“صباح كل يوم تغسل والدتي وجهي وتغير ملابسي وتساعدني في تناول طعامي.. أحمل علب المياه الباردة وأتوجه إلى مكاني المعتاد قرب دائرة المرور لبيعها للمارة” بهذه الكلمات يبدأ الطفل علي حديثه، وهو يتجه لبداية مشواره الصباحي بذراعين مبتورتين، في قصة تتكرر فصولها يوميا بالعديد من أرجاء العراق.
يواصل الطفل حديثه “أحصل يوميا على عشرة آلاف دينار مما يكفيني لمساعدة أسرتي، وأمنيتي الوحيدة ارتياد المدرسة لتعلم القراءة والكتابة أسوة بباقي الأطفال.. لكنني لا أملك يدين للكتابة”.
علي ذو الـ 12 ربيعا يسكن مع عائلته في بيت “تجاوز” وهي تسمية محلية تطلق على المنازل غير المرخصة التي تم بناؤها في أرض غير مملوكة من قبل المواطنين أنفسهم وإنما تعود ملكيتها لجهات أخرى.
بداية المعاناة
نشأ علي وسط أسرة من سبعة أفراد، ويعيش مع والديه وإخوته الثلاثة بمنزل متواضع في “أبو خستاوي” أحد الأحياء الفقيرة بمدينة الحلة مركز محافظة بابل. أجبرته الظروف الصعبة على خوض غمار الحياة بسن مبكرة بعد أن فقد ذراعيه عقب تعرضه لحادث أليم.
الطبيب المعالج يشير إلى أنه أصيب بصعقة كهربائية عالية جدا إثر مسكه أحد أسلاك الضغط العالي بعد وقوعه على الأرض مما أدى لإصابته بحروق جسيمة أجبرت الفريق الطبي آنذاك على بتر ذراعيه منعا لانتشار المضاعفات إلى باقي جسمه.
يؤكد أقرباء علي أن إحدى منظمات المجتمع المدني المختصة جلبت له أطرافا صناعية لكنه رفضها لثقل وزنها وصعوبة تحريكها، ويبدو أنه تكيف مع واقع الحال واعتاد الحياة بلا ذراعين، رغم صعوبة إنجاز بعض المهام اليومية بلا أطراف عليا.
ويشير الطفل إلى أنه يعتمد بشكل كبير على والدته في توفير العديد من احتياجاته اليومية، خاصة الاستحمام وتغيير الملابس وتناول الطعام.
ذكريات مُرة
وثمة تفاصيل أخرى في القصة يتذكرها علي وأسرته بكل مرارة، حيث بقي هذا الطفل حبيس منزله لا يرغب بمخالطة الأولاد بعد حادثة البتر.
ويؤكد والده أنها “الحقبة الأصعب” بحياة علي الذي تخلف أيضا عن الدراسة بعد رفض إحدى المدارس قبوله بعد بلوغه سن السابعة بحجة عدم قدرته على الكتابة، مطالبة إياه بجلب موافقة من مديرية التربية بمحافظة بابل.
المتحدثة باسم مديرية بابل ابتهال الخفاجي قالت إن “والد الطفل كان مهملا ولم يراجع التربية” مؤكدة وجود مدارس خاصة تستقبل الحالات المشابهة لحالة علي الذي دفع ثمن ذلك ببقائه دون تعليم حتى بلوغه سن الـ 12.
ويبدو أن إصرار علي ورغبته القوية في عيش حياة طبيعية دفعه للتحدي والسير في مشواره غير عابئ بإعاقته، ومع مرور الأيام زادت عزيمته ليغادر أسوار منزله باحثا عن عالم مختلف حيث الاختلاط بالآخرين والعمل وسط زحمة السير بشوارع المدينة وممارسة بعض الهوايات الجديدة، مثل قيادة الدراجة الهوائية بإسناد المقود إلى صدره وكتفيه عوضا عن اليدين.
ينهض علي مبكرا كعادته كل يوم يملؤه التفاؤل والأمل بواقع جديد، يتناول إفطاره بنشاط وحيوية قبل ذهابه إلى عمله المعتاد، حيث يبيع علب المياه على الزبائن من سائقي المركبات قرب دائرة المرور وسط المدينة.
ويصف الحاج أحمد، وهو صاحب مطعم شعبي بالحلة هذا الفتى بـ “الشجاع” مؤكدا أنه يعمل طيلة أيام العام بلا كلل أو ملل، ساعيا إلى إعانة والده في تحمل تكاليف العيش والتخفيف عنه.
فخر واعتزاز
ورغم ذلك عبر سائقو المركبات عما اعتبروه “فخرهم واعتزازهم” بشخصية علي الذي أصر على تحمل المسؤولية في سن مبكرة، ولم يثنه فقده لذراعيه عن تحقيق ما عجز عنه أقرانه الأسوياء.
سالم حسين الباحث المتخصص في شأن الطفولة يؤكد وجود أعداد كبيرة من الأطفال الذين فقدوا أطرافهم أو أجزاء منها نتيجة الحرب والحوادث خلال العقد الماضي.
ويرى الباحث أن هذه الشريحة تعاني من فقدانها لحقوقها نتيجة غياب القوانين والتشريعات الخاصة بها، مضيفا أن الطفل العراقي بشكل عام “مهمش ولا يستطيع الحصول على أبسط احتياجاته، فكيف الحال بالأطفال المعاقين؟”.
المصدر : الجزيرة