قبل أيام شاركتُ في ملتقى بحثي عُقد في بكين، حول التعاون في مجالات الإعلام بين أفريقيا والصين، ناقش فرص ومشكلات العلاقة بين الطرفين في إطار مبادرات الصين للتعاون مع أفريقيا وأشهرها إنشاء صندوق التنمية الصيني والأفريقي ومنتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC) وطريق الحرير، ثم الحزام والطريق. والفكرة الرئيسة التي هيمنت على الملتقى هي أن التعاون الاقتصادي تطوَّر كثيراً بين الطرفين، حتى صارت الصين الشريك الاقتصادي الأول لأفريقيا، لكن ذلك لم يواكبه تطور في مجالات الإعلام والثقافة والفن ونشر الأفكار والمعلومات أو ما يعرف بالقوة الناعمة. الصين – وبعيداً مِن الأرقام – حققت حضوراً إعلامياً وثقافياً متنامياً في أفريقيا، حيث افتتحت مئات المعاهد لتعليم اللغة ونشر الثقافة الصينية، ودعمت تحويل البث التلفزيوني إلى الشكل الرقمي في بعض الدول الأفريقية، وقامت بتوفير البنية التحتية اللازمة في عشرة آلاف قرية لاستقبال البث بالقمر الاصطناعي اعتماداً على الطاقة الشمسية. وتعمل وكالات الأخبار والتلفزة الصينية وكثير من القنوات التلفزيونية والإذاعية في معظم دول القارة، حيث تقدم مضامين وبرامج إخبارية وترفيهية ورياضية، تنتج وتوزع بشكل جذاب وبمستويات مهنية متقدمة.
كما تفوقت شركة «استار تايمز» الصينية على القنوات الغربية بتقديم مسابقات ودراما لممثلين أفارقة. لكن هذه الأنشطة غير كافية وتحتاج مزيداً من الدعم، فاللغة الصينية غير منتشرة بين النخب في الدول الإفريقية، والقنوات التلفزيونية والرسائل الإعلامية والدراما باللغات المحلية الإفريقية أو بالانكليزية أو الفرنسية أقل انتشاراً، وأقل تأثيراً من وسائل الإعلام الغربية الموجودة منذ سنوات طويلة في أفريقيا. لكن تأثير القوة الناعمة الغربية في أفريقيا مهدد دائماً بالتاريخ الاستعماري، علاوة على الشروط الصعبة للتعاون الاقتصادي والثقافي بين الدول الغربية والدول الإفريقية. والحقيقة أن نجاح النموذج التنموي الصيني وجاذبيته وحرص الصين على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية أو فتح ملفات حقوق الإنسان يشجع كثيراً من الحكومات على التعامل بإيجابية مع الإعلام الصيني، والذي لم يكتف ببث برامج ومضامين من خلال إعلاميين أفارقة وصينيين، وإنما أضاف إليها برامج تدريب لمئات من الصحافيين الأفارقة ومنحاً دراسية. هذه الجهود ربما تعزز من مكانة وحضور الإعلام الصيني في أفريقيا، لكن هناك إشكاليات ومحاذير مطروحة للنقاش بين الطرفين الأفريقي والصيني ولا بد من التفكير فيها، وأهمها:
أولاً: أن أنماط التغطية الإعلامية الصينية للأحداث في أفريقيا لا تزال متأثرة بالتقاليد الغربية، مثل الإثارة والتركيز على الأحداث السلبية وتغليب السبق الإعلامي على المسؤولية الاجتماعية، ومحاولة جذب جمهور جديد في شكل دائم وخلق تنافسية دولية، على حساب التركيز على القضايا التي تهم الشعوب الإفريقية واحتياجاتهم التنموية والثقافية. في هذا السياق، فإن هناك مشكلات في التعامل بين الصحافيين الأفارقة والصينيين تتعلق باختلاف الخلفيات المهنية والثقافية حيث يميل الصحافيون الصينيون إلى التركيز على الفرص الاستثمارية والتجارية في أفريقيا والتي تهم الجمهور الصيني أو تهم على الأقل قطاعاً مؤثراً منه، كما لا يقومون بالنشر المباشر وإنما يمر عبر مراحل من المراجعة المؤسسية والتدقيق.
في المقابل يميل الصحافيون الأفارقة إلى العمل بحرية أكبر، اعتماداً على تراثهم في العمل الصحافي.
ثانياً: هناك صور نمطية سلبية متبادلة بين الأفارقة والصينيين، ويبدو أن الإعلام لم ينجح على الجانبين في تصحيحها، ربما لأن غالبية تلك الصور غير واقعية وتشكلت عبر الإدراك والتنميط الغربيين، كما أن الصينيين ينظرون إلى الأفارقة ككل ومن الصعب على غالبية الصينيين التمييز بين دول القارة أو حتى تذكرها، فضلاً عن سيادة صور المجاعات والحروب الأهلية وعدم الاستقرار والبدائية لدى الصينيين عن أفريقيا. ولا شك أنه قد حدث تطور نحو تصحيح الصور المغلوطة المتبادلة لكن ما تزال هناك حاجة ماسة إلى بذل جهود أكثر وإجراء بحوث ميدانية مقارنة ومسوح جمهور للتعرف على مكونات الصور النمطية على الجانبين.
ثالثاً: ضرورة الاهتمام بالتغطيات الصحافية للإعلام المحلي الإفريقي لكل ما يدور في الصين، لأن هناك من يرى أن هذا الإعلام يحوز قدراً من الصدقية مقارنة بالإعلام الصيني الموجه لأفريقيا والذي يُتهم بأنه شكل جديد من الدعاية الخارجية للدولة الصينية. وتتأثر الصحافة الأفريقية في تناول أحداث الصين بنمط الملكية والإدارة السائد في كل صحيفة أو محطة تلفزيون وبأشكال الرقابة والتدخل الحكومي المفروضة على الصحافة المحلية، علاوة على نقص خبرة الصحافيين الأفارقة بالصين، إذ لا يوجد خبراء أفارقة في الشؤون الصينية، رغم وجود عدد معقول من الصحافيين والخبراء الصينيين بأوضاع أفريقيا.
رابعاً: سيادة المفاهيم والنظريات الغربية على العمل الصحافي وبحوث الإعلام في أفريقيا، وبدرجة أقل في الصين، مثل نظرية الصراع ووضع الأجندة والتأطير Framing ، حتى أن نماذج النجاح في أفريقيا توصف بمفاهيم وعناوين غربية. فنجاح جيبوتي يعني أنها كما وصفتها الصحافة «دبي أفريقيا» بينما إثيوبيا هي «صين أفريقيا»، ورواندا هي «سنغافورة أفريقيا».
من هنا تبرز ضرورة مراجعة الأصول الغربية للنظريات والمفاهيم الإعلامية، والتنظير المستقل لمدارس واتجاهات حديثة مثل الإعلام التنموي، وإعلام البناء Constructive Media، وكذلك دعم وتطوير التعاون الأفروصيني في مجالات البحوث المشتركة والنشر العلمي المتبادل.
خامساً: يتهم بعض الصحافيين والباحثين الأفارقة التغطيات الصينية بعدم منح غرب وشمال أفريقيا (المنطقة العربية) الاهتمام الكافي، بينما ينفي الجانب الصيني ذلك، ويؤكد الصبغة العامة للإعلام الصيني في أفريقيا والذي يركز على التعاون المشترك، وعدم التمييز بين دول أو مناطق أفريقيا، ووجود مصالح اقتصادية مشتركة، وعلاقات تاريخية مهمة مع دول غرب أفريقيا وشمالها. وتجدر الإشارة إلى افتتاح أول مكتب لوكالة الأنباء الرسمية، شينخوا، في القاهرة عام 1958. ثم بدأ راديو بكين، وهو ﺇذاعة حكومية، إرساله إلى شرق أفريقيا عام 1967. لكن حضور الصين الإعلامي في أفريقيا لم يبرز على نحو ملحوظ إلا مع بدايات القرن الواحد والعشرين.
سادساً: تحرص المؤسسات الإعلامية الصينية التي تعمل في أفريقيا على تطوير وتحديث المحتوى الإعلامي والانتقال تدريجياً من وسائل الإعلام التقليدية كالإذاعة والتلفزيون والصحافة المطبوعة إلى الإعلام الجديد بأشكاله كافة. وتجري هذه العملية من خلال دمج وسائل الإعلام التقليدية بمنصات للإعلام الجديد وإطلاق منصات جديدة، انطلاقاً من إن غالبية سكان القارة السمراء من الشباب الأكثر ميلاً لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد. لكن هذه العملية تواجه بمشكلات تقنية خاصة بانتشار وسرعة خدمة الانترنت، والأهم إشكالية الأخبار المزيَّفة أو الكاذبة Fake News، والتي تؤثر بالسلب أحياناً على الحضور الصيني في أفريقيا.
سابعاً: يرفض بعض الباحثين والخبراء الصينيين استخدام مصطلح القوة الناعمة، والذي استخدمه للمرة الأولى أستاذ العلوم السياسية جوزيف ناي، ويفضلون عليه مفهوم إعادة التعريف بالصين أو الوسم Rebranding، والترويج للصين كدولة نامية حققت نجاحاً اقتصادياً غير مسبوق. وأعتقد أن رفض استخدام مصطلح القوة الناعمة ربما يرجع لمحاولة البعض خلق تميز واختلاف بين الصين والثقافة الأميركية، لكن هذا التمييز لا يقف على أرض صلبة، فإعادة التعريف أو الوسم يرتبط كثيراً بعمليات البيع والشراء والأنشطة التجارية، بينما الصين هي أكبر من ذلك لأن لديها تاريخاً مهماً ونموذجاً للحياة يشكل أساساً لقوة ناعمة مؤثرة.