ينادي بائع المعجنات بأعلى صوته في الزقاق المؤدي إلى منزل الفلسطيني زهير أبو حمدة، فيواري الرجل وجهه جانبا بعدما شاهد ابنه الأصغر ياسين ذا الأعوام الأربعة يهم بالقدوم إليه، طلبا لشيكل واحد أملا بشراء قطعتي معجنات له ولشقيقه الأكبر.
يهز الأب رأسه يمنة ويسرة، فيفهم الابن لغة أبيه سريعا وهي لغة الحرمان التي اعتاد عليها منذ بدأت نفسه تشتهي ما يشتهي أقرانه ليعود أدراجه بين أشقائه الأربعة حزين الوجه قاطب الجبين، فيتفطر قلب الأب قهرا وتذرف عيونه دموع الفقر والعجز عن توفير أدنى احتياجات أطفاله.
يتكرر هذا السيناريو الموجع في قطاع غزة مع أبو حمدة منذ خسر تجارته في الأغنام قبل سنوات، ثم فشلت كل محاولات بحثه عن عمل بعد تكبده خسارة أخرى من بسطة صغيرة على مدخل حارته بمخيم خان يونس للاجئين جنوب القطاع، ليظل على قائمتي الفقر والبطالة من دون أفق لمغادرتهما.
يضرب الفقر والعوز أطنابه في كافة تفاصيل حياة عائلة أبو حمدة، فالحصول على الطعام أصبح حلما لا يتحقق دوما، بل إن “الصغار ينامون أحيانا بلا عشاء لتنتقل العائلة من الفقر إلى الجوع” كما تقول زوجته، ناهيك عن منزل بلا حمام أو مطبخ نصفه غير مسقوف وأرضيته بلا بلاط.
نزيف
حال عائلة أبو حمدة كحال كثير من العائلات الغزية التي أنهكتها تداعيات الحصار الإسرائيلي وتقليصات السلطة الفلسطينية لرواتب موظفيها في القطاع، وما نتج عن ذلك من واقع اقتصادي آخذ في الانهيار وفق وصف تقرير البنك الدولي الذي عرض مؤخرا في نيويورك خلال اجتماع لجنة مختصة بتقديم المساعدة الإنمائية للشعب الفلسطيني.
وتظهر مؤشرات الانهيار في كافة القطاعات الاقتصادية شبه المشلولة بغزة، حتى اضطر بعض التجار إلى إقفال متاجرهم ومصانعهم وعرضها للبيع، لوقف نزيف الخسائر المتصاعدة وتجنبا للحبس لعدم القدرة على الإيفاء بالتعهدات المالية، كما يقول أشرف الفرا صاحب أحد مصانع الطوب.
ويوضح الفرا أنه عرض مصنعه للبيع منذ عام ونصف بعدما توقف العمل فيه وتم تسريح العمال جراء تراجع الحركة الشرائية حتى وصلت لأقل من 10%، وتعثر محاولات جمع الديون من الزبائن الذين بالكاد يوفرون قوت يومهم، وفق تقديره.
وبينما يؤكد صاحب المصنع أن الأوضاع الاقتصادية أكثر فداحة مما توصف به بالأرقام والبيانات في التقارير المحلية والدولية فإنه يحذر مما يصفه بدفن اقتصاد غزة بعد موته بالكامل خلال فترة وجيزة إذا لم يتم إنقاذه بالسرعة الممكنة بإعادة ضخ الرواتب والمساعدات بشكل واسع.
تعثرات
منذ مارس/آذار من العام الماضي يشهد الاقتصاد الغزي إضافات قاسية لحجم التعثرات الاقتصادية وصولا إلى مرحلة الانهيار -بحسب الخبير الاقتصادي والمالي أمين أبو عيشة- جراء خصومات السلطة الفلسطينية على رواتب موظفيها بنسبة 50%، وإحالة 24 ألف موظف إلى التقاعد، علاوة على صرف وزارة المالية في غزة 40% من رواتب الموظفين المعينين إبان حكومة حماس السابقة.
وبموازاة ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب لأكثر من 65% وتجاوز الفقر 53% في القطاع رغم انخفاضه بالضفة الغربية لنحو 17% فإن الخبير الاقتصادي يتحدث عن مئات آلاف الشيكات المرتجعة وانخفاض مستوى السيولة النقدية وارتفاع معدلات التضخم المالي مع انخفاض الحركة الشرائية بنحو 60%.
وفي حين أكد الخبير الاقتصادي على التداعيات الواسعة للحصار والحروب وخسائر الانقسام الفلسطيني المباشرة التي بلغت 15 مليار دولار اعتبر أن معالجة الانهيار الاقتصادي الراهن تحتاج إلى خطة إنقاذ وطني تقودها الحكومة لمعالجة المشكلات الآنية والإستراتيجية.
المصدر : الجزيرة