في السنوات التي سبقت الثورة الإيرانية، كانت السياسة الأمريكية تقوم جزئياً على أسوأ فشل استخباراتي في تاريخ أمريكا، إذ لم تكن لدى الولايات المتحدة ما تحتاجه من معلومات على الأرض لفهم ما كان يحدث داخل إيران.
وفي ذلك الوقت، كانت إدارة كارتر منقسمةً بين ثلاثة اقتراحات مختلفة بشأن الخطوات التي يجب اتخاذها في المراحل المقبلة في علاقتها مع طهران. ففي حين كان السفير وليام سوليفان [آخر سفير أمريكي في إيران قبل اندلاع الثورة الإسلامية ضد حكم الشاه] قد كتب برقية في عام 1978 دعا فيها واشنطن إلى التواصل مع آية الله روح الله الخميني، إلّا أن وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الحين سايروس فانس حثّ شاه إيران بدلاً من ذلك على التواصل مع المعارضة البعيدة عن العنف وغير الأصولية. ومن جانبه، دعا مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغنيف بريجنسكي إلى إعادة إحلال النظام قبل الحث على إجراء إصلاحات. وتُظهر هذه التناقضات أن هناك حدوداً لمدى قدرة الحكومة الأمريكية على التحكم بالأوضاع السياسية في الخارج عندما تعاني من فشل في مجال الاستخبارات.
وفيما يخص العقوبات، تتحلى الولايات المتحدة اليوم بفعالية أكبر في نشر القوة المالية في أعقاب حملتَين سابقتين من الضغط، الأولى بعد احتجاز الرهائن عام 1979، والثانية في ظل إدارة الرئيس كلينتون. وفي الحملة الأولى، لم تتلقَّ واشنطن أي دعمٍ يُذكر من حلفائها ولم تكن قد بدأت بتطبيق العقوبات الثانوية. وخلال الحملة الثانية، ساهمت العقوبات الثانوية بشكل كبير في تحسين قدرة واشنطن على التأثير على التجارة الإيرانية. واليوم، يشهد المجتمع الدولي تكرراً ثالثاً لهذا السيناريو، ولكن النفوذ المالي الأمريكي أصبح كبيراً، بحيث يبدو من المستحيل التصوّر بأن يتصدى أي مصرف في العالم للعقوبات الثانوية الأمريكية. ويمكن القول إن الحملة المالية الأخيرة ستكون أكثر فعاليةً بكثير، وسيكون تأثيرها المؤلم شديداً على إيران.
وفي المرحلة التي سبقت التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، مارست إدارة أوباما هذا النوع من الضغط. ومع ذلك، عندما اقتصر اعتماد واشنطن على العقوبات الأحادية الجانب، لم تتساوم طهران – ولم يأتِ النظام الإيراني إلى طاولة المفاوضات إلا بعد أن أقنعت الإدارة الأمريكية الاتحاد الأوروبي بوقف استيراد النفط من إيران، وفرض عقوبات على “البنك المركزي” الإيراني، ومنْع شبكة “سويفت” من القيام بعمليات المقاصة الخاصة بالمعاملات المالية الإيرانية. لذلك، إذا نجحت واشنطن حالياً في إعادة تشكيل هذه الجبهة المتعددة الأطراف، فسوف تحقق نجاحاً أكبر في إرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وفي ضوء الاستراتيجية التي تتبعها إدارة الرئيس ترامب، كان من الأفضل للولايات المتحدة أن تبقى طرفاً في الاتفاق النووي، لاستخدامه كأساسٍ للتعاون مع أوروبا في مواجهة سلوكيات إيران المؤذية الأخرى. وعلى أي حال، لا يزال الوضع يدعو إلى فرض عقوبات أشد قسوة على إيران بسبب رعايتها للإرهاب، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، وبرنامجها الصاروخي. يجب على واشنطن أن تضطلع بدور نشط في التصدي لإيران ومقاومتها، لأن النظام الإيراني يهدد استقرار المنطقة وأقرب حلفاء الولايات المتحدة على حدٍّ سواء.
مهرنجيز كار
عند النظر إلى إيران من منظار الحرب الباردة، يمكن أن يفهم المرء السبب الذي جعل المجتمع الإيراني مغلقاً قبل اندلاع الثورة الإسلامية. ففي ذلك الحين كان الشاه متحالفاً مع الولايات المتحدة في التصدي لخطر كبير يهدد حدوده الشمالية، وهو الاتحاد السوفيتي. وحتى لو أراد إرساء نظام ديمقراطي في إيران، لما كان قادراً على منح حرية كاملة لأبناء الشعب في التعبير عن آرائهم وإجراء إصلاحات جذرية مماثلة في مثل تلك البيئة. فقد كان يتوجب على أي تغيير أن يكون بطيئاً لتفادي حدوث فوضى غير مبرَّرة. ومع ذلك، تسبب الشاه في قيام فوضى عام 1978 من خلال سماحه بانفتاح المجتمع بشكل سريع.
وبعد أشهر من اندلاع الثورة، نشبت أزمة الرهائن الأمريكيين، مما أدى إلى انقسام المعارضة ضد الشاه. وشعرت إحدى الكتل بالإحراج من الحادثة وأملت أن تتخذ واشنطن إجراءات لإضعاف النظام الجديد. وكانت تلك الكتلة مقتنعةً بأن قوةً عظمى كالولايات المتحدة ستولي أهميةً كبرى لتحرير الرهائن. ولكن حين اتّضح أن واشنطن لن تتخذ إجراءات فورية، ازدادت ثقة النظام بنفسه فاستمر في سلوكه. ولم يؤدي ذلك التقاعس إلى تعزيز النظام وزيادة جرأته فحسب، بل قضى أيضاً على آمال الإيرانيين الرافضين للتطرف، مما دلّ على عمق التأثير الذي باستطاعة الولايات المتحدة ممارسته حتى من خلال أخطائها.
واليوم، لا تشبه إيران أياً من المثل العليا التي تتحلى بها المجتمعات المنفتحة. فالنظام لا يواجه أي تهديد بالغزو كما كان عليه الحال أيام الشاه، إلّا أنه لا يزال يرسخ مكانته في الخارج ويقمع بوحشية أي معارضة في الداخل. ومع ذلك، فإن البلاد هي أكثر انفتاحاً اليوم من بعض النواحي. فالتغير الاجتماعي والقابلية المتنامية في اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي عززا بشكل كبير قدرة المجتمع الإيراني على إحداث تغييرات سريعة. وبمعنى آخر، سيكون مثل هذا التغيير أقل زعزعة للاستقرار اليوم مما كان عليه الحال في زمن الشاه.
مهدي خلجي
على الرغم من قصور الشاه، إلا أنه لا مجال للمقارنة بين حكمه وحكم الجمهورية الإسلامية. على سبيل المثال، تشير الإحصائيات إلى أنه خلال السبعة وعشرين عاماً التي قضاها الشاه في الحكم قُتل حوالي 3 آلاف إيراني لأسباب سياسية، في حين قتلت الجمهورية الإسلامية أكثر من 5 آلاف سجين في صيف عام 1988 وحده.
واليوم، فإن انعدام بديل سياسي واضح والتجربة المريرة من عام 1979، يجعلان من غير المرجح إندلاع ثورة أخرى في المستقبل القريب. وقد أظهر استطلاع أجراه مؤخراً أحد الإصلاحيين السياسيين أن نحو 85 في المائة من الإيرانيين فقدوا الأمل بالحكومة.
ومع ذلك، تَحْدث تغيّرات هائلة في المواقف الإيرانية، لا سيما فيما يتعلق بحقوق المرأة والدين. فقد شهد الشرق الأوسط في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بروز الإسلاميين، إلّا أن إيران اليوم تعدّ واحدة من أكثر الدول علمانيةً من الناحية الاجتماعية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من 50 في المائة من الإيرانيين لا يصومون – وليس لديهم أي مشكلة في إظهار هذا الرفض علناً بالرغم من كونه جريمة جنائية. وتُعتبر تجربة الحياة في ظل الجمهورية الإسلامية المسؤول الأكبر عن هذا التغير الاجتماعي، ولذا يجب وضع فكرة تغيير النظام ضمن هذا السياق الثقافي.
وحتى الآن، أوضحت الإدارة الأمريكية أن حملة الضغط التي تمارسها ترمي إلى إعادة طهران إلى طاولة المفاوضات. ورغم أن هذا الأمر قد يجبر النظام الإيراني على تقديم تنازلات بشأن بعض المسائل الخاصة بالسياسة الخارجية، إلا أن العديد من الإيرانيين يشعرون بأن واشنطن لا تهتم بحقوقهم. ونتيجة لذلك، أصبحت مشاعرهم متضاربةً بشأن السياسة الأمريكية، فهم يريدون أن تعمل طهران على كبح سلوكها المخل بالاستقرار، لكنهم لا يريدون أن يحدث هذا التغيير على حساب حقوقهم الإنسانية وآمالهم في الحرية.
لقد أصبحت العقوبات اليوم أشبه بالهاجس لدى واشنطن، لكن هناك العديد من الطرق الأخرى للضغط على النظام، بما فيها الدبلوماسية العامة الفعالة. فجهود واشنطن في البث الإذاعي والتلفزيوني في إيران فظيعة وبحاجة إلى تغيير جذري. على سبيل المثال، كان أداء إذاعة “صوت أمريكا” بائساً في تفسير السياسة الأمريكية للإيرانيين – وهو جزء من فشل أوسع نطاقاً في استخدام التأثير السياسي للعقوبات كوسيلة لتعزيز القيم الأمريكية.