تميزت الكلمة التي ألقاها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الخميس، خلال مشاركته في فعاليات الندوة التثقيفية الـ29 التي تنظمها إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة تحت عنوان “أكتوبر تواصل الأجيال”، بتوجيهه رسائل هامة تلخصت خاصة في اعترافه بأن لمصر جيشا قويا ومتماسكا وقادرا على مزيد لعب أدوار هامة وفي مقدّمتها مواصلة الحرب ضد الإرهاب.
وقال السيسي إن حرب أكتوبر 1973 هي معركة عظيمة ورائعة، ولرجالها كل التقدير والتحية والاحترام والشرف، مشيرا إلى أنه كان من الجيل الذي عاش المرحلتين حرب أكتوبر والآن.
وأكد أن “هناك كلاما كثيرا قيل من القادة الذين تحدثوا ولكن هناك كلامًا نحتاج أن نتذوقه وليس أن نسمعه فقط، فنحن نحتاج لمعايشته”.
وأضاف “كان الفرق في القوة عام 1973 هائلا مع العدو، هذا لا يعيب جيش مصر وأنا لا أستحي أن أقول الحقيقة وهذه هي المعجزة والشرف والنصر”.
وتلقفت العديد من التقارير الإخبارية رسائل السيسي التي يبقى على رأسها كيفية تمكن الجيش المصري بقوته وتماسكه على جعل إسرائيل تقبل بالسلام مع القاهرة وتسليم أرض سيناء كاملة، علاوة على استعداد مصر لتقوية جيشها حجما وعتادا تحسبا لمواجهة أي تحد قادم.
وتساءلت عن المعادلة المصرية الغريبة المهرولة وراء التسلح في وقت يعيش فيه البلد أوضاعا اقتصادية صعبة.
مصر ثالث أكبر وجهة للأسلحة في العالم بعد الهند والمملكة السعودية بعدما زادت بشكل كبير من مشترياتها من الأسلحة على مدار السنوات الخمس الماضية
وتفاعلا، مع خطاب السيسي، تناول مركز “ستراتفور للدراسات الاستراتيجية الأميركي”، عبر تأكيده أن كلمات السيسي حملت الكثير من الدلالات الأمنية والسياسية، والتي تؤكد جميعها الرغبة الشديدة على امتلاك الجيش المصري قوة كبيرة تستطيع مواجهة التحديات.
وشدد على أن رسائل السيسي مرتبطة باعتبار أن السلام بحاجة إلى قوة تسنده أيضا، لأن موازين القوى اختلفت عما كانت عليه عندما خاض الجيش المصري حرب أكتوبر 1973 وألحق هزيمة مفاجئة بإسرائيل.
ويحرص السيسي من وقت إلى آخر على التأكيد على اعتزازه بالجيش الذي خرج منه إلى رئاسة الجمهورية. ويعترف دائما كبار المسؤولين في مصر أن قوة الجيش ميزة كبيرة وقت السلم والحرب.
وأشار تقرير “ستراتفور” أنه على مدى السنوات القليلة الماضية، شرعت مصر في برنامج لشراء الأسلحة، ما جعلها في وقت قصير تصبح واحدة من أكبر الدول المستوردة للأسلحة في العالم. متسائلا عن حجم هذا الإنفاق في ظل الوضع الاقتصادي الهش في مصر وافتقارها إلى وجود خصم حقيقي يهدد أمنها.
صفقات ضخمة
وفقا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام الذي صدر في شهر مارس الماضي، تعد مصر الآن ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم (بعد الهند والمملكة العربية السعودية). وفي السنوات الخمس الماضية، منذ أن أصبح عبدالفتاح السيسي رئيسًا لمصر، زادت واردات البلاد من الأسلحة بنسبة هائلة بلغت 215 بالمئة.
خلال تلك الفترة، وقعت مصر صفقات كبيرة مع مجموعة متنوعة من الموردين، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا والصين وإيطاليا. وأدت عمليات الشراء إلى رفع مستوى الترسانة المصرية إلى حد كبير، ما يوفر قدرات كبيرة للقاهرة كانت تفتقر إليها في السابق، بما في ذلك السفن الهجومية البرمائية.
وشهدت مصر انتعاشاً اقتصادياً على مدى السنوات الأخيرة، حيث لجأت القاهرة إلى صندوق النقد الدولي منذ عامين، للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، ساعد على تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي، وبدأت برنامجا طموحا للإصلاح الاقتصادي، أرخى بظلال سلبية على قطاع كبير من المواطنين، غير أن الحكومة تنتظر جني ثمار عدة من ورائه، لأنه يرفع عن كاهلها الكثير من المخصصات التي انعكست سلبا على ميزانية الدولة.
وظلت حكومة السيسي ملتزمة بتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن تسليم القرض كان مرهوناً بتنفيذ القاهرة لتدابير التقشف والإصلاحات الهيكلية. ونتيجة لذلك، بدأ العجز الكبير في مصر يأخذ في التناقص، والتضخم يتحسن، وتبدو توقعات ديونها أكثر تفاؤلاً، وكل هذه المؤشرات دفعت البنك الدولي إلى التنبؤ بمعدل نمو يبلغ 5.8 بالمئة بالنسبة لمصر في عام 2020.
الضرورة العسكرية لا تشرح بشكل كاف الزيادة الكبيرة في مشتريات الأسلحة والقاهرة تواصل تنويع مصادر توريد الاسلحة لتعزيز النفوذ الإقليمي ولتقليل الاعتماد على واشنطن
وسهلت السنوات القليلة الماضية انتعاشًا في صناعات السياحة والطاقة الأساسية. حتى أن معدلات البطالة الإجمالية لاقت تحسناً، على الرغم من أن بطالة الشباب لا تزال مرتفعة، بالمعايير الإقليمية والدولية.
إلا أن الضرورة العسكرية لا تعتبر سبباً رئيسياً دفع مصر إلى زيادة مشترياتها من الأسلحة. ورغم أن البلاد منخرطة في مواجهة الجماعات المتطرفة من الإسلاميين في شبه جزيرة سيناء، إلا أن معظم مشترياتها الأخيرة، بما في ذلك صواريخ أرض- جو وسفن حربية كبرى، غير مناسبة تمامًا لحربها ضد الإرهابيين في سيناء.
ويغطي عدد قليل فقط من هذه المشتريات الأخيرة احتياجات الجيش في سيناء، حيث تشن القوات المصرية حملة بقدرات ومعدات موجودة منذ السابق لدى الجيش المصري. ورغم ارتفاع مشتريات الأسلحة فإن القوات المصرية التي تقاتل في سيناء مازالت تعاني من نقص الموارد.
وإلى حد كبير، تفتقر قوات المشاة المصرية التي تقوم بأغلبية المعارك في سيناء إلى الدروع الواقية المتقدمة ومعدات القتال الفردية وسط ندرة أكبر في المعدات والتدريب والإمدادات الفعالة. وفي ما يتعلق بالمركبات، قام الجيش بنشر دبابات من طراز “أإم 60 آيه 3” القديمة والأكثر عرضة للخطر في سيناء، في حين أن دبابات “أم 1 أبرامز” الأكثر تقدماً وتطوراً مازالت تلعب خارج هذا المسرح.
ولم تشتر مصر حتى بعض المعدات الأكثر ملاءمة لمعركتها في سيناء، وبدلاً من ذلك، بدأت الولايات المتحدة في منح المئات من بعض هذه المعدات الحديثة إلى القاهرة مجانًا في أوائل عام 2016 كجزء من برنامج الأدوات الدفاعية الخاص بالبنتاغون.
كما أن شراء مصر للأسلحة لم يكن نتيجة الحاجة الملحة لردع الخصوم الرئيسيين. فإلى جانب إسرائيل والمملكة العربية السعودية، لا يقترب أي من جيران مصر القريبين من مطابقة القوة العسكرية لها.
وقد يعطي التاريخ الطويل للصراع بين مصر وإسرائيل سببًا للحفاظ على دفاع عسكري قوي للحيلولة دون حدوث تراجع محتمل في العلاقات بين الجانبين، لكن مثل هذا الاحتمال يبدو بعيدًا في الوقت الحاضر، لأن العلاقات بين الطرفين شهدت تحسناً واضحا في ظل حكومة السيسي، وقدمت إسرائيل مساعدة غير مباشرة للجيش المصري في عمليات سيناء ضد التنظيمات الإرهابية.
وارتفعت وتيرة التعاون الأمني بين الطرفين خلال السنوات الماضية، ما مكن الجيش المصري من الدخول إلى مناطق كانت ممنوعة عليه، بموجب اتفاقية السلام الموقعة بينهما عام 1979، وجرى استخدام أسلحة ثقيلة لم تدخل سيناء منذ حرب أكتوبر 1973 تحت ستار مواجهة المتطرفين.
ومن ثوابت العقيدة العسكرية المصرية أن إسرائيل لا تزال تمثل خطرا على الأمن القومي، والسلام معها لا يعني عدم الصدام معها مستقبلا لذلك من الضروري أن يكون الجيش المصري مستعدا للمواجهة في أي لحظة على أرض سيناء.
ويحرص النظام المصري على امتلاك أسلحة متقدمة للاستفادة منها في تحسين صورة مؤسسة الجيش لدى المواطنين الذين يعتقدون أنها تهيمن على الكثير من مقاليد الأمور الداخلية وتهمل الأمور الدفاعية.
وظهرت تجليات هذا الاتجاه في جميع أحاديث القادة العسكريين، وفي مقدمتهم الرئيس السيسي، الذي جعل الجيش منخرطا في الكثير من المؤسسات المدنية أيضا، بحجة قدرته على فرض الانضباط وتحقيق الإنجازات.
أمجاد حرب أكتوبر
يكمن التفسير الأكثر إقناعا وراء مشتريات مصر الأخيرة من الأسلحة في عوامل جيوسياسية أوسع نطاقاً من مجرد الحاجة العسكرية. فقد كانت مصر، أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان (يبلغ عدد سكانها الآن حوالي 100 مليون نسمة)، أكثر دول الشرق الأوسط نفوذاً، ولا سيما خلال الحرب الباردة.
وخلال العقدين الماضيين، تراجع نفوذها بسبب تزايد الثقل الاقتصادي لمجلس التعاون الخليجي، وتدخل تركيا في المنطقة، وتحرك إيران لتعزيز وجودها في العراق وسوريا ولبنان في أعقاب الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين في عام 2003.
أما من حيث العوامل الداخلية، فقد دفعت ثورات الربيع العربي وما تبعها، إلى تحويل تركيز مصر إلى الداخل لبعض الوقت. وفي سياق محاولة استعادة بعض من مجدها السابق وهيبتها، تقوم الحكومة بشراء الأسلحة المتطورة، بما في ذلك السفن الهجومية البرمائية الضخمة من طراز “ميسترال”، لتسليط الضوء مرة أخرى على قوتها العسكرية ونفوذها.
ويرى البعض من الخبراء الأمنيين أن حرص مصر على امتلاك أسلحة متقدمة، يرمي إلى حماية استكشافات الغاز الواعدة في منطقة شرق المتوسط، حيث أعلنت القاهرة عن الاكتفاء الذاتي من الغاز، بل وتحولها إلى مركز إقليمي له في ظل الاتفاقيات الموقعة مع كل من إسرائيل وقبرص واليونان.
وفي ظل وجود مخاطر تركية عسكرية واعتماد أنقرة على ما يسمى بـ”دبلوماسية البوارج الحربية”، ترى مصر وجود ضرورة في قوة تحمي منشآتها الغازية في المتوسط من أي تهديد خارجي، وبدأت أنقرة مناوشات أوحت بالاعتراض على الصفقات التي عقدتها القاهرة مع قبرص واليونان.
علاوة على أن القوة العسكرية المصرية أصبحت مطلوبة لحماية ممر قناة السويس، بعد تزايد المخاطر التي يتعرض لها مضيق باب المندب، والتهديدات التي مثلتها جماعة الحوثي المتمردة في اليمن، ناهيك عن طموحات إيران وتركيا وقطر في أن يكون لهم موضع قدم في منطقة القرن الأفريقي، وما يعكسه ذلك من تداعيات محتملة على أمن مصر المرتبط بأمن البحر الأحمر أيضا.
ولم يأت قرار مصر بالبحث عن مورّدي أسلحة آخرين بمحض الصدفة، نظراً لقلق القاهرة من مخاطر الاعتماد المفرط على مورد أجنبي واحد مثل الولايات المتحدة، التي زودتها بمعظم المعدات العسكرية العملاقة منذ العام 1978 بموجب اتفاقية كامب ديفيد.
وما فاقم تخوفات مصر هو ما حدث في أكتوبر 2013 عندما قطعت الولايات المتحدة المساعدات العسكرية عنها بسبب دور الجيش في تأييد الإطاحة الشعبية بالرئيس الإخواني محمد مرسي من السلطة.
وقد أثار قرار الولايات المتحدة غضب الجيش المصري، والذي زاد من انزعاجه من احتمال أن يصبح رهينة لمطالب واشنطن.
ويجنب تنويع قاعدة الموردين مصر مخاطر الاعتماد المفرط على مورد واحد، ويعزز نفوذ البلاد بعدد من القوى الأجنبية القوية، بما في ذلك روسيا والصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا.
ونظريا تكون الجيوش أكثر فعالية عندما تتمكن من تشغيل معدات وأسلحة مشابهة إلى حد كبير، لأن مثل هذا التوحيد ييسر إلى حد كبير الخدمات اللوجستية والصيانة والتدريب، لأن قطع الغيار يمكن الحصول عليها بسهولة، ولا تحتاج القوات إلى التعامل مع مزيج كبير من المعدات والأسلحة.
وشهدت ترسانة مصر الحربية تنوعاً كبيراً في الأسلحة، ما فرض قيوداً كبيرة على قواتها العسكرية. فعلى سبيل المثال، تعمل قوات الدفاع الجوي على تشغيل بطاريات صواريخ أرض جو تم تصنيعها في الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا الآن. وتعتبر جميع هذه البطاريات منصات مختلفة، ما يجعل من الصعب للغاية تدريب القوات في نفس الخدمة على مختلف المعدات.
ويرد البعض من الخبراء على هذه المسألة بالقول إن الجيش المصري استفاد من تجاربه السابقة، وتميل عقيدته إلى تنويع مصادر الأسلحة والمعدات والتدريب عليها، والاعتماد على مدارس عسكرية مختلفة، لعدم الوقوع في مشكلات جانبية تؤثر على الكفاءة القتالية.
الاقتصاد نقطة ضعف
رغم القروض التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي، إلا أن الاقتصاد سيظل نقطة الضعف الوحيدة التي تؤثر على البلاد. وفي النهاية، لا يمكن لأي قدر من النمو تجاوز معدل نمو السكان الاستثنائي واحتياجات المواطنين من الخدمات والموارد الأساسية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنه بحلول عام 2050، سيبلغ عدد سكان مصر 150 مليون نسمة، و200 مليون نسمة بحلول عام 2100.
ورغم أن الجيش المصري يخوض معركة صعبة مع الميليشيات الإسلامية في سيناء، فقد أشار السيسي إلى أن النمو السكاني غير المنظم يمثل أعظم تهديد للأمن القومي بسبب قدرته على إلحاق الضرر بالاقتصاد والحكومة.
ويرجحُ مراقبون أن يتحسن الاقتصاد المصري في السنوات القليلة الماضية، لكن لا يمكن للبلاد أن تستمر في تعزيز ترسانة أسلحتها الكبرى على المدى الطويل، خاصة وأن الكثير من الأسلحة تم تمويلها من خلال قروض لا تزال القاهرة تعمل على سدادها.
وما يخفف من حدة هذه المشكلة أن هناك دولا عربية ساعدت في تمويل بعض الصفقات المصرية، على أن يتم سدادها على آجال بعيدة وبفوائد زهيدة. وتلك الدول تعتبر أن قوة الجيش المصري تمثل إضافة لها، مع تزايد الصراعات في المنطقة.
ويعتبر العديد من المراقبين أن مصر رغم أنها ما زالت تعاني من هشاشة واضحة في اقتصادها الوطني، إلا أن تسارع وتيرة التطورات في منطقة الشرق الأوسط حتم عليها المزيد من الاستعداد للعب العديد من الأدوار الهامة في كبرى القضايا الإقليمية، وهو ما يجبر قادتها على المزيد من التسلح تهيؤا لأي تحد منتظر.
وأعلنت مصر في السنوات الأخيرة الحرب ضد الإرهاب وداعميه، هذا إلى جانب التحديات الكبرى التي تخوضها والتي يبقى على رأسها كسر طموحات إيران وتركيا وقطر في أن تكون لها موضع قدم في منطقة القرن الأفريقي، وما يعكسه ذلك من تداعيات محتملة على أمن مصر المرتبط بأمن البحر الأحمر أيضا.