استطلاعات الرأي الجديدة تُظهر أن معظم سكان غزة يريدون وظائف، وليس عصابات

استطلاعات الرأي الجديدة تُظهر أن معظم سكان غزة يريدون وظائف، وليس عصابات

خلف العناوين الرئيسية المتعلقة بالاحتجاجات العنيفة على الحدود التي تنظمها حركة “حماس” ضد إسرائيل، يبدو الواقع على الأرض بين الفلسطينيين العاديين في غزة مختلفًا للغاية. يُظهر استطلاعا رأي فلسطينيان موثوقان جديدان أُجريا داخل غزة هذا الشهر أن معظم سكانها يعارضون فعليًا هذه الاحتجاجات، ويدعم نصفهم على الأقل حتى وقف إطلاق نار رسمي مع إسرائيل.

وما يفاجئ أكثر أن معظم سكان غزة يقولون إنهم يريدون حوارًا مباشرًا مع الإسرائيليين ويريدون من الشركات الإسرائيلية توفير المزيد من الوظائف لهم داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة “حماس”. كما يلوم معظمهم “حماس” أو السلطة الفلسطينية في رام الله أو الأمم المتحدة، وليس إسرائيل، على مشاكلهم الاقتصادية الحادة. بالإضافة إلى ذلك، من اللافت أن أغلبية الفلسطينيين في غزة يقولون إنهم يريدون من “حماس” تغيير موقفها الرافض والموافقة على تحقيق السلام مع إسرائيل.

ترتكز هذه النتائج المعتدلة على نحو غير متوقع على استطلاعي رأي قياسيين ومباشرين للاحتمالات لدى عينات تمثيلية من حوالي 500 مستجيب تم اختيارهم عشوائيًا، خلال الفترة الممتدة من 3 إلى 15 تشرين الأول/أكتوبر. وقد أشرف على أحد الاستطلاعين “المركز الفلسطيني للرأي العام” الذي يتمتع بخبرة عالية ويعمل انطلاقًا من بيت لحم. أما الاستطلاع الآخر، وهو نسخة مختصرة تضم أسئلة رئيسية مختارة، فيخضع لإشراف منظمة مختلفة مرتكزة في رام الله ولكنها تتمتع بالمؤهلات ذاتها. ولتحقيق أكبر درجة من النفاذ والمشروعية، استخدمت المنظمتان مستجوبين محليين لإجراء المقابلات ومشرفين ميدانيين من غزة بصورة حصرية.

وما يجعل هذه الصورة النقيضة إلى حد كبير أكثر مصداقية هو أن مجموعات البيانات المنبثقة عن هذين الاستطلاعين متشابهة بصورة عامة (بالرغم من بعض الاختلافات كما هو مذكور أدناه). فضلًا عن ذلك، ولضمان أكبر قدر من الموثوقية، قصدت المنطقة خلال العمل الميداني للتشاور شخصيًا مع منظمي الاستطلاعات والمقابلات وللمساهمة في تنقيح الاستبيانات وترجمتها إلى العربية والتأكد من كفاءتها التقنية وضوابط الجودة ومعالجة أي مشاكل عملية، وقد كانت هذه الأخيرة قليلة لحسن الحظ.

بصورة خاصة، في ما يتعلق بالاحتجاجات التي تقودها حماس أسبوعيًا على الحدود، يدعم 36% فقط من سكان غزة هذا التكتيك، فيما أعرب 62% عن معارضتهم له. بالمقابل، يحصد وقف إطلاق نار رسمي مع إسرائيل دعمًا أكثر من المعارضة: 73 مقابل 25% في استطلاع؛ 51 مقابل 45% في الاستطلاع الآخر.

وبالنسبة إلى المسألة الأكثر تعقيدًا المتمثلة بالسلام التام مع إسرائيل، على وجه التحديد، يُظهر الاستطلاعان كذلك دعمًا شعبيًا أكثر من المعارضة. فصياغة السؤال المطروح واضحة وضوح الشمس: هل يجب على “حماس” “أن تتوقف عن الدعوة إلى تدمير إسرائيل وتقبل عوضًا عن ذلك بحل دائم للدولتين على أساس حدود 1967″؟ يُظهر استطلاع بأن سكان غزة يصوتون بنعم بهامش 53 مقابل 45%؛ ويُظهر الاستطلاع الآخر هامشًا أضيق بقليل، وهو 48 مقابل 44%.

وفي ما يخص الاتصالات مع إسرائيل، حتى من دون اتفاق سلام، تُعتبر الأدلة أوضح بعد. فبالرغم من السياسات الرسمية المناهضة للتطبيع والدعاية المشيطنة لقادة “حماس”، يُظهر الاستطلاعان أن ثلثي سكان غزة يريدون “اتصالات شخصية مباشرة وحوارًا مباشرًا مع الإسرائيليين”. كما تقول نسبة أعلى بعد، وهي ثلاثة أرباع، إنها “ترغب بأن تقدم الشركات الإسرائيلية المزيد من الوظائف داخل الضفة الغربية وغزة”.

وما يصدم أكثر بعد هو أن قلة من سكان غزة يلومون إسرائيل بشكل أساسي على أوضاعهم الاقتصادية الراهنة المتأزمة. وعندما سئلوا عن الجهة المسؤولة أكثر عن الوتيرة البطيئة لإعادة الإعمار في منطقتهم، وجهت الأغلبية اللوم إما إلى “حماس” (32%) أو إلى السلطة الفلسطينية (22%)، فيما ألقى 27% فقط اللوم على إسرائيل. واعتبر 8% من المستجوبين أن الأمم المتحدة تتحمل المسؤولية الأكبر فيما لم يدلِ 8% عن رأيهم في هذا السياق. وعلى نحو مفاجئ، حلت مصر في المرتبة الأخيرة من قائمة المصنفين كأشرار، بنسبة 3% فحسب.

يقينًا، لا يعني أي من تلك الأمور أن معظم سكان غزة يحبذون واقع إسرائيل الدائم أو يثقون به أو يقبلونه ببساطة. على سبيل المثال، في الاستطلاعين، أفاد حوالي نصف المستجوبين فقط إن المفاوضات مع إسرائيل قد حققت حتى نتائج “إيجابية نوعًا ما” لغاية اليوم. كذلك، قال ما يقارب نصف المستجوبين فحسب إن حل الدولتين يجب أن “ينهي النزاع”. وما زالت نسبة 55%، التي تفوق النصف بقليل، تتوقع أن “يقوم الفلسطينيون في نهاية المطاف بالسيطرة على كامل فلسطين تقريبًا”، إما لأن “الله يساندهم” أو لأنهم “سيتفوقون عدديًا على اليهود في أحد الأيام”.

تعتبر هذه النتائج على نحو مقنع أن الاعتدال التكتيكي الذي تم التعبير عنه تجاه المسائل القصيرة الأمد لا يشكل ببساطة ادعاءً أو نتاج “تحيز من منطلق المجاملة”. في الواقع، إن هذه الآراء المختلطة والسلبية بالتحديد في ما يتعلق بالاتجاهات الطويلة الأمد تضفي المزيد من المصداقية على الأصوات البراغماتية نسبيًا حول المسائل الأكثر المباشرة.

بالإضافة إلى ذلك، في ما يتعلق ببعض المسائل المرتبطة بالوضع النهائي أيضًا، يُعتبر سكان غزة واقعيين على نحو غير متوقع. بالنسبة إلى مسألة اللاجئين، إذا ما أردنا ذكر أحد الأمثلة العاطفية بشدة على سبيل المثال لا الحصر، يؤيد 68% قبول “حق العودة” فقط إلى الضفة الغربية وغزة وليس إلى إسرائيل، “إذا كانت هذه الخطوة الأخيرة المطلوبة لإنهاء الاحتلال والتوصل إلى دولة فلسطينية مستقلة فعلية”. ولدى سكان الضفة الغربية، إن الرقم المعادل أدنى بـ 20 نقطة بالكامل. ويبقى الموقف الرسمي لكل من السلطة الفلسطينية و”حماس” معارضًا بشكل ثابت لمثل هذا التنازل.

أخيرًا، بالانتقال إلى الآراء تجاه السياسة الأمريكية، يبدي سكان غزة مجموعة سلوكيات معتدلة نسبيًا تجاه هذه المسألة أيضًا. وعندما طُلب منهم اختيار “أكثر ما يريدون من الولايات المتحدة أن تقوم به بشأن القضية الفلسطينية حاليًا” انطلاقًا من قائمة، اختارت نسبة 38% “الضغط على إسرائيل للقيام بتنازلات”. ولكن الخيار الثاني كان “زيادة المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين”، بنسبة 23% من الأصوات، وتلاه خيار “الضغط على السلطة الفلسطينية و”حماس” ليكونا أكثر ديمقراطية وأقل فسادًا”، بنسبة 14%. واعتبر 16% فحسب أن الولايات المتحدة يجب “ألا تتدخل في الشؤون الفلسطينية وشؤون الشرق الأوسط على الإطلاق”. ولكن على الضفة الغربية، حل هذا الخيار في المرتبة الأولى، بنسبة 49% المدهشة.

بالتالي، بصورة إجمالية، يمكن الاعتبار بأن السلوكيات الشعبية في غزة هي أكثر انسجامًا مع الواقع من إما الصورة النضالية التي تروج لها “حماس” أو الغضب الشديد تجاه إسرائيل الذي غالبًا ما تُظهره وسائل الإعلام الخارجية. فالنتائج غير المتوقعة لهذين الاستطلاعين الجديدين تقدم تصحيحًا بارزًا لتلك الصور النمطية. ومن المهم أن يولي النقاد وصناع السياسات من كافة الجوانب اهتمامًا أكبر بكثير لكيفية مقاربة سكان غزة بذاتهم لوضعهم الحرج للغاية على نحو لا يمكن إنكاره، والخيارات الواقعية على المدى القصير والبعيد، التي يفضلونها لإجراء بعض التحسينات الرامية إلى الخروج من محنتهم.

معهد واشنطن