تصاعد اعتماد أطراف الصراعات الداخلية في المنطقة العربية، وبصفة خاصة في النصف الأول من العام 2015، على استراتيجيات “حروب الاستنزاف” في مواجهة خصومهم بهدف دفعهم إلى عدم الاستمرار في الصراع من خلال عمليات الاستهداف المتتابع للمواقع العسكرية الاستراتيجية والهجمات الخاطفة لرفع تكلفة الصراع بشريًا وعسكريًا، وتدمير الموارد الحيوية التي يسيطر عليها الخصوم في خضم اقتصاديات الصراع، وتقويض قدرات الأطراف المناوئة على تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان المناطق الخاضعة لسيطرتها بهدف القضاء على التأييد المجتمعي والحواضن الشعبية للخصوم.
أنماط الاستنزاف:
على الرغم من أن “حروب الاستنزاف” عادة ما ارتبطت بالصراعات الدولية كأحد أهم استراتيجيات الصراعات الممتدة بين الدول، إلا أن تصاعد انخراط الفواعل المسلحة من غير الدول في الصراعات الداخلية في المنطقة العربية أدي إلى تزايد اعتماد أطراف الصراعات الداخلية على “حروب الاستنزاف”، حيث أن توازن الضعف الحاكم للصراعات الأهلية في بعض دول الإقليم وافتقاد كافة أطراف الصراعات للقدرة على حسمها لصالحهم أدى إلى اللجوء لاستراتيجيات الاستنزاف في ظل استناد أغلب أطراف الصراع إلى ظهير قبلي أو طائفي أو ديني أو دعم خارجي من بعض الأطراف الإقليمية، ومن ثم تعددت وسائل وأنماط “حروب الاستنزاف الداخلية” في المنطقة العربية لتشمل ما يلي:
1- الاستنزاف العسكري: اتبعت الميليشيات القبلية في اليمن استراتيجية الاستنزاف في مواجهة التمدد الحوثي في المناطق القبلية، حيث كونت قبائل حضرموت كتائب مسلحة قامت بعمليات استهداف للحوثيين على حدود المحافظة في منتصف مايو 2015، والأمر ذاته ينطبق على قبائل مدينة الحديدة حيث قامت “المقاومة الشعبية التهامية” في 11 مايو 2015 باستهداف كتائب تابعة للحوثيين والرئيس السابق على عبدالله صالح مما أوقع حوالي 300 قتيل في صفوفها، كما امتدت معارك استنزاف الحوثيين إلي محافظة مأرب النفطية ومدينة تعز وعدن في إطار استهداف ميليشيات القبائل للمواقع العسكرية ودوريات الحوثيين.
وفي سوريا تصاعدت عمليات استنزاف قوات “حزب الله” في القلمون من جانب “جيش الفتح” و”داعش”، خاصة في ظل امتداد المعارك المحتدمة والقصف بالمدفعية إلي مناطق الحدود اللبنانية- السورية بمحاذاة منطقة عرسال، إلا أن الفصائل السورية باتت تعتمد على نصب الأكمنة العسكرية لوحدات “حزب الله” واستغلال عنصر المفاجئة في تصفية عناصره والاستيلاء على معداتها العسكرية على غرار العملية التي تمت في 18 مايو 2015. في السياق نفسه، شهدت تونس عمليات استنزاف عسكري عقب قيام خلية بتجنيد أحد العسكريين الذي أطلق الرصاص بشكل عشوائي على زملائه في معسكر بوشوشة في وسط العاصمة التونسية في 25 مايو 2015 مما أسفر عن سقوط 6 عسكريين وإصابة 8 آخرين، وهو ما يأتي امتدادًا للعمليات الإرهابية التي كان أهمها تفجيرات متحف باردو في 18 مارس 2015 والتي أسفرت عن سقوط 22 قتيلا.
2- الحصار المناطقي: أدي اعتماد تنظيم “داعش” على عمليات استنزاف القدرات العسكرية للجيش العراقي والميليشات الشيعية إلى تمكنه من بسط سيطرته على مدينة الأنبار العراقية في 17 مايو 2015 في ظل قيام التنظيم بمحاصرة المدينة مما أجبر قوات الجيش العراقي على الانسحاب وهي الاستراتيجية ذاتها التي اعتمد عليها التنظيم في مواجهة قوات النظام السوري في مدينة تدمر، والتي أحكم التنظيم سيطرته عليها بالتوازي مع سيطرته في 21 مايو 2015 على “معبر التنف” آخر المعابر الواقعة بين سوريا والعراق التي كان يسيطر عليها النظام السوري.
كما اعتمد نظام الأسد على الاستراتيجية نفسها في مواجهة الفصائل السورية في ريف حلب وريف دمشق ودرعا، حيث قام بتطويقها ومنع تدفق الإمدادات الأساسية إليها مع تكثيف عمليات القصف العشوائي بهدف الضغط على الميليشيات المسلحة المتحصنة بالمدن الرئيسية، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن تمدد الحوثيين في مدينة عدن ارتكز على تطويق المحاور الرئيسية التي تصل المدينة بجوارها الجغرافي بهدف منع تدفق الإمدادات العسكرية والدعم من القبائل المؤيدة للرئيس عبدربه منصور هادي.
3- تدمير الموارد: اتجهت أغلب أطراف الصراعات الداخلية إلى تدمير الموارد الحيوية التي تسيطر عليها الأطراف الأخرى بهدف القضاء على قدرتها على التعايش الاقتصادي مع ديمومة الصراع الممتد، ففي ليبيا ركزت قوات “فجر ليبيا” على تدمير المرافق النفطية التي يسيطر عليها “الجيش الوطني الليبي” المدعوم من مجلس النواب المنتخب في طبرق، على غرار عمليات تفجير خطوط الأنابيب بين حقل السرير، ومرسي الحريقة النفطي في طبرق والتي وقع أكثرها عنفًا قبيل نهاية فبراير 2015، كما تصاعد الصراع بين الفرقاء القبليين في ليبيا للسيطرة على منطقة الهلال النفطي خاصة مينائي السدرة ورأس لانوف في ظل هجمات كل من “فجر ليبيا” و”داعش” للسيطرة عليهما وتصدي قوات “الجيش الوطني الليبي” لتقدم “فجر ليبيا”، ويندرج في الإطار نفسه استهداف قوات “الجيش الوطني الليبي” في منتصف مايو 2015 لناقلة نفط يونانية كانت متجهة لمناطق “فجر ليبيا”، وسفينة تركية كانت متجهة لمنطقة درنة التي يسيطر عليها تنظيم “داعش”.
وفي هذا السياق، سيطر تنظيم “داعش” في سوريا على حقلي الهيل والارك لإنتاج الغاز الواقعين بين تدمر وبلدة السخنة في 25 مايو 2015 بعد كانت قوات نظام الأسد تعتمد عليهما في تلبية الطلب المحلي المتصاعد على الغاز، كما قامت الميليشيات القبلية في حضرموت بالسيطرة على مجمع الشركات النفطية في 17 أبريل 2015 بعد انسحاب القوات المسئولة عن تأمينها في إطار محاولة منع الحوثيين من السيطرة على البؤر النفطية في اليمن.
4- تخريب المرافق: اتجهت التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة لتخريب المرافق العامة للضغط على نظم الحكم عبر تقليص قدرتها على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، إذ اتجهت الخلايا الإرهابية والتيارات الراديكالية في مصر لاستهداف أبراج الكهرباء لخلق أزمة في تدفقات الطاقة خلال فصل الصيف وقرب حلول شهر رمضان، حيث قامت هذه الخلايا بتدمير عدد من أبراج الضغط العالي في أسوان والبحيرة والشرقية والقاهرة والجيزة والتي كان أبرزها تفجير بعض أبراج الكهرباء الواصلة لمدينة الإنتاج الإعلامي بمدينة 6 أكتوبر قبيل نهاية أبريل 2015 مما تسبب في خسائر مادية وانقطاع مؤقت في خدمات الكهرباء، وهو ما يزيد من السخط الداخلي إزاء دور الحكومة المصرية في معالجة الأزمات الحياتية.
على مستوي آخر، اعتمدت التنظيمات الإرهابية في اليمن على تدمير أنابيب وخطوط نقل الطاقة بين المحافظات اليمنية ومحطات الكهرباء للضغط على الحكومة اليمنية شعبيًا قبيل توسعات الحوثيين، وعقب هيمنة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، باتت استراتيجيتهم تعتمد على الاستيلاء على الموارد المخصصة للمحافظات اليمنية للضغط على حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، حيث كشف بدر باسلمة وزير النقل اليمني في 22 مايو 2015 عن استحواذ ميليشيات الحوثيين على نسبة 75 في المائة من المعونات البترولية التي وصلت أخيرًا إلى اليمن، والتي تبلغ حمولتها 100 ألف طن من المشتقات البترولية، واستغلالها لصالح تشغيل الآليات والمعدات العسكرية الثقيلة، فضلا عن استيلاء الحوثيين على إمدادات الطاقة والغذاء المتدفقين للمدن اليمنية.
محفزات الانتشار:
يرتبط انتشار أنماط “حروب الاستنزاف” في الصراعات الداخلية بالتحولات التي أعقبت الثورات العربية في ظل تآكل احتكار مؤسسات الدولة للقوة المسلحة وانتشار أنماط الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية والجيوش المناطقية والعشائرية والقبلية التي نشأت لتلبية الطلب المتصاعد على الأمن مع اتساع نطاق الانتماءات الأولية لملأ الفراغ الناجم عن تصدع بعض الدول تحت وطأة الصراعات الأهلية.
وفي هذا الإطار، أدي تفكك الجيوش الوطنية في اليمن وسوريا والعراق وليبيا لانتشار أنماط “حروب الاستنزاف” بين الفصائل المسلحة نتيجة تغير طبيعة القدرات العسكرية للميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية وامتلاكها لأسلحة نوعية تضاهي الأسلحة التي تمتلكها الجيوش الوطنية خاصة عقب تمكن بعض الميليشيات المسلحة من الاستيلاء على أسلحة بعض المؤسسات العسكرية بسبب تصدع مؤسسات الدولة على غرار الأوضاع في ليبيا واليمن والعراق وسوريا.
وعلى الرغم من ارتباط “حروب الاستنزاف” بأنماط الصراعات غير المتماثلة Asymmetric Conflicts والتي نشأت في خضم المواجهات العسكرية بين الجيوش النظامية والميليشيات المسلحة في إطار حروب العصابات، إلا أن أطراف الصراعات الداخلية في المنطقة العربية باتت تعتمد بدرجات متفاوتة على هذه التكتيكات لرفع تكلفة استمرار الخصوم في الصراع وتقويض قدراتهم العسكرية وقطع خطوط الإمدادات التي يعتمدون عليها وحصارهم اقتصاديًا ومجتمعيًا.
كما اتجهت التنظيمات الإرهابية المسلحة في الدول العربية لتوظيف الاستراتيجية نفسها في مواجهة الجيوش الوطنية بهدف الضغط على نظم الحكم شعبيًا عبر التحكم في احتياجاتهم الأساسية والضغط على المرافق العامة من خلال استهداف محطات توليد الطاقة وأبراج الكهرباء وخطوط نقل المياه والمؤسسات التعليمية وقافلات نقل الإمدادات الغذائية، ولا ينفصل ذلك عن سعى التنظيمات الإرهابية لاستعراض إمكانية تهديدها للأمن والاستقرار بهدف التشكيك في قدرة المؤسسات الأمنية والعسكرية على تحقيق الأمن.
ولا تنفصل حالة الاستنزاف المتبادل في الصراعات الداخلية المحتدمة في الدول العربية عن تدخل بعض الأطراف الخارجية بهدف دعم حلفائها عسكريًا ولوجستيًا على غرار الدعم الإيراني عسكريًا للحوثيين وهو ما كشفت عنه حادثة السفينة “شاهد”، التي سعت لاختراق الحصار البحري المفروض على اليمن في منتصف مايو 2015 بدعوي تقديم مساعدات إنسانية لليمن، وهو ما اعترضت عليه دول التحالف الداعم للشرعية في اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية، الأمر الذي دفع إيران للقبول بتوجيه السفينة لجيبوتي للتفتيش.
الأمر ذاته ينطبق على السفينة التركية التي كانت متوجهة لمدينة درنة التي يسيطر عليها “داعش” في ليبيا في منتصف مايو 2015، وهو ما دفع “الجيش الوطني الليبي” لقصفها متهمًا تركيا بنقل أسلحة إلى التنظيمات الإرهابية في ليبيا، وترتب على خسائر نظام الأسد في جبهات القتال في سوريا نتيجة استراتيجيات الاستنزاف التي تتبعها الفصائل السورية، إعلان حسن نصر الله زعيم “حزب الله” في 24 مايو الجاري الاستنفار للتصدي لتمدد الفصائل المعارضة في سوريا داعيًا لتعميم تجربة “الحشد الشعبي” في لبنان، ومهددًا بأنه في حالة عدم تدخل الدولة لتحرير عرسال من سيطرة “جبهة النصرة” وحلفائها فإن “حزب الله” سيدعم أهالي بعلبك الهرمل للتصدي لهم عسكريًا.
إجمالا، من غير المرجح أن تؤدي “حروب الاستنزاف” لحسم الصراعات الداخلية في الإقليم لصالح أي من الأطراف في ظل تعقيدات الصراعات الداخلية الممتدة وارتباط استمرارها بالانقسامات الطائفية والقبلية والقواعد الشعبية الداعمة للميليشيات المسلحة والدور المركزي للقوى الإقليمية والدولية في دعم فرقاء الصراع الداخليين فضلا عن الطبيعة الدائرية للصراعات الداخلية التي تزيد من قدرة الأطراف المتصارعة على التعايش واستيعاب الخسائر وإعادة ترتيب صفوفها وتعويض الموارد المفقودة استعدادًا لجولات التصعيد المتتابعة في خضم الصراع الممتد.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية