لا تفارق مشاهد الجثث البشرية المتفسخة في أزقة وشوارع الجانب الأيمن من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى، ذاكرة مدير الإعلام في شبكة منظمات المجتمع المدني في نينوى مهند الأومري الناشط في منظمة intersos الإيطالية الإغاثية، الذي شارك مع فرق الدفاع المدني التي عمدت إلى رفع جثث القتلى من شوارع مدينته، بعد انتهاء العمليات العسكرية، لكن يبقى تحول مواقع قريبة من الطمر الصحي الواقع في منطقة السحاجي غرب الموصل، إلى مقابر لدفن الجثث أكثر ما يقلقه، كما يقول لـ”العربي الجديد”، مشيرا إلى أن كثرا من سكان المدينة لا يعلمون بالأمر الذي يهددهم بمخاطر صحية وفق تأكيد الدكتور زيد علي مدير عام دائرة الطب العدلي لـ”العربي الجديد”.
كيف تم التعامل مع الجثث؟
يعاني أهالي محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار التي شهدت معارك مسلحة بين القوات الحكومية ومسلحي تنظيم داعش من بقاء بعض الجثث المرمية والمتفسخة تحت الأنقاض بحسب ما أكدته المصادر التي تحدثت لـ”العربي الجديد”، والتي تخشى من انتشار الأوبئة الناتجة منها.
ويؤكد الدكتور زيد علي أن الأوبئة الناتجة من الجثث المتفسخة في المناطق السكنية، قد تعرض السكان للإصابة بالأمراض الوبائية، فضلا عن أن الحكومة المحلية في نينوى، لن تستطيع رفع الجثث بشكل كامل خلال الفترة المقبلة، بسبب الانتشار الكبير للعبوات الناسفة، بحسب تأكيد خلف الحديدي عضو مجلس محافظة نينوى لـ”العربي الجديد”.
وتخشى الأجهزة الأمنية الاقتراب من الجثث، خوفا من إمكانية أن تكون مفخخة، كما يقول العميد محمد الجواري مدير الدفاع المدني في نينوى لـ”العربي الجديد”، وهو ما جعل بعض الجثث عرضة للحيوانات، بعد تركها في العراء وفق إفادة الدكتور أنس العاني المتحدث باسم صحة الأنبار، وهو أحد أعضاء فريق رفع الجثث من الشوارع والذي تشكل من دائرة الطب العدلي وقيادة شرطة الأنبار وقيادة العمليات في أكتوبر/تشرين الأول 2016.
وتعجز طواقم دائرة البلدية من الوصول إلى عشرات الجثث المنتشرة في الصحراء الواقعة شمال غربي ناحية البغدادي في محافظة الأنبار، كون المكان “ملغما” بحسب معلومات حصلت عليها القوات الأمنية والحشد العشائري من مقاتلين سقطوا أسرى بيد تلك القوات وفق ما يؤكده القيادي في الحشد العشائري بمحافظة الأنبار قطري السرمد لـ”العربي الجديد”، فيما كشف مصدر أمني (رفض الكشف عن هويته لحساسية الموضوع) أن جثث مسلحي داعش في قضاء الشرقاط بمحافظة صلاح الدين، تم رميها في الوديان من قبل فصيلي العصائب والحشد العشائري نهاية عام 2016 بعد تحرير القضاء بالكامل، والبعض الآخر تُرك ليتفسخ وللحيوانات، وهو ما يؤكده جواد الطليباوي القيادي في عصائب أهل الحق الذي قال لـ”العربي الجديد”، إن القطعات العسكرية اضطرت إلى رمي جثث المسلحين في الوديان، من أجل فسح المجال أمام القوات الأمنية لتحرير المدينة، في وقت كانت الدوائر الصحية معطلة عن العمل بسبب العمليات العسكرية آنذاك.
الجثث المجهولة
تعامل الفريق المشكل من دائرة الطب العدلي وقيادة الشرطة والعمليات العسكرية، مع الجثث المنتشرة في الشوارع التي لم يعثر فيها على هوية تعريفية، أو مستند تعريفي لصاحب الجثة على أنها مجهولة الهوية سواء كانت لمسلحين أو لمدنيين بحسب الدكتور العاني أحد أعضاء الفريق، والذي أوضح أنه لا يحق لدوائر صحة المحافظة تسليم جثث المسلحين التي يعثر عليها، إلى ذويهم، حتى وإن كانت معروفة الهوية، لأن قرار تسليم الجثث كما يقول، يصدر من خلال المحكمة وجهاز مكافحة الإرهاب.
ويضيف الدكتور العاني أن إجراءات أصولية وقانونية ترافق عملية نقل الجثث من قبل فرق الطب العدلي التابعة لوزارة الصحة العراقية والقوات الأمنية، وتدفن وفقا لموافقة قاضي تحقيق المحافظة، الذي يطلع بشكل دوري على أوراق التحقيق الخاصة بدفن جثث القتلى، مشيرا إلى أن جثث المسلحين في المناطق المحررة لم يتم رفعها بشكل كامل، وأغلبية الجثث التي رفعت هي لمدنيين مجهولي الهوية، وقد قام الفريق بدفنها في مقابر خاصة خارج المدن، بعد أن أخذت عينات الحمض النووي DNA منها.
ويقول الخبير القانوني جمال الأسدي، إن دفن جثث القتلى يتم وفقاً لقرار قضائي يأتي تطبيقاً لنص الفقرة الخامسة من المادة 101 من قانون الصحة العامة رقم 89 لسنة 1981، (أ) والذي ينص على أنه “إذا لم يراجع أي من ذوي المتوفى الطبابة العدلية لاستلام الجثة خلال مدة شهرين من تاريخ تسلم هذه الطبابة لها، تقوم أمانة بغداد والبلديات في المحافظات بناء على طلب الطبابة المذكورة بكتاب يتضمن الاسم الكامل للمتوفى والجهة التحقيقية المرسلة الجثةَ بدفنها في المقابر العامة ويوسم القبر لإمكان استخراج الجثة منه عند الحاجة”.
لكن الدكتور زيد يقول: “لا يمكن تسليم الجثث إلى ذوي القتلى باعتبار أن الاستمارة التي تأتي إلينا من اللجان القضائية، تطلب تشريح الجثة بشكل أصولي، وتُكتب عليها عبارة ممنوع التسليم، والجهات التحقيقية والقضائية، هي صاحبة الشأن في تسليم الجثث لذويهم من عدمه”، بينما يدعو الحديدي، المنظمات الدولية إلى ضرورة المساهمة في إخراج الجثث إلى خارج المدينة والتعامل معها إنسانياً، ووفق التعاليم الإسلامية.
وتترك وزارة الصحة العراقية الفصل بين جثث المدنيين والمسلحين للأجهزة الأمنية والاستخبارية، بحسب إفادة الدكتور سيف البدر المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة العراقية لـ”العربي الجديد”، مضيفاً أن مسؤولية وزارته تكمن في تسلم الجثث وتحديد البصمة الجينية للجثة، وبعدها نبلغ الجهات الأمنية والقضائية بالنتائج، لاتخاذ إجراءات التعامل معها.
مقابر في كل مكان
تم دفن 3500 جثة في مواقع خاصة بالقرب من الطمر الصحي منذ سبتمبر/أيلول 2017 حتى يونيو/حزيران الماضي بحسب علاء الحيدري مدير إعلام بلدية الموصل، والذي قال لـ”العربي الجديد” إن أعداد الجثث ترتفع وتزداد كلما تمكنت فرق الدفاع المدني من رفع المزيد من مناطق الاشتباك وتحت الأنقاض التي لم ترفع بعد.
ويقول القيادي في الحشد العشائري بمحافظة الأنبار قطري السرمد، إن بلدية الأنبار قامت بحفر مقبرة واحدة في عمق صحراء الأنبار، ومقبرتين في ناحية البغدادي، الأولى في الحي السكني والثانية في دور سد البغدادي شمال ناحية البغدادي، وتضم تلك المقابر 570 جثة، مضيفا أن القوات العسكرية عثرت على مقبرة في عامرية الفلوجة أثناء تحرير مدينة الفلوجة.
وتضم تلك المقبرة بحسب تأكيد السرمد، 550 جثة لمسلحين، كتب على كل جثة منها اسم المقاتل وكنيته وتاريخ مقتله، مشيرا إلى أن بعض الجثث تعود لمقاتلين عرب، والبعض الآخر منها لمقاتلين محليين، يخشى ذووهم المشاكل القانونية والعشائرية لذلك لم يطالبوا باستلامها.
وحرص مسلحو داعش على استحدث مقابر جماعية كبيرة، قبل انتهاء المعارك في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين، بحسب الدكتور زيد، الذي قال: “نواجه مشكلة حقيقية الآن وهي أن بعض هذه المقابر التي يبلغ عددها 132 مقبرة جماعية في نينوى والأنبار محاطة بالعبوات الناسفة، ونخشى أن يتسبب فتحها في الوقت الحالي بانتشار الأمراض والأوبئة بين السكان”، ويضيف خلف الحديدي أن مقابر داعش على نوعين، مقبرة المهاجرين التي دفن بها المقاتل الأجنبي في جنوب غربي منطقة البعاج، ومقبرة أخرى، داخل المدينة خصصها التنظيم لدفن جثث المقاتلين المحليين.
حلول في طور البحث
شكلت الحكومة العراقية في العام 2015 لجنة خاصة ممثلة من وزارة الصحة ومفوضية حقوق الإنسان والجهات الأمنية، مهمتها البحث عن حلول في كيفية التعامل مع الجثث، بحسب إفادة الدكتورة سلامة الخفاجي عضو مجلس المفوضية العليا لحقوق الإنسان لـ”العربي الجديد”، والتي أكدت أن اللجنة توصلت إلى قرار يقضي بدفن الجثث في أماكن محددة، والحيلولة دون إلحاق أي ضرر بها.
وعمل فريق دائرة الطب العدلي وقيادة شرطة الأنبار وقيادة عمليات الأنبار على رفع الجثث المتفسخة بعد وضعها في أكياس خاصة، كل على حدة، ودفنت في مقبرتين حددتهما الجهات القضائية في المحافظة بحسب الدكتور العاني، مشيرا إلى أن مكان المقبرة الأولى يقع في منطقة الجميرة، والثانية في منطقة الطاش جنوب مدينة الرمادي، مضيفا أن عدد الجثث التي دفنت فيهما 100 جثة، وتمت عملية الدفن بإشراف مباشر من الأجهزة الأمنية الممثلة في اللجنة المشكلة.
ويؤكد الدكتور زيد أن فرق الدفاع المدني تقوم حالياً برفع ما أمكن من الجثث من الأحياء العامة، وقد تم إنشاء قاعدة بيانات لها وأخذ عينات من الشعر والأظافر وعظام الأسنان والأنسجة الرخوة والقيام بالتقاط صور خاصة وحفظها في ثلاجات الطب العدلي إلى حين استكمال الإجراءات الخاصة بالدفن وصدور الأمر القضائي في دفنها من قبل دائرة البلدية.
غير أن الاومري، يؤكد أن الأجهزة الأمنية تقوم بفرز الجثث التي تعود للمدنيين من سكنة الموصل وتسليمها لذوي هؤلاء، بعد التعرف إليها، فيما تتحفظ على جثث المسلحين الأجانب وتنقلها إلى الطمر الصحي، ولا تسمح لفرق التطوع بالاقتراب منها، إذ يجري التعامل معها من قبلهم فقط.
علي غزوان
العربي الجديد