مع فشلنا في بناء دولنا الوطنية والحفاظ على استقلالنا، يعود التنافس الأجنبي على بلادنا كما لو أن الزمن توقف بنا عشيّة الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية، وتقاسم الدول الأوروبية تركتها. من جملة المتنافسين دول استعمارية رحلت، وما ظنناها تعود يوماً (مثل فرنسا التي تبحث لها عن موطئ قدم جديد في كعكة المصالح في سورية وليبيا)، ودول مقيمة عندنا لا نسمح لها أن تبرح، حتى لو أرادت ذلك (أميركا)، وأخرى، حضرت بقوةٍ في تاريخنا خلال فترة الحرب الباردة، لكنها عادت إلينا بعد غياب، تستخدمنا تارّة ساحة رمي لاختبار أسلحتها وترويجها، وتارة أخرى تستخدمنا سلّما للصعود مجدّدا إلى موقع القوة العالمية التي خسرتها مع نهاية الحرب الباردة (روسيا). وإذا تجاوزنا الحديث عن التنافس التاريخي التركي – الإيراني على المنطقة العربية، يلفت انتباهنا وافدٌ جديدٌ يبدي اهتماما ملحوظا بنا، وهو ألمانيا التي لا يكاد يشعر أحد بها وهي تدنو منا على غير صعيد.
مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أبدت ألمانيا اهتماما بالمنطقة العربية من بوابة التنافس والصراع مع نظيراتها الأوروبيات، لكن دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانب الدولة العثمانية وخسارتها لها أخرجها كليا من دائرة المنافسة. مع ذلك، احتفظت ألمانيا بعلاقات قوية مع دول الإقليم غير العربية، خصوصا تركيا وإيران. واقتربت بعد الحرب العالمية الثانية بشدّة من إسرائيل التي درجت بدورها على ابتزازها من بوابة “المحرقة”. وقد أثر ذلك كله على العلاقات العربية – الألمانية التي وصلت إلى درجة القطيعة عام 1965، عندما اعترفت ألمانيا الغربية بإسرائيل، وتحوّلت إلى مورّد سلاح رئيس إليها، وقد ردّت بعض الدول العربية، في مقدّمتها مصر، بالاعتراف بجمهورية ألمانيا الشرقية. ولم يبد العرب اهتمامًا بألمانيا إلا لمامًا في فترة الحرب العالمية الثانية، على أمل التخلص من الهيمنة البريطانية، وقد انقسموا بعدها، كما ألمانيا، في تبعيتهم بين موسكو وواشنطن. يوشك هذا الأمر أن يتغير مع تنامي الاهتمام الألماني بالمنطقة العربية، لأسباب عديدة، منها:
باتت ألمانيا تحتضن اليوم جالية عربية كبيرة، تعد الثانية في حجمها بعد الجالية التركية. إذ استقبلت ألمانيا خلال السنوات الخمس الماضية نحو 800 ألف لاجئ سوري، انضموا إلى نحو نصف مليون عربي يقيمون فيها أصلاً. هذا يعني أن عدد العرب تضاعف في ألمانيا أكثر من مرة خلال أقل من عقد، ما أحدث طفرةً جعلت الحضور العربي جليا في السياسة الداخلية الألمانية، ومادةً لنقاش كبير في الفضاء العام، وعاملاً مؤثرا في صعود تيارات يمينية، قومية وشعبوية، لكنه أدى، في المقابل، إلى استنفار التيارات السياسية الليبرالية في مواجهتها. كما بات الحضور العربي الكبير في ألمانيا عاملا مؤثّرا في سياساتها الخارجية أيضاً. وقد غدت ألمانيا لهذا السبب، ولأسباب أمنية مرتبطة بقضايا اللجوء والإرهاب، حاضرةً بقوة في الشأن السوري، ومن خلاله في شؤون المنطقة الأخرى. وتبدي اهتماما متزايدا بقضايا الحل السياسي في سورية، وتطمح إلى دور في إعادة الإعمار فيها من خلال ترؤسها لجنة التنمية والإعمار المنبثقة عن مجموعة “أصدقاء” الشعب السوري. وقد انضمت ألمانيا أخيرا إلى مجموعة العمل المصغرة بشأن سورية: الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، السعودية، مصر، الأردن. وتشارك ألمانيا اليوم في أغلب المشاورات الدولية بشأن سورية التي باتت تتصدّر جدول أعمال القمم الدورية الروسية – الألمانية، وتمثل بوابة الانفتاح الألماني المستجدّ على تركيا.
ومع تحوّلها إلى قضية داخلية، لا يبدو الاهتمام الألماني المتزايد بشؤون المنطقة محصوراً بالقضية السورية، بل أخذ يرتبط أيضًا بالتحوّلات الكبرى الجارية في النظام الدولي وموقع ألمانيا ومصالحها الكبرى فيه، خصوصا المتصلة بالعلاقة مع روسيا والولايات المتحدة، ذلك أن التوتر في العلاقات مع واشنطن تجاريا، والقلق من الابتزاز الروسي طاقويًا، خصوصا بعد أزمة أوكرانيا عام 2014، يدفع ألمانيا إلى البحث عن أسواق جديدة، وتنويع مصادر طاقتها، فألمانيا مهدّدة، من جهة، بفقدان أسواقها في الولايات المتحدة التي تجاوزت قيمة صادراتها إليها العام الماضي 118 مليار دولار، بسبب سياسات الرئيس دونالد ترامب الحمائية. وتخشى، من جهةٍ ثانيةٍ، من محاولات واشنطن تفكيك الاتحاد الأوروبي الذي يمثل أكبر سوق للبضائع الألمانية. كما باتت ألمانيا تشعر بقلق أكبر حيال اعتمادها المفرط على الغاز الروسي الذي يمثل أكثر من 40% من احتياجاتها من الطاقة.
ويفسّر هذا كله اهتمام ألمانيا بالأزمة الخليجية، ويبرّر انفتاحها على شراء الغاز المسال
القطري، والاستثمار في بناء منصات لتفريغه في ألمانيا. كما يفسر اهتمام ألمانيا المستجد بنفط العراق، وكذلك معارضتها الشديدة لمحاولات واشنطن تقويض الاتفاق النووي مع إيران، ذلك أن ألمانيا كانت تنظر إلى إيران باعتبارها سوقا كبيرة لمنتجاتها، ومصدرا بديلا محتملا للغاز الروسي. ويفسّر، من جهة ثالثة، عودة العلاقات مع تركيا بعد فترة توتر شديد. إذ تمثل تركيا ممرا إجباريا لألمانيا إلى المنطقة، والضلع الحاضر في كل علاقاتها بها، فالغاز الإيراني أو النفط العراقي إذا قيّض له الوصول إلى أوروبا لا بد أن يمر عبر تركيا. ولا يمكن السيطرة على قضايا الأمن واللجوء إلا بالتعاون مع تركيا، ولا بد أن يتم الحضور الألماني في الموضوع السوري بالتنسيق مع تركيا.
سوف تتطلب هذه المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية بالتأكيد زيادة الحضور العسكري الألماني في المنطقة العربية، وهو أمر أخذ يبرز منذ بداية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في سبتمبر/ أيلول 2014، إذ شاركت ألمانيا فيها بفعالية، إنما من دون ضجة كبيرة. وهي تخطّط، كما صرّحت وزيرة دفاعها أخيرا، لوجود عسكري طويل الأمد في العراق، للمساعدة في إعادة بناء قواته المسلحة! كما يُتوقع أن تحضر ألمانيا عسكريا في سورية في مناطق شرق الفرات تحديدا، مستفيدةً من علاقتها التاريخية مع الأكراد (في ألمانيا جالية كردية كبيرة). هذا يعني أن لاعبا دوليا جديدا دخل حلبة التنافس في منطقتنا، وبات علينا أن نراقب كيف يؤثر دخوله في تفاعلات الصراع الدائر فيها.
مروان قبلان
العربي الجديد