مع دخول العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران حيّز التنفيذ في 4 تشرين الثاني/نوفمبر، من المؤكد زيادة الضغط الداخلي على حكومة الرئيس حسن روحاني. وتأتي العقوبات التي أعيد فرضها في أعقاب قيام الرئيس ترامب – في وقت سابق من هذا العام – بالانسحاب من «خطة العمل المشتركة الشاملة»، أو ما يُعرف بالاتفاق النووي. وحتى إذا وضعنا الديناميات الحالية جانباً، يَفترض التخطيط في إيران تراجع وقع القرارات الوطنية الرئيسية المتّخذة من قبل روحاني خلال فترة ولايته الثانية.
وبالتالي، ففي 22 تشرين الأول/أكتوبر، كشف عزت الله زرغمي، المدير السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيراني، وعضو في “حقل الخبرة” (“حوزه کارشناسی”) في مكتب آية الله علي خامنئي، أنّ “بعض المنظمات التي يسيطر عليها المرشد الأعلى” كانت تسعى إلى الحصول على إذن “لإدارة البلاد” نظراً لاعتقادها بأنّ السلطة التنفيذية غير قادرة على القيام بواجباتها. وقد حدّد زرغمي هيئتين قويتين خارج الحكومة يبدو أنّ قيادتيهما تسعيان جاهدتان إلى عزل روحاني عن السلطة، وهما “مؤسسة المضطهدين والمعاقين” (“بنیاد مستضعفان و جانبازان”) و”هيئة تنفيذ أوامر الإمام الخميني” (“ستاد اجرایی فرمان امام”)، الذي هو تكتّل يساوي مليارات الدولارات. وتخضع كلتاهما لسيطرة المرشد الأعلى، وأشار زرغمي ضمناً إلى أنّه لدى منظمات أخرى وجهة نظر مماثلة. وفي وقت سابق من هذا العام، في 24 حزيران/يونيو، قال الجنرال يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري لخامنئي والقائد الأعلى السابق لقوات «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني: “يبدو أحياناً أنّه يمكن إدارة البلاد بشكل أفضل بدون حكومة ]روحاني[“. وفي اليوم التالي، ردّد محمد دهقان، عضو في البرلمان مقرّب من «الحرس الثوري»، هذا الشعور قائلاً: “إذا شعرَتْ الحكومة فعلاً بأنّها غير قادرة على إدارة البلاد، فعليها أن تترك هذه المهمّة إلى الأشخاص الأكفاء.”
وعلى نحو مماثل، هدفتْ عدة محاولات لاحقة إلى إثارة الشكوك حول قدرة الرئيس الإيراني على معالجة الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق. ففي 6 أيلول/سبتمبر، تحدّث المرشد الأعلى علناً ضد عزل روحاني عن السلطة أو تقويض سلطته، حيث قال: “لن تنجح [المحاولات] لإنشاء منظمات موازية للحكومة، حيث تثبت التجربة أنّ المهمّة يجب أن تتم من قبل المسؤولين من خلال قنوات قانونية”. إلا أنّ زرغمي، في محاولته لشرح موقف خامنئي، قال إنّ المرشد الأعلى لم يكن يعارض أنشطة هذه المؤسسات غير المنتخبة، بل كان يُناقض فكرة “توّليها الإدارة بأكملها واستبدال الحكومة”. وبعبارة أخرى، يتردّد آية الله خامنئي في منح المؤسسات التي تخضع لسيطرته المسؤولية الكاملة عن الإدارة الاقتصادية بدلاً من حكومة روحاني.
ويعكس هذا الموقف تحوّط خامنئي الأوسع رداً على الوضع الاقتصادي. ففي أحد الأمثلة الحديثة، في 21 حزيران/يونيو، رفض اتخاذ الخطوات اللازمة لإبعاد إيران عن القائمة السوداء لـ “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” (“الفاتف”)، ولا سيّما عن طريق تغيير نظامها لمكافحة تمويل الإرهاب. ولكن، كما هو الحال مع موقف خامنئي المرن تجاه «خطة العمل المشتركة الشاملة»، بعد أن عبّر عن معارضته للامتثال [لمتطلبات] “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية”، أعطى الضوء الأخضر أخيراً لـ “المجلس” لكي يعتمد التدابير، من خلال بعث رسالة بشكل واضح إلى رئيس “المجلس” علي لاريجاني. وفي الوقت نفسه، قام بتمكين المتشددين داخل “المجلس” وخارجه – بما في ذلك صحيفة “كيهان”، التي هي بمثابة الناطقة باسمه – لمهاجمة التحرّكات بشكل جذري من خلال وصفها كـ “عقوبات ذاتية”. وهكذا، كما حدث مع الاتفاق النووي، سَمَح باستمرار الخطوة ولكنّه منح لنفسه مجالاً لانتقاد الترتيبات في المستقبل كونها تُخالف رغباته الحقيقية.
حملة مكافحة الجريمة والمجتمع المدني
في 11 آب/أغسطس، وفي خطوة غير دستورية، وافق آية الله خامنئي على طلب من السلطة القضائية بإقامة “محاكم خاصة” لمعالجة الجرائم المالية على خلفية تدهور الاقتصاد الوطني. وكما قال المرشد الأعلى في بيانه: “يجب تنفيذ العقوبات على المتهمين بالفساد الاقتصادي بشكل سريع وعادل”. وبالفعل، شهد الشهران ونصف الشهر التاليان إجراء محاكمات سريعة لعشرات الأفراد في هذه المحاكم الخاصة حيث حُكم عليهم بالإعدام أو السجن لفترات طويلة. وقد جاء كلّ ذلك وسط قيام المسؤولين الإيرانيين بإلقاء اللوم على “الأعداء” في تدهور الريال والتدخّل في النظام المالي والمصرفي في البلاد.
ومن بين أولئك المحكومين خلال هذه الجولة السريعة والغاضبة كان وحيد مظلومين، المعروف باسم “ملك العملة [الذهبية]”، واسماعيل قاسمي. وفي 21 تشرين الأول/أكتوبر، أقرّت “المحكمة العليا” أحكام السجن مدى الحياة بحقهما بتهمة “الإفساد في الأرض من خلال تخريب النظام الاقتصادي” وإنشاء شبكة تجارية غير مشروعة بالعملة الأجنبية والعملات الذهبية. واتهم القضاء هذين “الفاسدين” بشكل خاص بعلاقاتهما القوية مع المسؤولين الحكوميين والتعاون مع مؤسسات مثل “البنك المركزي”. وفي 4 آب/أغسطس، تم إقالة مسؤول العملة في “البنك المركزي” أحمد عراقجي، وأُلقي القبض عليه في اليوم التالي. (هو ابن أخ عباس عراقجي، المفاوض النووي ونائب وزير الخارجية). وفي 23 أيلول/سبتمبر، أعلن الناطق باسم السلطة القضائية الإيرانية غلام حسين محسني إيجائي، منع محافظ “البنك المركزي” السابق فالي الله سيف من مغادرة البلاد. ووفقاً لبعض التقارير، يحمل سيف بطاقة إقامة أسترالية دائمة كما تعيش عائلته في أستراليا.
وخارج القطاع المالي، اتّخذت الحكومة إجراءات قمعيّة واسعة النطاق ضد المُضربين مثل المعّلمين وسائقي الناقلات. وفي الأشهر الأخيرة، وفي محاولة لإدخال الخوف، نفّذت طهران مئات الاعتقالات التي استهدفت مجتمع الأعمال، والنقابات، واتحادات الطلاب، والناشطين في مجال حقوق الإنسان والبيئة، ومنظّمي الاحتجاجات والمدافعين عن المصابين بأمراض عقلية، وأصدرت لاحقاً أحكاماً بحقّهم هي السجن لفترات طويلة بهدف إحباط معنويات هؤلاء المواطنين. وقد تم قتل البعض عشوائياً، مثل الناشط البارز فرشد مكي، الذي تم العثور على جثته المحترقة في صندوق سيارته في 17 تشرين الأول/أكتوبر.
العلاقة بين السياسة الإقليمية والداخلية
فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية، كان بعض المسؤولين المقرّبين من خامنئي يضغطون من أجل وضع استراتيجية أكبر لـ “المقاومة”، تهدف إلى تراجع واشنطن [عن قرارها]. وجاء أحد الانتصارات المتصوّرة في هذا المجال في أعقاب الهجوم الذي وقع على عرض عسكري في الأهواز في إقليم خوزستان جنوب غرب إيران في 23 أيلول/سبتمبر، والذي نُسب إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» وأدّى إلى سقوط أكثر من 24 قتيلاً. وردّ «الحرس الثوري» الإيراني باستهداف قواعد “إرهابية” في سوريا عبر صواريخ أرض – أرض وطائرات بدون طيار – ولم يُثبت بعد الادعاء الإيراني بأن الأهداف كانت تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الأيام التالية، انخفضت قيمة الدولار بالنسبة للريال للمرة الأولى منذ عدة أشهر، وارتفع سعر النفط العالمي، وقرّرت الولايات المتحدة سحب صواريخها من طراز “باتريوت” التي كانت تحمي القوات العسكرية الأمريكية في البحرين والكويت. وعلى الرغم من اعتبار معظم المراقبين عدم ارتباط هذه التطورات بالعمليات الإيرانية، إلا أنّ المتشددين أصرّوا على عكس ذلك. وفي 10 تشرين الأول/ أكتوبر، أشارت صحيفة “كيهان” في افتتاحيتها بعنوان “الأمن الاقتصادي من خلال تفوّق الصواريخ”، إلى أنّ هذا الرد أدى إلى فوائد اقتصادية استثنائية، حيث “أن انخفاض قيمة الدولار وارتفاع أسعار النفط أظهرا أنّ مقاومة الشعب الإيراني وإطلاق صاروخ «الحرس الثوري» عكسا ما نتج عن التهديدات الأمريكية. والأهم من ذلك، فيما يتعلق بالمجال الحقيقي للمواجهات الدولية والإقليمية، أثبت كل ذلك أن المقاومة هي الطريقة الوحيدة لمواجهة التهديدات وليس التفاوض”. وتابعت الافتتاحية: “عندما كان العملاء السرّيون للعدو يتحدثون عن التفاوض، كانت قيمة الدولار الأمريكي في ارتفاع، ولكن عندما ضربت الصواريخ [أماكن] قرب القوات الأمريكية في سوريا، انخفضت تلك القيمة”. ووفقاً لرأي الصحيفة، فقد ثبت خطأ ادعاء فصيلة “التسميم الغربي” بأنّ المقاومة تؤدي إلى [اندلاع] حرب و [قيام] مشاكل الاقتصادية. وعلى العكس من ذلك، أكّد الهجوم الصاروخي أنّ المقاومة الفعّالة تؤدي إلى الأمن الاقتصادي، كما عبّر عن وجود صلة مباشرة بين القدرة العسكرية والمرونة الاقتصادية.
أما بالنسبة إلى فائدة أخرى واضحة، فإنّ “إطلاق الصاروخ قد بعث رسالة واضحة إلى بلدان المنطقة، حيث دفع بمشائخ الدول العربية في الخليج العربي إلى الإدراك بأنّ أيّ تعاون مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعقوبات على إيران لن يؤثر على أمن بلدانهم فحسب، بل على اقتصادياتها أيضاً”. بالإضافة إلى ذلك، أشار ردّ الفعل الأمريكي السلبي على عملية الإطلاق إلى الجدّية التي اتخذت بموجبها واشنطن الرسالة المقصودة. وكدليل على ذلك، أشار المدافعون عن اتباع مقاومة أشد قوة إلى ما ورد في مقال لصحيفة “وول ستريت جورنال” بتاريخ 1 تشرين الأول/أكتوبر، جاء فيه: “حتى مع تحذير ترامب من التهديد [القادم من] الجمهورية الإسلامية، تعمل أمريكا على نقل قوّة بحرية وجوية بعيداً عن المنطقة”. ومن خلال هذا التفسير، كانت الولايات المتحدة تواصل إظهار معارضتها للتدخل في المنطقة، موضحةً التصريح المتكرر لخامنئي: “بفضل قدرة إيران الدفاعية، لن تكون هناك حرب”.
لقد سعى المعسكر الإيراني المتشدد إلى تسليط الضوء على مؤشرات أخرى حول تحقيق النجاح المزعوم. فكما أوضحت افتتاحية “كيهان” نفسها: “في اليوم الذي انهار فيه الدولار في إيران، أصدر المدعي العام التركي أمراً باحتجاز 417 مشتبهاً بهم، من بينهم 126 إيرانياً بتهمة غسل الأموال ونقل الدولارات إلى الولايات المتحدة” – من الواضح عن طريق تركيا. وادّعى المقال زوراً، أنّ “معظم متلّقي الدولار هم يهود أمريكيون من أصل إيراني”. واختتمت الافتتاحية بتأكيدها “بيان آية الله خامنئي الذي يفيد بأنّ «الخضوع يُعتبر أكثر تكلفة من المقاومة».”
مُشكلة بالنسبة لواشنطن
يتمتع خامنئي والمتشددون بتاريخ طويل في قراءة أيّ تطورات تثبت حكمة سياسة المقاومة المفضّلة لديهم بدلاً من سياسة التفاوض والتوفيق. وليس من المستغرب أن ذلك كان ردّهم على زيادة الضغط الاقتصادي الأمريكي. ومجدداً، يبدو أنّ القول المأثور للعديد من مراقبي إيران صحيحاً، وهو: أن طهران لا تستجيب للضغوط [العادية]، بل تستجيب للضغوط الكبيرة فقط. سيتعيّن على واشنطن الحفاظ على ضغوط (أكثر فِطنة) وزيادتها على الأرجح على مراكز صنع القرار في إيران، قبل أن يوافق المتشددون على مضض على السماح بالمفاوضات، التي سينتقدونها حتى أثناء السماح لها بالمضي قدماً.