بداية هذا الشهر، أقامت الصين حدثاً على مدى أسبوع، يدعى “معرض الصين للاستيراد الدولي” في شنغهاي، والذي هدف إلى تشجيع التجارة، وترويج الصين كسوق مهم، وإرسال رسالة تفيد بأن الاقتصاد الصيني منفتح على الأعمال. وكان دافع الصين لتنظيم هذا الحدث واضحاً: أنها أمة تعتمد على الصادرات، وأن التعريفات الجمركية الأميركية خفضت الطلب على سلعها. وفي خطابه الافتتاحي، أكد الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أن الصين مستعدة لفتح أسواقها أكثر أمام التجارة الدولية -مع الولايات المتحدة ومع بقية العالم على حد سواء. وكانت ملاحظاته موجهة بوضوح إلى الولايات المتحدة، بينما يتطلع قدماً إلى اجتماعه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في قمة العشرين في الأرجنتين المقررة في واقت لاحق من هذا الشهر. لكن المؤتمر أثار أيضاً أسئلة حول علاقات الصين مع بلد آخر يعاني هو الآخر من نكساته الخاصة في علاقته مع الولايات المتحدة: روسيا. وقال رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، في المعرض أن موسكو وبكين أصبحتا الآن أكثر تقارباً من أي وقت آخر، ووافق الصينيون على ذلك بقوة. وفي الحقيقة، دار الكثير من الحديث عن تحالف روسي-صيني، وتشكل مناسبة مهرجان شنغهاي الكبير فرصة جيدة للنظر بشكل أوثق فيما قد يعنيه ذلك.
لدى كل من الصين وروسيا مشاكل اقتصادية جدية، والتي فاقمتها الولايات المتحدة. وتأتي مشكلات روسيا من التراجع في سعر النفط، وهو مصدر يعتمد عليه الاقتصاد الروسي بقوة. وقد ضاعفت الولايات المتحدة، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، متاعب روسيا بفرض عقوبات اقتصادية عليها في أعقاب التوغلات الروسية في أوكرانيا والتدخل في الانتخابات الأميركية في العام 2016. وتأتي مشاكل الصين، في جزء منها على الأقل، من اعتماديتها على الصادرات. وفي هذا العام، فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على ما تعادل قيمتها أكثر من 250 مليار دولار من الواردات الصينية، وهي تستعد، وفقاً لـ”بلومبيرغ”، للإعلان عن رسوم جديدة تُفرض على جميع الواردات الصينية المتبقية بحلول كانون الأول (ديسمبر) في حال لم تسِر محادثات التجارة على ما يرام.
على السطح، ينبغي أن يكون اشتراك روسيا والصين في مواجهة خصم مشترك وقوي أساساً لإقامة تحالف قوي بينهما. وتعد الدولتان قوتين عسكريتين يعتد بهما، وينبغي أن تكونا قادرتين على دعم بعضهما بعضا اقتصادياً. لكن المظاهر قد تكون خادعة.
على الجبهة الاقتصادية، لن يؤدي تطوير روابط أقوى بين الدولتين إلى حل أي من مشكلاتهما بالكامل. فروسيا في حاجة إلى بيع المواد الخام، وخاصة النفط، بمقادير كبيرة لكي تبقي اقتصادها عاملاً. وفي الفترة ما بين كانون الثاني (يناير) وآب (أغسطس) 2018، شكل النفط الخام نحو 28.8 في المائة من إجمالي الصادرات الروسية، وشكل الغاز الطبيعي نحو 10.9 في المائة، وفقاً لوكالة الإحصاءات الروسية. وكانت الصين أكبر مستوردي النفط الروسي بنسبة 22 في المائة، ولو أنها اشترت 1 في المائة فقط من صادرات روسيا من الغاز الطبيعي. (مع ذلك، في المجمل، استورد الاتحاد الأوروبي من النفط الروسي أكثر مما فعلت الصين). وفي الحقيقة، تشكل الصين مستورداً كبيراً للنفط، وقد تجاوزت الولايات المتحدة لتكون أكبر مشتر للنفط الخام في العام 2017، وفقاً لهيئة معلومات الطاقة الأميركية. لكن المشكلة، مع ذلك، هي أن الواردات الصينية من النفط الروسي تظل محدودة بسبب الافتقار إلى البنية التحتية للطاقة بين البلدين. وخطوط الأنابيب مكلفة ويحتاج بناؤها إلى وقت طويل. ولذلك، ربما تكون الصين قادرة على تخفيض حاجة روسيا إلى مستهلكي النفط بعض الشيء، لكنها لا تستطيع أن تشتري منها ما يكفي لإبقاء الأسعار عالية أو تخفيف مخاطر المزيد من العقوبات التي يمكن أن تستهدف صادراتها من الطاقة.
في الأثناء، تحتاج الصين إلى العثور على مشترين لبضائعها المصنّعة. وفي العام 2017، شكلت الصادرات ما يصل إلى 20 في المائة تقريباً من ناتجها المحلي الإجمالي، وفقاً للبنك الدولي. وتشكل الولايات المتحدة أكبر أسواقها الاستهلاكية، والتي تسهم بنحو 19 في المائة من صادراتها من البضائع، وفقاً لمركز التجارة الدولي. ومع قيام التعريفات الأميركية بخفض هذه الصادرات وتكثيف المنافسة من المصدرين الآخرين، فإن بكين تحتاج إلى العثور على مشترين جدد لبضائعها. لكن روسيا ليست في وضع يمكنها من استهلاك ما يكفي من الصادرات الصينية لتعويض هذه الخسائر -وقد اشترت 2 في المائة فقط من إجمالي الصادرات الصينية في العام 2017. وبذلك، لا تستطيع أي من الدولتين أن تقدم دعماً اقتصادياً يعتد به للأخرى.
على الجبهة العسكرية، صحيح أن البلدين زادتا منسوب التعاون بينهما في السنوات الأخيرة. ومنذ نهاية الحرب الباردة، كانت الصين أكبر مشتر للأسلحة الروسية. ووفقاً لوسائل الإعلام الروسية، فقد حصلت بكين نظام الدفاع الجوي الروسي “أس-400” في تموز (يوليو) من هذا العام. وبالإضافة إلى ذلك، حضرت الآلاف من الجنود الصينيين أكبر مناورات عسكرية تجريها روسيا منذ حقبة الحرب الباردة، والتي أقيمت في أيلول (سبتمبر). وقد أثار ذلك الكثير من التكهنات حول اقتراب البلدين كثيراً من إقامة تحالف عسكري. لكن المشكلة هي أن تلك التحالفات عادة ما تقوم على المصالح المشتركة، ولدى روسيا والصين تاريخ من عدم الثقة المتبادل. وقد اصطدم البلدان حول قضايا حدودية مرات عدة على مدى السنين، وتنافستا على النفوذ في آسيا طوال فترة الحرب الباردة.
كما أن للبلدين أولويات استراتيجية مختلفة. فروسيا تواجه ما ترى أنه ضغط كثيف على طول جبهتها الغربية، وبقدر أقل في الشرق الأوسط. ولدى الصين القليل من المصلحة في إنفاق مواردها على حماية المنطقة الأوروبية العازلة لروسيا. وربما يتقاسم البلدان سادس أطول الحدود الدولية، لكن نشر القوات والموارد غرب روسيا، حيث تقع مراكزها السكانية الرئيسية، سيكون بمثابة كابوس لوجستي للصين، على أقل تقدير. (كما لن ترحب موسكو على الأغلب -أو تكون قادرة- على دعم مثل هذا النشر).
من الناحية الأخرى، تواجه الصين تحدياً من الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي؛ حيث تحاول بكين منع أي إغلاق مستقبلي محتمل لوصولها إلى ممرات الملاحة والشحن الدولي عن طريق وضع أصول عسكرية وبحرية على جزرها الاصطناعية قبالة ساحلها الجنوبي الغربي. وتجري الولايات المتحدة في كثير من الأحيان عمليات لضمان حرية الملاحة في المياه المتنازع عليها هناك، لإيضاح أن البناء العسكري الصيني لن يمنع الآخرين من التنقل بحرية عبر المنطقة، ولطمأنة حلفائها في جنوب شرق آسيا. ولا شك في أن الصينيين يستطيعون استخدام الدعم البحري هناك وفي غرب المحيط الهادئ، لكن قدرة الروس على عرض قوة بحرية كبيرة في هذه المناطق تبقى محدودة. ولدى الروس فعلاً قاعدة بحرية في فلاديفوستوك، لكن اليابان والقوة الجوية الأميركية تمنعانها من التمتع بوصول جاهز إلى المحيط الهادئ. وفي حين أن فرض حصار على فلاديفوستوك ليس وارداً، فإن أي عمل عسكري ينبغي أن يأخذ في الحسبان سيناريو أسوأ الحالات، ويمكن أن تصبح فلاديفوستوك بسهولة فخاً للأسطول الروسي.
قد يكون هذا كله شيئاً بعيد لمنال، لكن الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الروس والصينيون التنسيق لإحباط التهديدات الرئيسية التي يواجهونها سوف تكون من خلال شن هجمات مشتركة تنفذها روسيا في اتجاه الغرب والصين على الأصول البحرية الأميركية في الشرق. لكن المشكلة هي أنه في حين أن المسألة مع أوروبا هي مسألة جيش، فإن بحر الصين الجنوبي هو قضية بحرية. وتستطيع الولايات المتحدة أن تركز قواتها البحرية ضد الصين من دون تحويل القوات البرية من أوروبا. لكن الأهم من كل هذا بالتأكيد هو أن أياً من الصين وروسيا -بالنظر إلى مشكلاتهما الاقتصادية- لا تنطوي على النية لبدء حرب عالمية، وهو ما يرجح أن يفعله قيامهما بمثل هذا حتماً.
مع أن قيام تحالف صيني-روسي ربما يبدو موازناً منطقياً لخصمهما المشترك، فإنه يبقى مجرد وهم. ولا تستطيع كل الإيماءات الدافئة من شنغهاي إخفاء حقيقة أن روسيا والصين لا تستطيعان مساعدة بعضهما بعضا للخروج من مشاكلهما الاقتصادية والاستراتيجية الجدية. إنه تحالف يعمل على الورق فحسب، في أحسن الأحوال.