واضح جداً ان «شهر العسل» الذي جمع رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بالقوى السياسية ووسائل الاعلام والجمهور، انتهى، والمطارق القاسية باتت تتهيأ، وحملات من الاتهامات والتسقيط السياسي، تسير جنباً الى جنب مع شكاوى موضوعية من بطء الحراك السياسي ، بدأت تطل بشكل يومي من على الشاشات ومواقع التواصل.
ولايعرف بالضبط اذا كان عبد المهدي الذي لاتدعمه كتلة سياسية بعينها، ولا تحميه قوة مليشياوية بعينها، ولا تروج له وسيلة اعلام محددة، ولا زمرة رجال اعمال واضحين، يدرك مخاطر صمته امام عواصف سياسية كبيرة كتلك التي تتعلق بالمعلومات التي كشف عنها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وتتعلق ببيع وشراء المناصب في حكومته، أو أخرى تخص التسريبات حول ازمة العقوبات الاميركية ضد ايران، او مايخص العجز عن اكمال الكابينة الحكومية، والهدوء امام التناحر العلني للاحزاب.
وحتى تُحسم قضية توصيف المشهد السياسي وموقع عبد المهدي منه، يجب القول بصراحة انه لم يكن «رئيس وزراء تسوية سياسية» كما قد يراه بعض شيوخ السياسة العراقية، ولم يكن «مرشح المرجعية الدينية» كما تروج بعض الاوساط، وايضاً ليس «مرشح مقتدى الصدر» كما قد يعتقد آخرون، بل هو ببساطة مرشح «الانغلاق السياسي»، وهو التعبير الاكثر وضوحاً عن فشل الاحزاب والممثليات العراقية وبداية انحسارها، كما انه الوجه الذي قررت الاحزاب العراقية مجتمعة في لحظة شعورها بخطر الانقراض، ان تصدّره بلا ضمانات الى الشعب العراقي الغاضب واليائس والمرتبك، وان تجازف بأن يتحول الى «بطل شعبي» او ان يتحمل على شيباته كلفة الفشل وحده.
وعبد المهدي المفكر والكاتب والسياسي المتنوع الاتجاهات والانتماءات، يدرك حتماً ان القوى العراقية التي رفضته مراراً، لا ترغب بتحويله الى بطل، وانها تفضل ان تتجاوز به مرحلة الخطر الأكبر الى حين تمكنها من اكمال عملية تغيير جلودها واسمائها ومناهجها لتتلاءم مع مرحلة الانقراض والولادة القادمة لامحالة.
ويمكن بسهولة ملاحظة ان لهجة الاستياء والاتهام والتقريع والتسخيف، التي بدأت مبكراً ضد عبد المهدي وحكومته ترتبط بعاملين، الاول سياسي يتعلق برغبة القوى السياسية في «ذبح القط» واثبات هيمنتها على قرار الحكومة من خلال اضعاف هيبتها، وتحويل القرار الى الصالونات السياسية الخفية، والثاني شعبي يخص صمت عبد المهدي نفسه، وعدم مقاومته لصلف زعماء الاحزاب وتجاوزاتهم، بل وتوريطهم له بقائمة وزراء اثارت الاستياء الشعبي من كابينته قبل اكمالها.
وهنا تحديداً يجب اعادة التذكير بمشهد عبد المهدي السياسي، وربما تذكيره هو نفسه، بان مصادفات ومعطيات وصيرورات سياسية وشعبية وضعته وحيداً امام قائمة طويلة من القوى والاحزاب المهيمنة، وانه يمتلك قوة الرفض بقدر امتلاك تلك الاحزاب قوة اقالته من منصبه لو ارادت، لكن المعادلة لصالحه اذا ما عرف ان الاحزاب التي تتعملق امامه انما هي في أكثر مراحلها ضعفاً وانهياراً، وتنازع من اجل الاستمرار، بل وتعلق عليه وحده الآمال لانعاشها.
عندما يدرك رئيس الوزراء العراقي نقطة تمركزه الصلبة تلك، ربما سيعيد تعريف معايير القوة والضعف، ليس امام الاحزاب والزعماء المفترضين، بل وامام داعميهم الاقليميين والدوليين ايضاً، بما يتيح له هامشاً عريضاً للحركة والمباغتة وتسلم زمام المبادرة، وضرب مراكز القوى التي تعرقل نهوض الدولة بل وتنفذ مخططات دائمة لاضعافها وطعنها.
نعم.. الدول التي تمتلك شعباً حياً وثائراً كالشعب العراقي، لايمكن ان تعتمد على فرد واحد لاحداث نقلة في حياتها، لكن هذا الشخص يمكن ان يفتح باباً مشرعاً للتغيير الآمن وبأقل التكاليف، اذا ما وضع نفسه مشروع مواجهة لا مهادنة، واذا ما توصل الى حقيقة موقعه بانه يقف خارج الوسط السياسي وأن لا اعتبارات شخصية ولا علاقات تاريخية ولا تهديدات حزبية يمكن ان تدفع به ليغدو في كتب التاريخ ذلك الذي اختار الانتحار من اجل ان تعيش وتستمر طبقة سياسية غارقة في الفساد.
الضوضاء التي تسمعها خارج باب مكتبك، انما هي اصوات قوى واحزاب مجبولة على رفع صوتها كلما طال صمتك، ستفعل ذلك كل يوم، الى أن تختار ان تفتح الباب وتصرخ بالجميع بأن «اصمتوا».
مشرق عباس