باريس – أعلنت حركة “السترات الصفراء” التي تقود مظاهرات احتجاجية في فرنسا منذ أسبوعين، عن تشكيل وفد رسمي لبلورة مطالبها وتقديمها للحكومة، فيما يتمسك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحزمة الإصلاحات الضريبية ولا ينوي التراجع عنها، ما يبقي المشهد قاتما بشأن مآلات الاحتجاجات وقدرة الحكومة الفرنسية على استبطانها.
وانطلقت تظاهرات “السترات الصفراء” بالأساس احتجاجا على ارتفاع سعر المحروقات، لكنها سرعان ما اتسعت لتشمل النظام الضريبي ككل وتراجع القدرة الشرائية، فتحولت إلى موجة غير سياسية متباينة التوجهات والمطالب تندرج في سياق تقليد فرنسي من الاحتجاجات الضريبية.
وتندّد هذه الحركة التي تجمع فرنسيين من كل التوجهات السياسية والشرائح الاجتماعية بغلاء البنزين وارتفاع الضرائب والمعاشات التقاعدية المتدنية، لتعكس بصورة إجمالية احتجاجا رئيسيا هو تراجع القدرة الشرائية.
وهو ما تؤكده دراسة أجراها المرصد الفرنسي للأوضاع الاقتصادية، إذ تشير إلى تراجع الدخل السنوي للأسر الفرنسية بمقدار 440 يورو بين 2008 و2016.
وانطلاقا من هذا، فإن حركة “السترات الصفراء” التي نجحت في جمع أكثر من 270 ألف شخص السبت الماضي من غير أن يكون لها زعيم سياسي أو نقابي، تفتح فصلا جديدا في تاريخ فرنسا الطويل في الاحتجاجات الضريبية، بل إنها تذكر في بعض نواحيها بانتفاضة الفلاحين على الزيادات الضريبية أيام الملكية عام 1358.
وحصلت الحركة على دعم اتحاد القوة العمالية (فورس أوفريير) للنقل، ثالث منظمة في هذا القطاع، التي دعت أعضاءها ومؤيديها إلى الانضمام إلى الحركة للمطالبة بتحسين القدرة الشرائية.
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي واجه انتقادات مباشرة في التظاهرات، إلى “الحوار” لإقناع المتظاهرين بوضع حد لاحتجاجاتهم التي تشل حركة السير على الطرقات العامة وتمنع الوصول إلى مستودعات النفط التي تحاول قوات الشرطة فتح الطرق المؤدية إليها.
وقال ماكرون “عبر الحوار يمكننا الخروج من الوضع، عبر الشرح، عبر القدرة على الحلول الميدانية”.
ورأى الأستاذ والمؤرخ في معهد العلوم السياسية جان غاريغ أن “هناك عزما على الالتفاف على أشكال التعبير التقليدية في الحياة السياسية للإفصاح عن المطالب. وهذه القاعدة الشعبية الجديدة تندرج في سياق تقليد من التمرد العفوي يعود إلى القرون الوسطى”.
وتابع غاريغ أن “ثورات الفلاحين كانت مؤشرا على نظام اجتماعي اقتصادي لم يعد من الممكن احتماله. وهنا، السترات الصفراء هي تعبير عن ضيق اجتماعي، ما يجعل من الصعب للغاية إيجاد حل للظاهرة”.
وتراجع عدد المحتجين هذا الأسبوع، لكنّ المتظاهرين يعولون على نواة مصممة على مواصلة عمليات قطع الطرقات ومحاصرة مستودعات النفط، فيما تتحدث أوساط سياسية عن مستقبل سياسي للسترات الصفراء على غرار حركة خمس نجوم الإيطالية التي انطلقت بعد يوم غضب وباتت اليوم في السلطة.
وقال غي غرو من مركز سيفيبوف للأبحاث “ليس لدينا اليوم شخصية مثل بيبي غريلو (مؤسس حركة خمس نجوم) قادر على أن يكون جامعا، ليست هناك شخصية معترف بها بما يكفي لتجمع هذه الحركة وتمثلها لدى السلطات العامة”، مضيفا أن “الحركة متنوعة تماما على صعيد التطلعات والطموحات وحتى الهويات السياسية”.
ولم يُبد ماكرون حتى الآن أيّ رغبة في تخفيف وتيرة إصلاحاته من أجل “تغيير” فرنسا، لكن قصر الإليزيه أعلن أنّ الرئيس سيطلق “توجيهات للانتقال البيئي”، مؤكّدا أنّه “تلقّى رسالة المواطنين”.
وبحسب وزارة الداخلية، فقد بلغت حصيلة الجرحى في العاصمة 24 شخصا، بينهم خمسة شرطيين، فيما بلغ عدد الموقوفين في عموم البلاد 130 شخصا. ووقع القسم الأكبر من الصدامات صباح السبت في جادّة الشانزيليزيه الشهيرة في وسط باريس، والتي كانت السلطات أعلنت منع التجمهر في قسم منها.
وخلال الاشتباكات بين المحتجيّن وقوات الأمن، رشق المتظاهرون عناصر الشرطة بمقذوفات مختلفة وتحصّنوا خلف متاريس بنوها بما تيسّر لهم، في حين ردّ عليهم عناصر الدرك وشرطة مكافحة الشغب بقنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه.
واتهم وزير الداخلية كريستوف كاستانير اليمين المتطرف بالوقوف وراء أعمال الشغب التي ارتكبها المتظاهرون قائلا “بين المتظاهرين أعضاء من اليمين المتطرف يريدون مهاجمة المؤسّسات”.
وهاجم وزير الداخلية الفرنسية بشكل مباشر زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن، معتبرا أنّ “مشاغبين” لبّوا دعوتها إلى التظاهر في الشانزيليزيه، فيما ردّت لوبن عبر التلفزيون قائلة “لم أدعُ إطلاقا إلى أي عنف”.
وكتب جان لوك ميلانشون زعيم الكتلة البرلمانية لحزب “فرنسا المتمردة” اليساري المتطرّف في تغريدة، أنّ “كاستانير يريد أن تكون تظاهرة السترات الصفراء من اليمين المتطرّف الحقيقة هي أنها تظاهرة كبيرة للشعب”.
ورأى البعض في هذا اليوم الاحتجاجي تحدّيا لرئيس الجمهورية الذي طاولته هتافات المحتجين بشكل مباشر، إذ ردّد قسم منهم عبارة “ماكرون استقل”.ولفتت صحيفة “جورنال دو ديمانش” إلى أن الرئيس الفرنسي يعتزم الإبقاء على الزيادات المخطط لها في الضرائب على البنزين والديزل، وهي الخطط التي تسببت في خروج مظاهرات عنيفة في باريس السبت.
وتمثل الاضطرابات معضلة لماكرون الذي يصور نفسه “بطلا” في مواجهة تغير المناخ، لكنه تعرض للسخرية لعدم تواصله مع الناس العاديين في وقت يقاوم فيه تراجع شعبيته. ويراهن الرئيس الفرنسي حاليا على عنصر الوقت لتجاوز الأزمة الحالية، فأسعار النفط تتراجع وهو ما سينعكس على أسعار الوقود خلال الفترة المقبلة، كما أن تأثيرات تخفيضات الضرائب التي ستفيد المستهلكين والشركات ستظهر خلال العام المقبل.
العرب