية الاجتماعية المرغوب فيها. وبالنسبة للمدخل الحقوقي، يرى الباحث أن تجربة الحكم أثبتت أن هذه الحركات – باستثناء حزب النهضة – لا تتحمس للحركية الفكرية والدينية، وما زالت مترددة على مستوى تعزيز حقوق المرأة ودورها في الحياة العامة، وكذلك على مستوى التعاطي مع الحقوق المرتبطة بالتعدد اللغوي والثقافي والديني. ويبدو أن هذه الحركات بعد انتقالها من المعارضة إلى السلطة، سقطت في هوة الارتباك، وحدث انفصام بين شعاراتها وخطاباتها من جهة ورؤاها وسياستها العملية من جهة أخرى، وهو ما يعكس ضعف الخبرة السياسية، ويستشهد بحزب الحرية والعدالة الذي عجز على مدى عام كامل عن قيادة الدولة وإدارتها بكفاءة وفاعلية (ص104).
ويلفت سعدي الانتباه إلى أكثر المعوقات التي واجهت هذه الحركات في تجربتها، وهي الثنائية التنظيمية بين الحركة والجماعة والحزب التابع لها، ولم تفطن قيادات هذه الحركات إلى أن الفضاء العام يخضع لدوافع دنيوية محضة وثيقة الصلة بقدرتها على تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية بصرف النظر عن مرجعياتها العقيدية والفكرية. غير أن هذه الحركات أصرت، ربما خوفا من أن تفقد شعبيتها بين المتدينين، على تفعيل الخطاب المثالي جنبا إلى جنب خطاب واقعي بدا أنه يتسم بالضعف الشديد وقلة الخبرة. وفي المقابل فإن القوى المدنية في بلدان الربيع العربي باتت تشعر، بأن هذه الحركات تختزل الصراع السياسي في صراع حول الدين والهوية.(ص107).
أن تجربة الحكم، أظهرت حصيلة متواضعة في كل من تونس والمغرب، ومخيبة للآمال في مصر
وبالنسبة للعلاقة بين الدين والدولة، وفكرة الخلافة وتطبيق الشريعة، يذهب سعدي إلى أن الحركات السياسية الإسلامية، انقسمت إلى ثلاثة تيارات رئيسية، تيار انغلاقي شمولي، يؤمن إيمانا راسخا بفكرة الحاكمية الإلهية، وتطبيق الشريعة، وثنائية دار الإسلام ودار الكفر. تيار مؤيد للدولة المدنية، شرط أن تكون ذات مرجعية إسلامية. تيار مقاصدي وبراجماتي، يؤكد بوضوح تأييده للدولة المدنية وفق قاعدة “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة”. ويرى أن الحرية والعدالة في مصر، ينتمي للتيار المؤيد للدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، بينما اتجه حزبي النهضة والعدالة والتنمية إلى تبني الطرح المقاصدي البراجماتي.
وفي القسم الرابع، يحلل سعدي تجربة الحكم، من منطلق رؤية وممارسة هذه الحركات لفقه الخلاف مقابل فقه الائتلاف. ويذهب إلى أن الحرية والعدالة في مصر، فشلت فشلا ذريعا في التحول من فقه الخلاف إلى فقه الائتلاف، ويرى – محقا- أن الإخوان المسلمين قبلوا الائتلاف مع التيار الانغلاقي الشمولي، أي التيارات السلفية، وتلكؤوا في الاستجابة لمطالب الحوار الوطني الحقيقي والجاد مع بقية القوى الوطنية، الأمر الذي عجل بسقوطهم. في حين مارس حزب النهضة تجربة نوعية في الحكم، تقوم على فكرة اقتسام السلطة، والمشاركة في الحكم مع قوى سياسية أخرى، وموقفها المعارض – شبه الصريح- للتيار الانغلاقي الشمولي. أما بالنسبة للعدالة والتنمية في المغرب، فقد نجح في تقديم ممارسة سياسية هادئة وواضحة، وخطاب سياسي متزن وحداثي. ويذهب الباحث في نهاية هذا القسم إلى أن كل الحركات الإسلامية، تحتاج إلى الإيمان بثقافة التنافس لا ثقافة الاحتراب والاستعداء، عن طريق فتح حوارات فكرية وفلسفية ونظرية هادفة حول الطابع المدني للدولة في المجتمعات الإسلامية، والتوفيق بين متطلبات الحداثة والمرجعيات الدينية، والتفاعل مع تجارب الحكم في الديمقراطيات الحديثة.(ص144).
وفي القسم الخامس والأخير من هذا الفصل الطويل والممتع، يناقش الباحث مآل الحركات الإسلامية بعد الانتصار، وهل هي بداية الأفول؟ ويذهب إلى أن التقدم الكبير الذي حققته التيارات السياسية الإسلامية، صاحبه تراجعات عميقة، فخطابها يتآكل على مستوى هويته ومرجعياته التأسيسية، ويفقد جاذبيته بسبب تناقضاته المتعددة، وعجزه عن تجديد آلياته الفكرية والدينية، وعن النفاذ إلى قضايا الناس وهمومهم الحياتية. ويرى أن تجربة الحكم، أظهرت حصيلة متواضعة في كل من تونس والمغرب، ومخيبة للآمال في مصر، فالإسلاميون لم يستطيعوا بعد بلورة مشروع للدولة والمجتمع يتوافق مع التحديات الراهنة، سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. ويذهب الباحث إلى أن الحركات الإسلامية، إذا أرادت البقاء، فعليها أن تخضع لمزيد من العلمنة عبر تحييد الفضاء السياسي عن الدين، والاشتغال بالسياسة، وبلورة البرامج الاقتصادية والاجتماعية، واستخدام الفضاءات التي توفرها الآليات الانتخابية والمؤسسات السياسية، ويرى سعدي أن هذا التوجه يحتاج إلى بروز جيل جديد من الإسلاميين يؤسس لحقبة تاريخية جديدة في مسار تطور التنظيمات الإسلامية عبر الاعتراف بالتعددية، واختلاف التفسيرات، وممارسة التجديد، والقبول بالحلول الوسط بعيدا عن منطق الغلبة والإقصاء.(ص157).
يذهب الباحث في نهاية القسم، إلى أن الواقع ينبئ عن ظهور كيانات سياسية إسلامية جديدة، ونهاية أسطورة جماعة الإخوان المسلمين، بسبب عدم قدرة هذه الجماعة على التكيف مع متغيرات الواقع، وإصرارها على النهج المحافظ، ومنع أي تطور داخلي. وأن هيمنة التيار المتشدد على قيادة هذه الجماعة، حرمها في لحظة الوصول إلى الحكم من المرونة السياسية. ويرى أن ثمة كيانات سياسية إسلامية جديدة تلوح في الأفق، متخذة من نهج العدالة والتنمية في تركيا، نموذجا يقاس عليه ويحتذى به. لافتا الانتباه في ذات الوقت إلى أن كل الحركات السياسية الاسلامية ستواجه في الفترة القادمة تحديات جيليه ونوعية، على معنى الصراع بين جيل الشباب وجيل الشيوخ المهيمن على هذه الحركات، والصراع داخل هذه الحركات حول مسألة تمكين المرأة. وينهي سعدي الفصل بثماني خلاصات مهمة توجز ما عرضناه بعاليه.
الفصل بصفة عامة، يحتوي أفكارًا مهمة، وقد امتلك الباحث ناصية التحليل المقارن، وطوعه بكفاءة، ويؤخذ عليه، زيادة مساحة الفصل نسبيًا، وكان من الممكن الاستغناء عن قسمه الأول، الذي حوى أفكارًا لا خلاف عليها، حول علاقة حركات الإسلام السياسي بثورات الربيع العربي، كما يؤخذ على الباحث، أنه امتنع عن تناول العوامل الخارجية المؤثرة بقوة في الأحداث، ولم يتطرق إلى الدعم الذي تلقته معظم الحركات الإسلامية من خارج أقطارها، والذي تنوع بين مساندة إعلامية فاعلة، ودعم لوجستي، وتمويل وإمداد، أسهمت جميعا في تثبت الكيانات السياسية الإسلامية على الأرض مقارنة بالعجز الذي طال بقية الكيانات المدنية، والتهميش والاستبعاد الذي طال القطاعات الشبابية في بلدان الربيع العربي.
د. أحمد موسى بدوي
المركز العربي للبحوث والدراسات