لم تفلح جهود التقارب الشخصي التي بذلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبناء علاقات جيدة أو مقبولة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وعلى وقع تصريحات من هنا وتغريدات من هناك انتهت “رقصة التانغو” بين الرئيسين، ومن الواضح أن محاولة اللملمة عبر الصلات الشخصية لم تصمد أمام المقاربة المختلفة لإدارة العلاقات الدولية بين الجانبين والتناقض الكبير إزاء الانسحاب الأميركي من اتفاقيات دولية أو حيال النظرة لأمن أوروبا أو الحروب التجارية وغيرها.
ويبدو أن الحسابات الداخلية كانت لها حصتها في تدهور علاقات الطرفين وستجعل ترميم الصلة الثنائية الأميركية-الفرنسية على المستوى الرئاسي أكثر تعقيدا، من دون أن يعني ذلك عدم استمرار العمل المشترك والتحالف على صعيد المؤسسات بشكل براغماتي تفرضه الواقعية السياسية والمصالح التي تتخطى النزق والمزاج الشخصي.
بدأ التوتر عشية إحياء فرنسا الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى التي شارك فيها حوالي سبعين رئيس دولة، وذلك عندما أدلى الرئيس إيمانويل ماكرون بتصريحات تدعو إلى ضرورة تشكيل جيش أوروبي لحماية القارة القديمة “من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة”. وبغض النظر عن التتمة وإمكانيات التنفيذ، أثار الأمر غضب الرئيس دونالد ترامب الذي رد من خلال وسيلة إعلامه المفضلة “تويتر” ما إن وصل الأراضي الفرنسية، معتبرا أن وضع بلاده ضمن قائمة الخصوم والأعداء مهين جدا.
وبالرغم من مساعي ماكرون للملمة الوضع خلال اللقاء الثنائي في قصر الإليزيه وهو اللقاء الوحيد الذي خص به ضيوفه، شن ترامب في طريق عودته إلى بلاده سلسلة هجمات عبر تغريدات متتالية استهدف فيها شخصيا إيمانويل ماكرون وشعبيته المنخفضة، ولوح بالرسوم على النبيذ الفرنسي المستورد، ومن خلال تنديده بفكرة “الجيش الأوروبي” هزئ ترامب من تاريخ فرنسا التي “بدأت تعلم اللغة الألمانية” لولا لم تهب القوات الأميركية لإنقاذ باريس من الاحتلال النازي.
واستدعى ذلك ردودا من ماكرون مركزا على أن التعامل بين بلدين حليفين منذ وقت طويل، مثل فرنسا والولايات المتحدة يجب أن يقوم على الاحترام المتبادل، مشيرا إلى دعم فرنسا لحرب الاستقلال الأميركية ودعم الولايات المتحدة لفرنسا في الحربين العالميتين. ومع التأكيد على موقع بلاده كبلد حليف وليس دولة تابعة للولايات المتحدة، غمز أيضا من أن “ترامب لا يستهدف سوى الجماهير داخل الولايات المتحدة”، وتابع “أعتقد أنه يمارس لعبة سياسية وأنا أدعه يلعبها”.
يخشى صانعو القرار الفرنسي من تفويت أوروبا الفرصة التاريخية في حال عدم مقاربة استقلالها الاستراتيجي ومستقبلها بشكل مستقل عن واشنطن، لكن حظوظ النجاح واهية استنادا إلى الفجوة الواسعة بين أفكار ماكرون الطموحة والواقع الأوروبي المرير
يتعدى السجال اللعبة السياسية التقليدية أو المناورة، إذ أن تصريح ماكرون عن الجيش الأوروبي لم يكن هفوة أو فكرة برسم التاريخ يصعب تنفيذها استنادا لتفكك أوروبا وواقع الاتحاد الأوروبي، بل كان تكتيكا مقصودا لإيجاد هامش مناورة أمام انسداد أفق اللعبة الدبلوماسية مع واشنطن، ونظرا لرغبته في تحسين شعبيته الداخلية من خلال تركيزه على الذاكرة التاريخية وموقع فرنسا القيادي في أوروبا والعالم، لكن الأوساط الفرنسية تعتبر ردة فعل ترامب مبالغا فيها وتربطها بشخصية سيد البيت الأبيض. إذ أنه مقابل الإجماع في الرأي العام الأميركي على استنكار موقف فرنسا جاك شيراك ضد الحرب على العراق عام 2003، لا يحظى تصعيد ترامب ضد فرنسا بمواكبة شعبية.
ومن جهتها لا تتمتع مبادرة ماكرون بحماس فرنسي إذ تأتي في سياق مسعى لتحسين شعبيته المتراجعة وفي التحضير لانتخابات برلمانية أوروبية حساسة في مايو 2019.
بيد أن التراجع في صلات الجانبين لم يكن ابن ساعته بل تدحرج مثل كرة الثلج في الأشهر الثمانية عشر من العلاقات بين ماكرون وترامب.
فمنذ أول اجتماع بينهما حاول الرئيس الفرنسي جذب أو إغواء نظيره الأميركي من خلال المصافحة الشهيرة والتكريم الواسع خلال مناسبة 14 يوليو 2017 في باريس، أو عبر إيماءات التناغم خلال رحلة واشنطن في أبريل الماضي، لكن النتيجة العملية كانت مخيبة لآمال الرئيس الفرنسي الذي لم ينفع نهجه اللطيف أو سعيه ليكون المحـاور المتميز لواشنطن (في ظل انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ومتاعب المستشارة أنجيلا ميركل) في تغيير نهج ترامب. بل تعتبر أوساط قصر الإليزيه أن انسحاب الإدارة الأميركية من اتفاقية باريس المناخية والاتفاق النووي مع إيران، يعني أن ترامب “يعامل القادة الأوروبيين بشكل أقل احتراما من تعامله مع دكتاتور كوريا الشمالية”.
إضافة إلى التوتر والتخبط في المناخ الدولي، قرر ماكرون أن يرفع الصوت عاليا قبل الانتخابات الأوروبية، ويركز على الفارق بين “الوطنية الإيجابية” و“القومية السلبية” وخوفه من “عودة شياطين الماضي التي دمرت أوروبا من قبل”.
وربما فسر ترامب بأنه بين المستهدفين من خطاب ماكرون في 11 نوفمبر ونقده الصريح للقومية والأحادية والشعبوية، ولذلك صب جام غضبه على صديقه السابق والرئيس الشاب من دون خشيته من خدش العلاقات مع فرنسا التي لا توجد عندها إمكانية عملية لتحقيق اكتفاء أو استقلال استراتيجي إزاء المظلة الأميركية-الأطلسية للأمن الأوروبي. ولا يعني استغلال فلاديمير بوتين للفرصة وترحيبه بفكرة “الجيش الأوروبي” مكسبا صافيا لفرنسا، لأن الرئيس الروسي سيوظف ذلك لترتيب العلاقة مع ترامب خلال قمة قريبة في الأرجنتين على هامش قمة العشرين.
يتسلح ترامب في موقفه الهازئ من فرنسا بثقته حيال بقاء المملكة المتحدة إلى جانب بلاده، وصعود الشعبويين في أوروبا من إيطاليا إلى النمسا والمجر وبولندا وغيرها.
وما يمنح ماكرون بعض المواساة تأييد رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد تاسك لفكرته وكذلك خطاب ميركل أمام البرلمان الأوروبي وطلبها إنشاء “جيش أوروبي حقيقي”، و“مجلس أمن أوروبي”، إذ أنه بالرغم من غموض هذه الصيغ، لم يكن اختيار هذه العبارات من قبيل المصادفة. بعيدا عن الجدل الراهن بين فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة، لن تتغير قواعد اللعبة عبر التراشق بالتغريدات أو تسجيل المواقف إذ يبدو جليا أنه في مرحلة إعادة النظر بالنظام الدولي ومساعي إعادة تركيبه، لا تبدو أوروبا موجودة في صلب التوازنات الأساسية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
ولذا يخشى صانعو القرار الفرنسي من تفويت أوروبا الفرصة التاريخية في حال عدم مقاربة استقلالها الاستراتيجي ومستقبلها بشكل مستقل عن واشنطن، لكن حظوظ النجاح واهية استنادا إلى الفجوة الواسعة بين أفكار ماكرون الطموحة والواقع الأوروبي المرير.