دخلت العقوبات الأميركية ضد إيران، في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، مرحلة جديدة، بغرض تخفيض الصادرات النفطية الإيرانية إلى الصفر، كما جاء في تصريحات للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والنقاط الإثنتي عشرة التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، للتعامل مع الشأن الإيراني، وهو موقف سيؤثر بالتأكيد على الوضع والأمن الإقليميين بشكل كبير، ولن يكون العراق بعيداً عن غائلة مترتباتها، فالوضع العراقي الذي يعاني من تدخل إيراني كبير في شأنه الداخلي يعد نتيجة واضحة لسلوك الولايات المتحدة حيال هذا التدخل، وغض الطرف عنه، ما أشاع انطباعاً عن قبول ضمني للولايات المتحدة الأميركية بهذا الوضع.
بعد غزو الولايات المتحدة العراق واحتلاله في 9 أبريل/ نيسان 2003، بدا وكأن الولايات المتحدة، بقواتها واستراتيجيتها الكونية، قد عملت كأنها مقاول لصالح حكومة الملالي الإيرانيين، لتنفيذ الغزو، وتسليم العراق بكامله لإيران، لتتدخل به طولاً وعرضاً كما يحلو لها، من دون أن تتدخل الولايات المتحدة الأميركية للجم هذا التدخل الإيراني، على الرغم من وجود قواتها في العراق، وبأعداد تناهز المائة والخمسين ألف مقاتل مع عدتهم القتالية.
لا يزال باحثون ومحللون كثيرون يقفون حائرين في محاولاتهم تفسير سلوك الولايات المتحدة هذا حيال العراق، فهل هنالك فعلاً حلف سرّي بين المحافظين الجدد ودولة الولي الفقيه، بدأت
“تسعى إيران إلى الاستفادة القصوى من النافذة العراقية المتاحة لها، لتعظيم مواردها وأرباحها”
بشيطنة العرب السنة في العراق، ووضعهم في خانة معاداة الولايات المتحدة، في مقابل تنسيق أخذ مساحة كبيرة إبّان فترة حكم الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمر، أكده هو في مذكراته، باتصالاته المباشرة ومراسلاته مع المرجع الشيعي الأكبر، آية الله علي السيستاني، وعزّز صلاته هذه بزيارات متوالية له، وللمسؤولين الأميركيين المرموقين الزائرين، وفي مقدمتهم وزير الدفاع في حينه، دونالد رامسفيلد، حتى اتضح حلف أميركي مع الأحزاب والقوى الكردية وأحزاب وقوى عراقية شيعية، تاركين أكثر من ثلث الشعب العراقي في خانة الأعداء.
إذا ما حاولنا نفي حالة الحلف بين الأميركيين والشيعة نجد أن النتيجة إخفاق سياسي وأمني منقطع النظير من الأميركيين في فهم الدوافع الحقيقية للأحزاب السياسية الشيعية، والتي ولاؤها الحقيقي لإيران، وليس لمن له الفضل في تنصيبهم حكاماً على العراق، وهم الأميركيون بالطبع. وللحقيقة، حاولت قيادات سنية عربية عراقية لفت أنظار الأميركيين إلى ما سيتمخض من سياستهم القاصرة في العراق من اجتياح إيراني متوقع للعراق من دون جدوى، بل مما يلفت النظر أن المنافذ الحدودية العراقية مع إيران تركت سائبة من دون رقابة جدية، على عكس المنفذيْن مع كل من سورية والأردن، حيث كانت القوات الأميركية موجودة على المنافذ، وهي من يعطي الأمر بفتح المنافذ وغلقها. وكلنا يستذكر كيف أن رئيس الجمهورية الإيرانية” المتشدّد”، أحمدي نجاد، قد نقلته طائرات المارينز الأميركية المسلحة من مطار بغداد الدولي إلى المنطقة الخضراء التي كانت تحت الحماية الأميركية حينئذٍ.
إذا كان الأمر كذلك، وكانت القوات الأميركية لا تزال تمسك بالملف الأمني العراقي، قبل انسحابها في ديسمبر/ كانون الأول 2011، فماذا سيكون عليه الموقف بعد الانسحاب الأميركي وسيطرة القوات العراقية التي طعمت، في حينه، بأفراد مليشيات الأحزاب السياسية الشيعية التي توالي دولة ولاية الفقيه في إيران، إذا اصطدمت المصالح العراقية الإيرانية، كما صرح قادتها أكثر من مرة، وبتصريحات موثقة.
بلغ ما عرف بأنه تنسيق أو تعاون مخفي أميركي – إيراني على حساب المشرق العربي أوجه، وتوج بالاتفاق النووي الإيراني مع دول 5+1، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأربع الباقية من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، مضافة إليها ألمانيا الاتحادية. وهنا أيضاً يستذكر الجميع إصرار الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، على إنجاز الاتفاق، على الرغم من تحذيرات أوصلتها إليه دول في المشرق العربي، قالت إنها ستتضرر من تداعياته. وهنا أيضاً ذهبت تحذيرات الدول العربية أدراج الرياح، كما ذهبت تحذيرات قيادات عربية سنية في العراق من استفحال النفوذ الإيراني في العراق بعد الغزو.
خيار صعب
هذا مدخل لرسم الصورة القاتمة التي أضحى عليها الوضع في العراق، بعد استفحال النفوذ الإيراني فيه إلى الحد الذي صار من المستحيل سبر أغواره الآن. تشير الدلائل إلى أن العراق قد وضع أمام خيار صعب، غداة تطبيق العقوبات، فالمصلحة العراقية تتطلب أن يلتزم العراق، مثل حال بقية البلدان، بالعقوبات ويمتثل لها، لكن واقع الحال يشي بصورة أخرى، لعدة أسباب، منها على الأقل:
العراق يعتمد إلى حد كبير على إمدادات غذائية إيرانية وبمقياس يومي. ويعتمد على إمدادات الكهرباء من إيران. وتعتمد محطات توليد الطاقة العراقية على الغاز الإيراني وزيت الغاز
“العراق يعتمد إلى حد كبير على إمدادات غذائية إيرانية وبمقياس يومي”
للتشغيل. وهنالك عشرات من مؤسسات الصيرفة الإيرانية المنشأ، أو التي تتعاطف مع إيران، ما يجعلها منافذ ممتازة للتهرّب من العقوبات. وهنالك الحدود المفتوحة بين البلدين، التي تجعل تجارة التهريب للمواد أو للعملة الأجنبية (الدولار تحديداً) ممكنة، وفي متناول اليد. وأخيراً، هنالك التعاطف المحلي من الأحزاب السياسية الشيعية ومليشياتها والنفوذ واسع النطاق الذي يمارسه قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، على هذه الأحزاب، وعلى ممثليها في الحكومة.
تفيد الدلائل بأن حجم التجارة البينية (وأغلبها لصالح إيران) يبلغ بحدود ثمانية عشر مليارات دولار. وقد صرح الأمين العام لغرفة التجارة الإيرانية – العراقية حميد حسيني، يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، بأن حجم الصادرات الإيرانية إلى العراق بلغ للستة أشهر المنصرمة 4,5 مليارات دولار. وتسعى إيران إلى الاستفادة القصوى من النافذة العراقية المتاحة لها، لتعظيم مواردها سواءَ بزيادة صادراتها إلى العراق، ولو بالدينار العراقي الذي سيعرّض القوة الشرائية للمواطن العراقي أمام الدولار للضرر، حيث إن زيادة الطلب الإيراني المتوقع على الدولار في السوق الموازية سترفع من قيمة الدولار أمام الدينار العراقي إلى ما فوق قيمته الرسمية البالغة 1117 ديناراً مقابل الدولار، وهو قد ارتفع بالفعل إلى أكثر من 1250 ديناراً في مقابل الدولار. ولمّا كانت مواد الحياة اليومية الضرورية للمواطن العراقي مستوردة بغالبيتها العظمى من إيران، بعد أن تم تدمير القاعدة الزراعية الغذائية العراقية، لأسبابٍ لا يغيب الوضع العراقي السيئ عنها، يتضح لنا عندئذٍ حجم الأذى الذي سيحيق بالمواطن العراقي. وبهذه المناسبة، تعرّضت الثروة السمكية العراقية لخسائر فادحة أخيرا نتيجة إصابتها بمرض بكتيري، أو بتسمم مفاجئ، أودى بآلاف الأطنان من الأسماك في حوض الفرات، ونجمت عنه خسائر فادحة، ونقص في الأسماك، فسارع مصدرو الأسماك الإيرانيون إلى تلبية الحاجة العراقية.
إجراءات
يبدو الوضع الراهن العراقي ملتبساً بالفعل، فالموقف الحكومي غير واضح بين تصريحات علنية لا تؤيد العقوبات، وتعتبرها ماسّة بدولة جارة، وإجراءات فعلية أعلنها البنك المركزي منذ حلول الصفحة الأولى من العقوبات في شهر أغسطس/ آب الفائت، بمنع عملية التداول بالدولار مع إيران، وأبلغ المؤسسات الصيرفية والبنوك العراقية بهذا المآل. والالتفاف والتحايل المتوقع في اشتراك أذرع إيرانية في مزاد العملة اليومي الذي يجريه البنك المركزي العراقي لبيع الدولار، وهو منفذ يتم التعامل فيه بحدود مائتي مليون دولار يوميا طوال أيام المزاد الخمسة أسبوعياً، ما سيتيح لأذرع إيران الاستحواذ على مبلغٍ قد يصل إلى نصف مليار دولار أسبوعياً، يمكن تهريبها بسهولة إلى إيران، أو تمويل مشتريات إيرانية بالعملة الصعبة، يجري استيرادها للعراق، ويتم بعد ذلك تهريبها إلى إيران.
أعلن رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، أولاً أن العراق ليس أمامه إلا الالتزام بالعقوبات،
“كثيرون من صغار المستثمرين العراقيين المتعاطفين مع إيران حلت بهم خسائر كبيرة”
وأن ما يضعه نصب عينيه هو مصلحة الشعب العراقي. وبناء على هذا الموقف، باشر البنك المركزي إجراءاته بإيقاف التحويل الخارجي إلى إيران بالدولار. لكنه ووجه برفض تام من كتل الأحزاب والمليشيات الشيعية، بل وتهديد البرلمان ومطالبته بإسقاط هذا التحويل، ما جعله يتراجع لفظياً، مبيناً أنه لا يؤيد العقوبات، حيث عانى الشعب العراقي منها طويلاً، كما بادر إلى إرسال وفد على مستوىً عالٍ إلى واشنطن، طلباً لاستثناء العراق من الالتزام بالعقوبات، لظروفه الخاصة.
وجرى رئيس الوزراء الجديد، عادل عبد المهدي، على المنوال نفسه، مبيناً أن العراق ليس جزءاً من منظومة العقوبات الأميركية. وكانت الحكومة العراقية تتوق للحصول على إعفاءات، حالها كحال الدول الثماني، إلا أن وزارة الخارجية الأميركية لم تورد اسم العراق ضمن البلدان الثماني المستثناة.
ولعل جزءا من المعاناة والخسائر التي أحاقت بالمستثمرين والمودعين العراقيين أموالهم في إيران أنهم فقدوا الجزء الكبير من مدّخراتهم، نتيجة تردي قيمة العملة الإيرانية بعد العقوبات، ورفض البنوك الإيرانية إعادتها للمودعين بالدولار. وبهذا، فإن كثيرين من صغار المستثمرين العراقيين المتعاطفين مع إيران حلت بهم خسائر كبيرة، أتت على أكثر من نصف رأس المال الدولاري المستثمر. ونظراً لسطوة الأحزاب السياسية الشيعية ومليشياتها التي تدعمها إيران، يتوقع أن ينتهي الحال بفرض الأحزاب رؤيتها عبر البرلمان، إذ قد تتقدم بطلب انسحاب القوات الأميركية من العراق، وهو أمر هدّد به بعض النواب، وقد تنجح هذه الأحزاب في الحصول على التأييد المطلوب، ما سيضع العلاقات العراقية الأميركية في مأزق، فانسحاب القوات الأميركية من العراق يعني، في نهاية الأمر، وقوع العراق بالكامل تحت هيمنة إيران، أي أن العقوبات الأميركية قد نجم عنها زيادة النفوذ الإيراني في العراق.
ما سيتمخض عن العقوبات الأميركية ضد إيران سيكون سلبياً بالتأكيد على إيران، ونحن نشهد تراجع دول وشركات عديدة عن الالتزام بعقودها، سواء لشراء النفط الإيراني أو الاستثمار، لتطوير حقول النفط والغاز الإيرانية، لكنه بالتأكيد سيكون مضرّاً بالعراق أيضاً، للأسباب المنطقية التي سبقت الإشارة إليها.