تركّز بيانات الاستطلاعات الأخيرة التي أجريت بتكليف من معهد واشنطن على الانشقاقات السياسية القديمة والاستياء المتزايد من السياسة في فلسطين. وقد تم إجراء الاستفتاء في غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية في بداية تشرين الأول/أكتوبر تحت إشراف ديفيد بولوك من معهد واشنطن.
وفي حين تشير نتائج الاستطلاع إلى تراجع الحماس المشترك نحو السلطة الفلسطينية وحركة حماس، إلا أنها أيضا كشفت عن وجود اتجاهات متميزة ومتباينة بين المستطلعين في كلا من غزة والضفة الغربية. ولم تعبر بيانات تلك الاستطلاعات عن رأى فلسطيني واحد، بل أشارت إلى وجود اتجاهين مختلفين وذلك في ما يتعلق بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في غزة والضفة الغربية.
قطاع غزة
منذ عام 2014، تراجع تأييد غزة لإرسال “السلطة الفلسطينية” المسؤولين ومسؤولي الأمن إلى قطاع غزة لتولى الإدارة بشكل مطرد. ففي عام 2018، أعرب 63٪ من المستطلَعين عن دعمهم لهذا الإجراء، ما يعكس انخفاضًا بمقدار 14 نقطة مئوية من نسبة بلغت 77٪ في عام 2017 وانخفاضًا مذهلاً بمقدار 25 نقطة مئوية من نسبة بلغت 88٪ في عام 2014. ومن المثير للاهتمام هو أن التأييد لحركة “حماس” التي تعمل “سياسيًا وعلنًا وبحرية” قد انخفض أيضًا بنسبة 7 نقاط مئوية من نسبة بلغت 60٪ في عام 2014 لتصل إلى 53٪ في عام 2018. وبما أن غالبية المستطلعين على مدى السنوات الأربع الماضية ما زالوا يدعمون انخراط “السلطة الفلسطينية” في غزة وكذلك وجود “حماس” في الضفة الغربية، فإن هذا الاتجاه لا يدل بالضرورة على اللامبالاة السياسية أو الكراهية المباشرة للحكومات الفلسطينية. وعوضاً عن ذلك، يجب أن يُنظر إلى التراجع الكلى في التأييد على انه مؤشر للإحباط والتشكيك في قدرة الأطراف الفاعلة المختلفة على الوفاء بوعودها نحو فلسطين – وليس كفقدان كامل للثقة في المؤسسات نفسها.
ومع ذلك، فإن الانخفاض في دعم سكان غزة لحماس يشير إلى تزايد الإحباط من المنظمة خلال السنوات الثلاث الماضية. كما انخفضت نسبة سكان غزة الذين يؤيدون “احتفاظ حماس بميليشياتها مهما حصل”، حيث تراجعت إلى حد ما بعد أن ارتفعت بشدة لتصل إلى 80٪ في عام 2015. وفي حين أن أرقام عام 2018 كانت أقل بنسبة نقطة مئوية واحدة من العام الماضي، فإن النسبة المئوية للغزاويين الذين يقولون إن “حماس” لا يجب أن تحتفظ بميليشياتها مهما حصل، قد ارتفعت بمعدل أربع نقاط مئوية، أي من 30٪ في عام 2017 إلى 34٪ في عام 2018.وعلى الرغم من أن تلك التغييرات متواضعة إن لم تكن هامشية، إلا أنها تعكس استمرار اتجاه أوسع بعيدًا عن دعم ميليشيات حماس منذ عام 2015.
من جهة أخرى، حافظ التأييد لوقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل في كلا من الضفة الغربية وقطاع غزة على أغلبيته في غزة، حيث ارتفع بمعدل 4 نقاط مئوية، أي من 70٪ في عام 2014 إلى 74٪ في عام 2018. وفي حين تجدر الإشارة إلى أن النسبة المئوية الأولية للمستطلعين الذين يؤيدون وقف إطلاق النار قد انخفضت بمعدل 13 نقطة مئوية إلى 83٪ في عام 2015، إلا أن التغيير الأولى ما زال يترك تأييدا لوقف إطلاق النار بفارق أربع نقاط مئوية أعلى من عام 2014. وفي الواقع، لم يكن هناك أي تعددية في آراء الغزاويين حول التخلي عن وقف إطلاق النار في أي مرحلة من المراحل على مدى الإطار الزمني المختار.
الضفة الغربية
على عكس الانخفاض المطرد في غزة، تأرجحت الآراء في الضفة الغربية حول الدور الذي يجب أن تؤديه “السلطة الفلسطينية” في غزة على مدى السنوات الأربع الماضية. ففي عام 2015، ارتفع التأييد لإرسال مسؤولي “السلطة الفلسطينية” والمسؤولين الأمنيين بمقدار 8 نقاط مئوية ليصل إلى 81٪ في الضفة الغربية، ثم انخفض هذا العدد إلى 75٪ عام 2017، وانخفض بعدها إلى 53٪ عام 2018. وفي حين أن هذا الرقم يمثل انخفاضًا في التأييد بنسبة 19 نقطة مئوية منذ عام 2014، لا تزال غالبية المستطلَعين في الضفة الغربية تؤيد تولّي “السلطة الفلسطينية” الإدارة في قطاع غزة. من المهم أيضا الإشارة إلى أن دعم الأغلبية لزيادة دور السلطة الفلسطينية في قطاع غزة لا يعني بالضرورة إضعاف دعم “حركة حماس”. ففي الواقع، فإن التأييد لحركة “حماس” التي تعمل “سياسيًا وعلنًا وبحرية” في الضفة الغربية قد ارتفع بنسبة 14 نقطة مئوية عن عام 2017، ليصل إلى 52٪ في عام 2018. وفي حين تمتّع التأييد لحركة “حماس” في الضفة الغربية بأغلبية مريحة في عامي 2014 و2015، يشير الرقم المذكور إلى أن هذا الارتفاع في التأييد ربما يكون عودةً إلى الوضع الراهن أكثر منه تغيير جذري.
وللمرة الأولى منذ أربع سنوات، ارتفع التأييد لميليشيا “حماس” بشكل طفيف في الضفة الغربية. وفي حين أن الارتفاع بنسبة 6 نقاط مئوية من 51٪ إلى 57٪ ليس هائلاً، من المؤكد أنه تحول ملحوظ عن الاتجاه التنازلي للتأييد الذي أظهره سكان الضفة الغربية حول هذه المسألة في السابق. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الانخفاض في الدعم هو هامشي – فكما عكست مواقف قطاع غزة مزيدًا من التأييد في هذا الصدد، انخفض تأييد سكان الضفة الغربية بمقدار ست نقاط مئوية خلال السنوات الأربعة الماضية، وهو فارق طفيف لكنه ظاهر وذلك بالنظر إلى مواقف غزة التي تعكس المزيد من الدعم في هذا المجال خلال نفس الفترة. وفى حين أن وجود التأييد (أو غيابه) للكيانات السياسية شهد تغير كبير، إلا أن التحولات في الرأي العام حول دور ميليشيا حماس في كلا من الضفة الغربية وغزة أصبحت هامشية. ومن ثم، لا ينبغي أن يُنظر إلى تلك التحركات على أنها مؤشر في زيادة في التشدد في فلسطين، ولكن يحب أن يتم فحص الاختلاف في المواقف الإقليمية عن كثب والمضي قدمًا.
ويعكس هذا الانشقاق اختلافًا في المواقف حول وقف اتفاق النار، ففي حين أن سكان غزة يؤيدون ضرورة حفاظ “حماس” على وقف إطلاق النار مع إسرائيل، فإن سكان الضفة الغربية أقل تأييدًا لهذا الإجراء. وهذا لا يعني إنه لا يوجد أي تأييد لوقف إطلاق النار.وبالفعل، ومنذ عام 2014، أيد أغلبية المستطلعين من سكان الضفة الغربية وقف إطلاق النار، ووصلت نسبة المؤيدين لذلك 55% في عام 2018 وحده. ومع ذلك، فإن سكان الضفة الغربية كانوا اقل تحمسا لمقترح وقف إطلاق النار وذلك مقارنة بنظرائهم في غزة وذلك، كما يتبين من نسبة 19٪ فرق النقاط بين مجموعتي المستطلعين في عام 2018.
التبصر والتوجهات
وبالنظر إلى بيانات عام 2018 نجد أن تلك التغييرات لا تشكل تغييرًا دراماتيكيًا أو غير متوقع، إذ تكشف البيانات المستقاة من عام 2017 عن ميل إلى الحيادية في ما يتعلق بالقادة السياسيين. وتجدر الإشارة إلى أن تلك البيانات الجديدة تتماشى مع هذه الملاحظة. ومع ذلك، فإن هذه البيانات تشير إلى أن فرضية وجود اتجاه فلسطيني موحد لم ينعكس في الاتجاهات التي رصدتها تلك الاستطلاعات. ففي الواقع، تكشف نتائج هذه الاستطلاع عن وجود اختلافات ملحوظة في التفضيل والرأي بين سكان قطاع غزة وسكان الضفة الغربية. كما تُظهر تلك البيانات أن غزة والضفة تتوافقان على انعدام الثقة في الحكومة وتتمتعان بآراء متوازنة حول أهمية وقف إطلاق النار.
ففي ظل تلك الظروف التي تواجه كلا من سكان الضفة الغربية وغزة، فإن الاختلاف في الرأي لم يكن مفاجئًا بشكل كامل. وبطبيعة الحال، فقد أدّت الاختلافات القوية والمستمرة في الحوكمة دورًا في تشكيل الآراء المتفاوتة. وقد تساعد المعاملة السياسية للضفة الغربية وقطاع غزة إقليميًا ودوليا في تفسير هذه النتائج. غير أن هذا لا يعني أن هذه النتائج الأولية تعكس انقسامات أو خلافات غير قابلة للتسوية بين الضفة الغربية وغزة.
وفيما يتعلق بآفاق عملية السلام، أثبتت الاتجاهات خلال الأربعة أعوام الماضية أنه على الرغم من انخفاض التأييد لوقف إطلاق النار بمرور الوقت، لا يزال وقف إطلاق النار يتمتع بتأييد متعدد من قبل الشعبين. ففي الواقع، لم يحظَ خيار التخلي عن وقف إطلاق النار بالإجماع أو التعددية بين الفلسطينيين قط سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة على مدى الإطار الزمني المختار، ما يشير إلى توجه أوسع، ألا وهو أن الآراء الحكومية تعتبر أقل اعتدالًا من آراء الناس أنفسهم. ويمكن القول أيضًا إن الفلسطينيين ككل هم أكثر براغماتيةً من حكومتهم (حكوماتهم) وأكثر انفتاحًا على المصالحة واتفاق السلام.