كان نجاح مرشحي المعارضة في انتخابات أيلول (سبتمبر) الإقليمية في مختلف أنحاء روسيا في الحقيقة تصويتا ضد الحزب الحاكم المدعوم من الكرملين، روسيا الموحدة، أكثر بكثير من كونه تفضيلاً للشيوعيين. ولم يكن الأمر أن الناس كانوا غاضبين من الحكومة بسبب إصلاحاتها التي طالت المعاشات التقاعدية فحسب؛ لقد كانوا غاضبين من أن قيام الحكومة بإلغاء عنصر أساسي من العقد الاجتماعي غير المكتوب الذي ساد في حقبة بوتين –لا تمسوا نظام المنافع الاجتماعية.
* * *
ثمة طيف يطارد لا يكف عن مطاردة روسيا –طيف الشيوعية. لكن الطيف هذه المرة، على النقيض من صيغة كارل ماركس الأصلية، ميت في حقيقة الأمر. كثيرا ما نسمع أن السياسة الروسية بصدد القيام بعملية إعادة تمحور حتمية نحو اليسار، وأن النظام السياسي في حاجة إلى إعادة خلق نفسه بغية العثور على متسع لحزب يساري أصيل. لكن كل ذلك الحديث يهيئ الجميع لحرب الأمس فحسب، في حين أن القتال أصبح يدور الآن في مكان آخر.
بطبيعة الحال، ليس الروس سعيدين ببعض القضايا، مثل زيادة سن التقاعد. وهم يعبرون عن غضبهم حيث يستطيعون –على سبيل المثال، عن طريق تقديم الدعم لمرشحي الحزب الشيوعي ومرشحي الحزب الديمقراطي الليبرالي اليميني المتطرف في الانتخابات الإقليمية الأخيرة. ولكن، لا ينبغي أن نخلط بين الاحتجاجات ذات الاتجاهات اليسارية وبين وجود شهية للقيام بثورة اشتراكية.
كان نجاح مرشحي المعارضة في انتخابات أيلول (سبتمبر) الإقليمية في مختلف أنحاء روسيا في الحقيقة تصويتا ضد الحزب الحاكم المدعوم من الكرملين، روسيا الموحدة، أكثر بكثير من كونه تفضيلا للشيوعيين. ولم يكن الأمر أن الناس كانوا غاضبين من الحكومة بسبب إصلاحاتها التي طالت المعاشات التقاعدية فحسب؛ لقد كانوا غاضبين من أن قيام الحكومة بإلغاء عنصر أساسي من العقد الاجتماعي غير المكتوب الذي ساد في حقبة بوتين –لا تمسوا نظام المنافع الاجتماعية.
من المفارقات أن تصنيفات القبول الذي يتمتع به حزب روسيا الموحدة تشهد انخفاضاً، لكن اليسار لا يكتسب الشعبية على حسابه. ووفقا لاستطلاع أجراه مركز ليفادا، فإن 37 في المائة من الناخبين كانوا مستعدين للتصويت لحزب روسيا الموحدة في كانون الأول (ديسمبر) 2017، لكن 28 في المائة فقط كانوا يدعمون الحزب في آب (أغسطس) 2018. ومع ذلك، ظلت نسبة الدعم للحزب الشيوعي ذي الميول اليسارية وحزب “روسيا عادلة” على حالها -9 في المائة و3 في المائة، على التوالي. ولم تتغير أرقام الحزب الديمقراطي الليبرالي المحافظ في الاستطلاع المذكور أيضاً –حيث دارت حول 11 في المائة.
تشير هذه الاتجاهات إلى أننا لا نشهد طلبا متناميا على حزب ينتمي إلى اليسار، لكننا نشهد في الحقيقة أزمة أكثر عمومية يعاني منها نظام الأحزاب. في كانون الأول (ديسمبر) 2017، قال 17 في المائة من المستجيبين أنهم لن يشاركوا في التصويت على الإطلاق، وقد ارتفع هذا العدد إلى 22 في المائة بحلول آب (أغسطس) 2018. وفي الاستطلاع الأحدث، قال 7 في المائة إضافيون من أولئك الذين قرروا القدوم إلى صناديق الاقتراع أنهم قد يلغون صلاحية أوراق اقتراعهم أو يفسدوها.
كما أن تصنيفات الثقة التي تتمتع بها الأحزاب السياسية في روسيا منخفضة جداً، وهي تحتل المركز 18 في قائمة مكونة من 19 مؤسسة –وليس سوى أكبر الشركات الروسية هي التي تحتل مسألة أسوأ في نظر الرأي العام. وبطبيعة الحال، ينبع هذا الانعدام في الثقة في جزء كبير منه من حقيقة أن نظام الأحزاب الأصلي مات منذ أمد بعيد، وما لدينا الآن هو مجرد قائمة أصناف، حيث لا شيء يثير اهتمام الناخب ليختار من بينها. ولن تُحل هذه المشكلة عن طريق تقرير الحكومة تشكيل أحزاب زائفة جديدة. إنها ليست الأحزاب أو الأيديولوجيات الجديدة هي التي يريدها الناس في روسيا.
يريد الجمهور الروسي تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن حماسه السياسي يضعف بسبب غياب المنافسة السياسية والاقتصادية، وخاصة الافتقار إلى وجوه جديدة.
الناس في روسيا يريدون التغيير. وفي آب (أغسطس) 2017، أجرينا، دينيس فولكوف من مركز ليفادا، وأنا، بعض البحث حول استعداد الناس للتغيير. وقد أيد 52 في المائة من المستطلعة آراؤهم حدوث تغيير جذري، في حين فضل 41 في المائة منهم تغييرا تدريجيا. وفي أيار (مايو) 2018، كرر مركز ليفادا طرح السؤال نفسه –”أي نوع من التغيير تريد”؟- على نفس المجموعة من عينة المستجيبين في مختلف أنحاء روسيا. وقد تغير عدد أولئك الذين يريدون تغييراً جذرياً، مرتفعاً بحدة إلى 57 في المائة، في حين قالت نسبة 25 فقط من المستجيبين أنهم يريدون أن يروا تغييرا تدريجيا.
تكشف نظرة أقرب أن “المتطرفين” غير واضحين إلى حد كبير عندما يتعلق الأمر بما يريدونه بالضبط، أبعد من رغبتهم الشديدة في أن يشهدوا تغييراً أساسياً. يريد الناس ببساطة أن يهربوا من مثلث برمودا المكون من التضخم، والأجور المنخفضة، ومخاطر البطالة. وسوف يكونون سعداء إذا رفع شعار التغيير بوتين، أو وزير المالية السابق أليكسي كودرين، أو زعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانو –أو حتى ستالين نفسه، إذا كان ذلك يهم.
كان العديد من هؤلاء الناس أنفسهم قد صوتوا لصالح بوتين في الانتخابات الرئيسية في وقت سابق من هذا العام؛ ومع ذلك، لم يصوتوا له في شخصه بقدر ما صوتوا لدور “السيد لا- يجب- أن- تصبح- الأمور- أسوأ”. وبالنسبة لأناس ذوي توقعات منخفضة، فإن “ليس أسوأ” هي مرادف لـ”أفضل”. ومع ذلك، توتر المزاج العام بسبب المبادرات الاجتماعية الأخيرة. وهذا رد فعل منطقي ومثالي على وضع حيث يرون فيه الدولة وهي تملأ خزائنها الخاصة بالأموال بينما تغذي عدم المساواة الاجتماعية. ويقول هذا المنطق أنه إذا كان يمكن استخدام الضرائب التي تجبيها الحكومة من الناس أي شيء، بما في ذلك سباق الأسلحة الذي يبدو وشيكاً مع الولايات المتحدة، فكيف يمكن أن يُتوقع من الجمهور أن يثق في أي مشروع ترعاه الدولة، بما في ذلك المشروع الذي يقدم حزباً جديداً؟
وُصف مطلب الشعب الجديد بالتغيير على أنه شعبوي. وهو ينطوي على تشابهات مع ما يحدث في أوروبا، حيث تتم الإطاحة بالأحزاب ذات التوجهات اليسارية على يد الحركات اليمينية والقادة الشعبويين الذين يتمكنون من استغلال كل من الخطاب اليميني والخطاب اليساري في خطاباتهم.
في روسيا، لا يتم العبير عن الرغبة الجديدة القوية في التغيير بشكل واضح. إنها تحتاج إلى قائد، وتنظيم، وتلوين أيديولوجي. لكن من الصعب وضع علامة “شعبوي” على أناس يطالبون بمجرد الحد الأدنى من العدالة من نظام سياسي يعمل بشكل غير فعال في أحسن الأحوال، وكثيراً ما يعمل على إثراء نفسه عن طريق إنفاق الأموال التي يجمعها من الناس فقط على إعادة شراء ولائهم بها. ولا شك أن نظاماً سياسياً من هذا النوع لا يعود مطلوباً داخلياً.
لكن هذا المرض يمكن علاجه. تستطيع جرعة مزدوجة من دواء “المنافسة والتدوير” أن تساعد المريض في التغلب على إحباطه –إلا إذا كان هدف الحكومة، بطبيعة الحال، هو الإبقاء على المريض بالطرق الاصطناعية في هذه الحالة.