كنت فى الطريق إلى القاهرة عندما قرأت مقالا للأستاذ الكبير عبد الرحمن فهمى فى صحيفة المصرى اليوم الغراء بعنوان: الأخبار رائعة..لماذا الجنيه فى غيبوبة؟!.
التساؤل مشروع، ولابد أنه يمر فى أذهان الكثيرين، حيث إن الأخبار الاقتصادية الكلية فى عمومها جيدة سواء ما تعلق منها بمعدل النمو أو الاحتياطى النقدى أو البطالة أو مشروعات البنية الأساسية، أو ما استقر الناس على تسميته بالمشروعات القومية العملاقة؛ كما أن الأخبار المتوالية عن الغاز تسيل اللعاب والأحلام الكثيرة.
إذا كان ذلك كذلك فلماذا لم تتحسن أحوال الجنيه المصري، بل إن حاله تدهور خلال العام الراهن بقدر ضئيل نعم (ثلاثون قرشا تقريبا) ولكن حاله لم يتحسن عما كان عليه عند بداية التعويم أو التبادل الحر مع العملات الأجنبية.
وللحق فإن صاحب المقال لم يدع أنه اقتصادي، وكذلك هو الحال هنا، ولكن طالما أن السؤال مطروح فلابد من محاولة الإجابة، وطالما أن أحدا من المسئولين لم يتعرض له أو تشغله هذه المفارقة المنطقية.
بل ربما يكون الموضوع له صلة بقضية أكبر، وهى أن أولوية الموضوعات الاقتصادية تستدعى نوعا من الإعلام المتعدد الأشكال يجيب على هذا السؤال و الأسئلة الأخرى المماثلة بطريقة تستقر مع المنطق الذى يفهمه المواطنون.
ومن المدهش أنه حتى الآن لا يوجد برنامج تليفزيونى يشرح المسائل الاقتصادية حسبما يطرح من أسئلة، ولا صفحات من الصحف تتعدى الأخبار المتعلقة بالاقتصاد وتتجاوز الدعوة لتحمل الأعباء أو الدفاع عن السياسات الاقتصادية بصفة عامة.
فالحقيقة أن الشعب المصري، أو غالبية فيه، قبلت حقيقتين: الأولى أن السياسات الاقتصادية التى تعودنا عليها خلال العقود الماضية لم يعد ممكنا استمرارها؛ والثانية أنه لكى تتقدم مصر فلابد من تحمل أعباء الألم وتقديم تضحيات كما فعل الكثير من الدول التى نجحت وسبقتنا فى سلم التقدم.
والحقيقة أيضا أنه لابد من الفهم لديناميات الحياة الاقتصادية وآلياتها التى تتجاوز الأرقام المبشرة والحقائق الواقعة على الأرض، والتى رغم ذلك لا تزال أقل بكثير مما هو واجب علينا فعله فى ظل الزيادة السكانية المستمرة والتى لا يشكل فارقا معها إلا معدلات للنمو تصل إلى 8% سنويا وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
هذا الخلل الهيكلى له علاقة مباشرة بتحديد سعر الجنيه القائم على العرض والطلب والذى يترجم إلى خلل فادح ما بين الواردات التى تدفع بالعملات الأجنبية وتصل إلى 63 مليار دولار، والصادرات التى لا تتجاوز 25 مليار دولار. صحيح أن هناك موارد أخرى للنقد الأجنبى من قناة السويس وبعض المعونات الأجنبية والسياحة، إلا أن كلها وجميعها تبقى خللا يبقى الجنيه المصرى على حاله مع درجة من الاستقرار النسبى استمرت خلال العامين الماضيين مقارنة بالدول البازغة الأخري.
وهناك سبب هيكلى آخر وهو أن فلسفتنا الصناعية والزراعية فى التنمية قامت على مدى عقود طويلة على الإحلال محل الواردات وهذه بدورها عقدت المسألة كلها أكثر، حيث قامت النظرية على أنه مع توقف الواردات من سلعة ما سوف يقلل من العجز التجاري، ولكن الواقع لا يجد فى ذلك تحسنا كبيرا حيث إن العملية الإنتاجية نفسها تحتاج بدورها إلى واردات فى مستلزمات الإنتاج بالعملات الأجنبية فى سلع ليس لدينا فيها مزايا تنافسية. وخلال هذه المرحلة من المشروعات الكبيرة، فإنها جميعها ترتبط بواردات كلها بالعملات الصعبة وفى المقدمة منها الدولار.
تحسن حالة الجنيه المصري، وخروجه من الغيبوبة وهى فى حالتنا هذه السعر الذى استقر عليه منذ التعويم تقريبا، يرتبط ارتباطا كليا بزيادة مواردنا بالعملات الأجنبية بأكثر مما ننفقه فى الخارج سواء كان للاستيراد، أو لنفقات لابد منها مثل القمح والدواء.
وفى العادة فإن الدول الأخرى تفعل ذلك من خلال تكثيف الاستثمارات الأجنبية إلى حدود لم تعرفها مصر حتى الآن رغم التحسن الكبير فى البنية الأساسية، وتوافر الطاقة بأنواعها المختلفة من غاز وكهرباء.
مشكلتنا الكبرى كانت ومازالت فى ممارسة الأعمال، وعندما يظهر تقرير هذه الممارسة عن برنامج الأمم المتحدة للإنماء، ورغم التحسن ثمانى مراتب إلى الأمام فى التقرير الأخير، فإن ترتيبنا الدولى لا يزال فى المكانة 120 بين دول العالم.
هذه مسألة سياسية فى المقام الأول لأنها ترتبط باتخاذ القرار بأن تكون مصر فى المقدمة عند إدارة الثروة بما فيها من مشروعات وأعمال، أى زراعة وصناعة وخدمات وتعدين إلى آخره.
الأمر الآخر فى يدنا أيضا لأنه يرتبط بالسياحة التى رغم تحسنها الملموس خلال العام الأخير، والأهم أن العالم بات يعتقد أن العنف والإرهاب فى مصر مثله مثل ما هو موجود فى بلاد العالم الأخري؛ إلا أن أرقامنا لا تزال متواضعة وأقل من الحد الذى يسد الفجوة الواسعة فى توازن العملات الأجنبية مع الجنيه المصري.
هنا يقع على الشعب الكثير من واجبات التدريب والوعى بكيفية التعامل مع السائح بشكل ينافس حقا الدول السياحية الأخرى والتى يجب أن نعترف بأنها أقل بكثير من الواجب فى هذه الخدمة. الحكومة بدورها عليها واجبات كبرى فى ترقية المداخل المصرية من مطارات وموانٍ وفى المقدمة منها مطار القاهرة الدولى الذى يوجد فيه ما ليس موجودا فى مطارات العالم الأخري.
الخلاصة إن تحسن أحوال الجنيه المصرى لا يكفيها كل الأخبار الحسنة التى لدينا، والتى نجحت إلى حد كبير فى تحقيق استقرار للجنيه نسبيا، ومنعه من الانهيار؛ ولكن ما يحتاجه الجنيه هو أكثر من كل ما تحقق بأن تكون كل الجهود للتصديرفلا نترك سلعة يمكن تصديرها دون تصدير، وأن يعرف الشعب ما عليه من واجبات حتى يجذب شعوب الدول الأخرى لكى تأتى إلينا سواء للاستثمار أو للسياحة أو للاستهلاك وكفي.
فإذا فعلنا ذلك فإن فرص الجنيه المصرى فى الخروج من الغيبوبة كبيرة؛ وساعتها فإن التضخم سوف يتراجع، ومعه عجز الموازنة والميزان التجارى بحيث تكون الأخبار الطيبة والأنباء الحسنة أكثر من رائعة.