تتسارع في تونس التي تحيي بعد أقل من أسبوعين الذكرى الثامنة لثورة يناير 17 ديسمبر–14 يناير 2011، الأحداث السياسية والنقابية والاجتماعية الاحتجاجية بدرجة يصعب تفكيك رموزها، لتتباين المواقف في صفوف الطبقة السياسية أو لدى الرأي العام بين متكهّن بثورة جديدة على الأبواب وبين دافع إلى وجوب المحافظة على الخصوصية الاحتجاجية التونسية وإبعادها عن أي تقليد للتجربة الفرنسية. وبين سترات حمراء وأخرى بيضاء مستلهمة من حركة السترات الصفراء، في فرنسا، تتبدّل الألوان لكن الشعار واحد في تونس وهو فرض المزيد من الضغوط لإسقاط الحكومة.
تونس – تحيي تونس انطلاقا من 17 ديسمبر الذكرى الثامنة للثورة التي أطاحت في يناير 2011 بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وسط أجواء مشحونة على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنقابية.
عشية هذه الذكرى، تبرز العديد من المؤشّرات الدالة على أن شتاء تونس سيكون ساخنا على وقع احتجاجات متعددة الأبعاد والمعاني منها ما هو مرتبط بشكل وثيق بالمستوى السياسي ومنها ما هو مرتكز على مطالب اجتماعية غير حاملة لأي نفس حزبي.
من جهة، وتزامنا مع مناقشة البرلمان التونسي لمشروع قانون الموازنة العامة لعام 2019، انطلقت صفحات التواصل الاجتماعي في الترويج لحملة احتجاجية جديدة تحمل اسم “السترات الحمراء” اقتباسا من التجربة الفرنسية الأخيرة التي قادتها حركة السترات الصفراء ضدّ سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاقتصادية وخاصة بشأن الضريبة على الوقود.
ومن جهة أخرى، يواصل الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي نفّذ مؤخرا إضرابا عاما في قطاع الوظيفة العمومية، التهديد بتنفيذ إضراب عام شامل إن لم تستجب الحكومة لحزمة من المطالب الاجتماعية، هذا إلى جانب إقرار الجامعة العامة للتعليم الثانوي يوم 17 يناير كموعد لشن إضراب عام قطاعي تحت عنوان “السترات البيضاء” وهو ما أكده الكاتب العام لنقابة الثانوي لسعد اليعقوبي بدعوته للأساتذة إلى تجهيز السترات البيضاء.
لم يعد مثل هذا الحراك الاجتماعي غريبا في تونس، إلا أن أبعاده هذه المرة تختلف عمّا مضى، من حيث الصدى والتأييد الشعبي كما من حيث “وحدة” الموقف. اليوم، تنقسم الآراء بين من يعتبر أن هدف تهييج الشارع سياسي تقف وراءه أحزاب المعارضة، وتحديدا حزب نداء تونس الغاضب على الحكومة ورئيسها يوسف الشاهد، وشق آخر يرى أن الحركات الاحتجاجية والسعي لاقتباس التجربة الفرنسية، هي نتاج حزمة تراكمات أثقلت كاهل التونسيين وربما قد تفضي إلى “ثورة ثانية” على الطبقة السياسية برمتها.
أزمة سياسية
تتهم الكتل البرلمانية المساندة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد أحزابا سياسية بالوقوف وراء الحملات الاحتجاجية وفي مقدّمتها نداء تونس الذي عجز عن الإطاحة بالشاهد عقب نيل حكومة الأخير المعدلة ثقة البرلمان بفضل دعم كتلة الائتلاف الوطني وكتلة حركة النهضة.
وقال جلال غديرة النائب بالبرلمان عن كتلة الائتلاف الوطني، إن ما يحصل في تونس من ترويج لحملات احتجاجية تحمل أسماء السترات الحمراء أو البيضاء هو تقليد أعمى لما يحصل في فرنسا. ولم يكتف غديرة، في تصريح لـ”العرب” برفض الكتلة التي ينتمي إليها المساندة لحكومة الشاهد لمثل هذه الاحتمالات، بل وجّه اتهاما لأحزاب، لم يسمّها، بمحاولة تفجير الوضع في تونس على خلفية أحقاد سياسية عنوانها الوحيد الإطاحة بالشاهد بشتى الطرق.
واعتبر أن مثل هذه الحملات هي بمثابة سحابة صيف عابرة لأن التونسيين يئسوا من إصلاح حال الارتباك السياسي الحاصل منذ ثماني سنوات وهو ما أدى إلى تدهور الوضع وحتى إلى تعرّض البلاد إلى ضربات إرهابية.
ومع تقلّص زخم الاحتجاجات الجماهيرية الغفيرة خاصة بعد انتخابات 2014 بالنظر إلى انخراط الاتحاد العام التونسي للشغل طيلة عامين في مساندة حكومة الشاهد قبل أن يتمرّد عليه، يرجّح العديد من المتابعين أن تعود الاحتجاجات بأكثر حدّة خاصة أن بعضها انطلق في منطقة منزل بوزيان التابعة إلى محافظة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية في عام 2011 على خلفية استدعاء ناشطين بالجهة للتحقيق معهما إثر تقديم معتمد المنطقة قضية ضدهما أشار فيها إلى اعتدائهما بالعنف عليه.
وأدت الاحتجاجات المذكورة التي تسرّب بعضها إلى مناطق مجاورة في محافظة سيدي بوزيد إلى حرق سيارة أمنية ما أجبر قوات الأمن على استعمال الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.
وعلى عكس انتظارات المتابعين، فإن مواقف المعارضة الراديكالية والتقليدية البرلمانية، كالأحزاب اليسارية أو القومية والوسطية، جاءت داعمة لكل تحرّك احتجاجي سلمي في البلاد لكن دون الاقتباس من شعارات الاحتجاجات الفرنسية وحركة أصحاب “السترات الصفراء”.
وقال عمّار عمروسية النائب بالبرلمان عن الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية وقومية)، إن الجبهة لن تكون مصطفّة في أي مرحلة من المراحل في البلاد إلا مع النفس الاحتجاجي السلمي للتعبير عن التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي أدى إلى تراجع القدرة المعيشية للمواطنين.
وأكد عمروسية في تصريح لـ”العرب” أن الجبهة الشعبية ترفض الانخراط في أي محاولة لاقتباس شعارات أي تحركات احتجاجية تدور خارج البلاد بما في ذلك حركة السترات الصفراء، قائلا “للنفس الاحتجاجي التونسي سمة كبرى أدهشت العالم وبالتالي لا بد على التونسيين من مواصلة السير في نهج ابتكار أنواع فريدة من نوعها في الاحتجاج في ظل عجز حكومة يوسف الشاهد عن ابتكار حلول وبدائل خارج أطر الجهات المالية المانحة كصندوق النقد الدولي”.
ورجّح النائب اليساري أن تكون الرجة الاجتماعية هذا الشتاء مستهدفة ليس فقط للشاهد أو حكومته بل الأطراف التي حكمت البلاد بعد انتخابات 2014 وقبلها وتحديدا “حركة النهضة التي بان بالكاشف أنها حزب ديني خطير على مصلحة البلاد وأنها لم تخرج بعد من عباءة الجماعة”.
واعتبر عمروسية أن الحديث عن ثورة ثانية لتصحيح المسار شيء قريب للواقع، قبل أن يستدرك بقوله “لنكمل مسار ثورة يناير 2011 التي لم يتحقق من أهدافها سوى حرية التعبير التي سهرت الأطراف التقدمية والمجتمع المدني على حمايتها من حكام ما بعد الثورة ومن ثمة نناقش مسألة الثورة الثانية”.
وعلى الطرف الآخر من المعارضة، ترى بعض الأحزاب أن الحل في تونس لا يكمن في ثورة ثانية بقدر ما هو مرتبط بوجوب التعاطي الجيّد من قبل الحكومة مع المطالب الاحتجاجية الشعبية بعيدا عن أي توظيف سياسي.
وقال غازي الشواشي الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي، إن حزبه لن ينخرط في أي حملات مقلّدة ومشوهة كالسترات الحمراء لسببين، يكمن أولهما في وجوب المحافظة على الخصوصية الثورية التونسية.
أما ثاني الأسباب، وفق الشواشي، فيكمن في عدم تحمّل البلاد لثورة ثانية قد تقضي إلى الأبد على ما حققته تونس من ديمقراطية “رغم تآمر الحكومات المتعاقبة على الإرادة الشعبية بعدم تحقيق ولو جزء بسيط من مطالبه الاجتماعية والاقتصادية الحياتية واليومية”.
وأكّد أمين عام التيار الديمقراطي، في تصريح لـ”العرب”، أنه على الحكومة ألاّ تستغرب أي انفجار اجتماعي قد يحصل قريبا لأنها لم تجهّز أي شيء يرضي المواطنين، بل واصلت في تنفيذ سياسات ليبرالية لا تتماشى مع الواقع التونسي.
وأشار إلى أن حزبه يدعم أي تحرك احتجاجي شعبي سلمي ومنطقي، لأن كل الدلائل تؤكّد أن البلاد سائرة نحو المجهول سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بسبب تعنّت المنظومة التي أفرزتها انتخابات 2014 برمّتها.
التمرّد النقابي
لا يمكن الحديث في تونس، منذ فترة ما قبل الاستقلال وما بعدها، عن أي تحركات احتجاجية دون انخراط الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر منظمة نقابية في البلاد في ذلك، خاصّة أن المنظمة النقابية تحشد أنصارها بجميع هياكلها منذ مطلع عام 2018 لرفض السياسات الاقتصادية التي يتوخاها الشاهد.
وبعد تنفيذ إضراب عام بقطاع الوظيفة العمومية في شهر نوفمبر الماضي مازال اتحاد الشغل يصرّ على التهديد بإضراب عام شامل وبإضراب عام آخر في قطاع التعليم يوم 17 يناير المقبل. وفي قلب التمرّد النقابي على خيارات الحكومة، دعت الجامعة العامة للتعليم الثانوي على لسان كاتبها العام لسعد اليعقوبي الأساتذة لتجهيز السترات البيضاء احتجاجا على عدم تلبية وزير التربية لمطالب المدرّسين واحتجاجا على حكومة يوسف الشاهد برمّتها.
وهنا، قال النقابي فخري الصميطي (كاتب عام مساعد بنقابة التعليم الثانوي) إن استعمال عنوان السترات البيضاء ليس اقتباسا ممّا يحصل في فرنسا بل هي حركة رمزية تشير لزي الأستاذ والمعلم، والتعليم الذي ساءت أحواله أكثر فأكثر مع كل الحكومات المتعاقبة على حكم تونس إثر ثورة يناير 2011.
وأكّد الصميطي لـ”العرب” أن كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المتراجعة في تونس تؤكد أن التونسيين بمختلف شرائحهم وأجناسهم وطيفهم السياسي قد نفد صبرهم من مواصلة الحكومة الهروب إلى الأمام بصم الآذان عن أي مطلب شعبي لا هدف له سوى تأمين القوت اليومي للتونسيين.
وأوضح الناشط النقابي أن ردّة فعل التونسيين هذه المرة قد تكون مغايرة لأن مطالبهم اجتماعية صرفة، رغم أن الكثيرين يحاولون توجيه مسارات احتجاجات النقابيين أو أعضاء المجتمع المدني إلى معركة لي ذراع خاصة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وهو بحسب تعبيره تحليل خاطئ.
ودعا الصميطي رئيس الحكومة إلى الاتعاظ من التجربة الفرنسية الأخيرة والتعاطي بجدية وبروح وطنية مع كل الملفات الاجتماعية المطروحة على طاولته قبل فوات الأوان وقبل ثورة جديدة قد تكون ربما تحت يافطة الخبز والقوت اليومي للمواطن البسيط الذي لم يعد قادرا حتى على توفير مستلزماته الضرورية.
وأكد الناشط النقابي أن التونسيين أصبحوا اليوم أكثر إدراكا من ذي قبل بعالم السياسة بحيث لم تعد لديهم أي ثقة بالأحزاب السياسية، فيما يشير آخرون إلى أن الوضع السياسي المحتقن وتبادل الاتهامات ودخول قضية الجهاز السري للنهضة والتفاصيل التي كشفت عنها هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهيمي، أرهقت التونسيين المنهكين اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا، ضمن مؤشرات توحي بأن الاحتجاجات إن تأجّجت فستكون مخالفة لكل ما عاشت على وقعه تونس منذ ثورة يناير 2011 من نفس احتجاجي لا يقدر على قلب النظام الحاكم.
العرب