بناء على فتوى من الخميني، قامت السلطات الإيرانية في شهري أغسطس وسبتمبر 1988 بإعدام وإخفاء الآلاف من السجناء السياسيين، في عملية إبادة تعد الأكبر في تاريخ النظام الإيراني، الذي لم يمض حينها أكثر من 10 سنوات على وصوله إلى السلطة. إلى اليوم، ما زال ملف هذه القضية مفتوحا في انتظار محاكمة دولية لنظام، أول ما تسلم زمام السلطة شرّع أبواب سجونه لـ”رفاق” الثورة وللمعارضين. ما زال جرح الأمهات مفتوحا وهن يتطلّعن لمعرفة مصير أبنائهن، وأين دفنوا. وتقود منظمة العفو الدولية حملة لفتح القبور عن الحقائق المخفية وكشف أسرارها الملطّخة بالدماء.
تعود القصة إلى أواخر يوليو 1988، حين اختفى الآلاف من المعارضين السياسيين المحتجزين في السجون الإيرانية بشكل قسري. كان معظمهم من الشبان والشابات، وبعضهم بالكاد بلغ سن المراهقة. سُجن هؤلاء بسبب آرائهم السياسية ومواقفهم من النظام الذي انقلب على مبادئ الثورة ضد الشاه، وكان في ذلك الوقت يلقي بشباب إيران في أتون حربه ضد العراق (1988-1980).
ارتكبت هذه الجرائم والانتهاكات في سياق أوسع قامت فيه السلطات على مدى أربعة عقود بقمع شديد للحقوق في حرية المعتقد والتعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي وأُجريت محاكمات غير عادلة بشكل ممنهج وقامت السلطات بتعذيب الضحايا وأعدمت الكثيرين كل عام، بل واحتجزت الآلاف ووضعتهم قيد انتظار تنفيذ حكم الإعدام.
واليوم، يعمل هذا النظام على مضاعفة إحكام هذه القبضة، مع ارتفاع الاحتجاجات ضد الفقر والتضخم والفساد والاستبداد السياسي، وتزايد مشاعر الغضب وعدم الرضا عن المؤسسة على وسائل التواصل الاجتماعي. وقامت السلطات بتوسيع شبكة القمع واستهداف المئات من المنشقين السياسيين السلميين والصحافيين وعاملي وسائل الإعلام على الإنترنت والطلاب وصانعي الأفلام والموسيقيين والكتاب وأعضاء الأقليات الدينية والعرقية بالإضافة إلى المدافعين عن حقوق الإنسان بما في ذلك المحامون وناشطات حقوق المرأة والنقابيون والمدافعون عن حقوق الأقليات والنشطاء البيئيون، ومضايقتهم واعتقالهم ومحاكمتهم. والكثير منهم الآن يقبعون في السجون كنتيجة لذلك، وقد يكون مصيرهم كمصير سجناء الثمانينات في ظل الصمت الدولي عن محاسبة النظام على انتهاكاته القديمة ضد الإنسانية.
أمن دولة
لمدة أسابع، أُغلقت السجون في جميع أنحاء البلاد وأوقفت السلطات الزيارات العائلية دون إبداء أي أسباب. ولعدة أشهر، لم تُسمع أي أخبار. وبدأت الشائعات المرعبة تنتشر بشكل تدريجيّ حول عمليات إعدام جماعية سرية ودفن الجثث في مقابر جماعية.
وتأكدت أسوأ مخاوف أسر المحتجزين في أواخر أكتوبر 1988، عندما استؤنفت زيارات السجون وأبلغت السلطات العديد من العائلات أنه تم إعدام أبنائها. ومع ذلك، على مدى العقود الثلاثة الماضية، أنكرت السلطات ليس فقط وجود الجثث، ولكن أيضا الحقيقة حول متى وكيف ولماذا قُتل هؤلاء، وما حدث لهم في لحظاتهم الأخيرة وأين ذهبت رفاتهم.
تعامل النظام مع عمليات الإعدام الجماعي باعتبارها من أسرار الدولة العليا. ولكن تم كسر هذه السرية ثلاث مرات على مدار العقود الثلاثة الماضية، وفي كل مرة كانت السلطات ترد بعمل انتقامي متهمة أولئك الذين سربوا السجلات المتعلقة بإعداد وتخطيط وتنسيق وتنفيذ عمليات القتل الجماعي بـ “فضح أسرار الدولة” و”تهديد الأمن القومي”.
مسؤولو وزارة الاستخبارات والقضاة الشرعيون والمدعون العامون والمساعدون العامون الذين شاركوا في تنفيذ عمليات الإعدام يشغلون اليوم مناصب عليا في السلطة القضائية أو الحكومة
في سنة 1989، تم تسريب بعض الرسائل التي تثير القلق بشأن عمليات الإعدام والتي تم توجيهها إلى الخميني من نائبه حسين علي منتظري. وفي عام 2000، تسربت نسخة من الفتوى السرية التي أصدرها الخميني في يوليو 1988، والتي جاء فيها “عناصر مجاهدي خلق يحاربون الله واليساريون مرتدون عن الإسلام”، كما أمر بإنشاء لجنة مؤلفة من ثلاثة رجال في كل محافظة تضم قاضيا شرعيا والمدعي العام أو مساعده العام وممثلا من وزارة المخابرات، لمتابعة تنفيذ القتل الجماعي.
وفي عام 2016 انتشر على شبكة الإنترنت تسجيل صوتي للاجتماع الرسمي رفيع المستوى الذي عقد في أغسطس 1988 بين حسين علي منتظري (كان أحد قادة الثورة الإسلامية المقربين من الخميني ثم انقلب عليه هذا الأخير) والمسؤولين عن أعمال القتل الجماعي في طهران.
واستنادا إلى الجهود المستمرة للحملات والوثائق التي تقدم بها الناجون وأفراد عائلات الضحايا والمدافعون عن حقوق الإنسان على مدى السنوات الثلاثين الماضية، بدأت منظمة العفو الدولية التعمق في الأمر بشكل أكبر والكشف عن المزيد من الأسرار التي احتفظت بها السلطات من أجل اغتنام فرصة الجدل المتجدد الحالي حول هذه الجرائم، والتقدم بالنضال من أجل إثبات الحقيقة والعدالة والتعويض.
حتى الآن، ما زال العدد الدقيق للضحايا غير معروف لكن التقديرات تشير إلى أنه يبلغ حوالي 5000 ضحية، لكن قد يكون العدد الحقيقي أعلى بكثير، في ظل عمليات الإعدام السرية التي قامت بها فرق الموت، بناء على فتوى الخميني. واستهدفت العمليات أساسا عناصر منظمة مجاهدي خلق، ومؤيديها، وأنصار الفصائل اليسارية الأخرى، بما في ذلك فدائيون وحزب توده الإيراني، وأي شخص يعارض النظام.
البحث عن الحقيقة
صدرت مؤخرا عن منظمة العفو الدولية دراسة تتكون من حوالي 140 صفحة، تعيد تسليط الضوء على هذه القضية، وتنقل شهادات أهالي الضحايا ولوعة أمهات ينتظرن منذ حوالي ربع قرن معرفة مصير أبنائهن. وجاء في مقدمة الدراسة أن التركيز على واحد من أكثر فصول عنف الدولة شراسة في تاريخ إيران الحديث مدفوع من الحملة الرسمية الجارية لقمع الجهود التذكارية للناجين والأسر والمدافعين عن حقوق الإنسان، وتشويه صورة الضحايا وتشويه الحقائق حول عمليات إعدام المعارضين خارج نطاق القضاء في ثمانينات القرن الماضي.
والأمر الأهم هو إثبات أن العديد من أولئك الذين يُزعم أنهم شاركوا في حالات الاختفاء القسري في عام 1988 وعمليات الإعدام الجماعي غير الشرعية كانوا يشغلون مناصب السلطة في إيران، ويستفيدون من استمرار مناخ السرية للإفلات من العقاب في البلاد.
قام باحثو منظمة العفو الدولية، في الدراسة التي أجريت في الفترة من سبتمبر 2017 إلى نوفمبر 2018، بتحليل شهادات 41 ناجيا و53 من أفراد عائلات الضحايا و11 من السجناء السابقين، و10 أشخاص آخرين من 28 مدينة عبر إيران، تم الحصول عليها إما مباشرة أو من خلال منظمة “جاستس فور إيران”، وهي منظمة حقوق إنسان إيرانية؛ أو من خلال بعض المواد المكتوبة، بما في ذلك الشهادات والمذكرات التي كتبها ناجون وباحثون مستقلون؛ أو كذلك من خلال استعراض التقارير الإعلامية و8 بيانات أصدرتها السلطات الإيرانية وهيئات الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الأرشيفات الخاصة بالمنظمة. حلّلت الدراسة التسجيل الصوتي للاجتماع الذي عقد في عام 1988 حيث سُمعت أصوات أعضاء “لجنة الموت” في طهران وهم يناقشون عمليات الإعدام. وحصلت منظمة العفو الدولية أيضا على شهادات الوفاة وصور لشواهد قبور العشرات من الضحايا وقوائم وقواعد بيانات تحتوي على الآلاف من الأسماء.
ورفضت السلطات تقديم شهادات وفاة للأسر، أو إصدار شهادات وفاة غير دقيقة ومضللة أو غير مكتملة أسباب الوفاة وظروفها. وفي بعض الشهادات تم ذكر سبب الوفاة بأنه “طبيعي” بكل بساطة رغم أن الجميع يعلم أن الأمر ليس كذلك.
الخميني أصدر فتوى تقول إن ‘مجاهدي خلق يحاربون الله واليساريون مرتدون عن الإسلام’، وأمر بإنشاء لجنة في كل محافظة تضم قاضيا شرعيا والمدعي العام وممثلا من وزارة المخابرات لمتابعة عمليات الإعدام
وتصف منظمة العفو الدولية السلوك الذي تمارسه السلطات الإيرانية على مدى عقود -وباختلاف الحكومات والمسؤولين.
ويتزايد حجم معاناة أسر الضحايا نتيجة تصعيد النظام ضدهم حيث يمنعون من إقامة صلاة الجنازة وسراديق العزاء والحداد على أرواح ذويهم؛ كما تعمد السلطات إلى الانتهاك المتعمد وتدمير المواقع التي يعتقد أسر الضحايا أن ذويهم قد دُفنوا فيها؛
كما يتضاعف ألم العائلات بمعرفتها أن الذين أمروا بتنفيذ عمليات الإعدام ونفذوها يعيشون بسلام ودون عقاب، بل إن مسؤولي وزارة الاستخبارات والقضاة الشرعيين والمدعين العامين والمساعدين العامين الذين شاركوا في “تنفيذ جرائم الإعدام” ما زالوا يشغلون مناصب عليا في السلطة القضائية أو الحكومة.
وجاء في مقطع فيديو مسجل نُشر في نوفمبر من أم البنين جلالي مهاجر وجهته إلى المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن الوضع في إيران قالت فيه“لدي شكوى ضد الأمم المتحدة لأن السلطات الإيرانية قتلت الكثير من أطفالنا ولم تتصرف الأمم المتحدة كما كان متوقعا. قتلت السلطات الإيرانية ستة من أبنائي ولم ترفع الأمم المتحدة صوتها حتى. وما زالت الأمم المتحدة تقف مكتوفة الأيدي بينما هم يضطهدون ابنتي. لقد طفح الكيل. هل يجب علينا تحمل المزيد من القسوة؟ إلى أي مدى؟ كنت أتوقع أن تسمع الأمم المتحدة كلماتي وأن تسجل صوتي وأن تدون حتى أسماء أبنائي”.
عقد من الانتهاكات
جاءت حالات الاختفاء القسري وعمليات الإعدام غير الشرعية التي ارتكبت في عام 1988 تتويجا لعقد من الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان في أعقاب ثورة 1979 الإيرانية. وتبعت ذلك سلسلة من عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء التي استهدفت المثقفين والكتاب والفنانين والمنشقين بين عامي 1988 و1998 وأصبحت معروفة في إيران باسم “سلسلة جرائم القتل”.
وتؤكد منظمة العفو الدولية أن اتهامات الاختفاء القسري ستستمر، وعلى القانون الدولي أن إيران بالتحقيق في هذه الجرائم، ومقاضاة الأشخاص المشتبه في مسؤوليتهم أمام محاكم مدنية في محاكمات عادلة. كما أن الحكومة الإيرانية ملزمة أيض بتسكين غضب أسر الضحايا، وإلا فإن هذا الملف سيبقى مفتوحا وسيشكل مصدر صداع للنظام الإيراني.
وكانت هذه الإعدامات قد أدت إلى اندلاع أعمال عنف نجح النظام الإيراني، الذي كان في أوج سطوته في ذلك الوقت، في وأدها، لكنه اليوم يبدو في وضع أضعف وهو محاصر بغضب شعبي لم يهدأ منذ نهاية العام الماضي على سياسته الاقتصادية والاجتماعية وعلى قمعه وإعداماته، وتصعيد خارجي سيجد في مثل هذه الملفات “القديمة” ورقة هامة لاستكمال حلقة التضييق عليه.