في ظل تراجع رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاصطدام مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ استلامه الرئاسة قبل عام تقريبا، إلا أن العلاقات الأمريكية ـ الروسية، تشهد مزيدا من نقاط التوتر والاصطدام، وكذلك تذهب تصريحات متناقضة بين وزارة الدفاع الروسية وقيادة حلف الناتو العسكري الغربي، فلم يكد يصدر تصريح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يوم الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، معبراً عن حاجة روسيا إلى تطوير أسلحتها، حتى بدأت الردود من الناتو تحذر وتتوعد من مخاطر التحركات الروسية الأخيرة، وهو ما أعقبه تدخل من الرئيس الروسي نفسه، من دون ان يقابل ذلك تدخل من الرئيس الأمريكي، ذلك أن روسيا تضع المسؤولية الأولى في هذا التوتر على أمريكا وموقفها من معاهدات التخلص من الصواريخ النووية متوسطة المدى.
تصريح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، كان أحد الحلقات المهمة قائلاً: “إن بلاده تدرس اتخاذ التدابير اللازمة لزيادة القدرات القتالية للقوات المسلحة الروسية، بالتزامن مع خطة الولايات المتحدة الأمريكية، الانسحاب من معاهدة التخلص من الصواريخ النووية متوسطة المدى”، وأوضح شويغو في تصريحه:” بأن رئيس البلاد فلاديمير بوتين، اجتمع الشهر الماضي في مدينة سوتشي، مع مسؤولين في وزارة الدفاع، ومؤسسة الصناعات الدفاعية، لمناقشة التدابير الواجب اتخاذها لزيادة القدرات القتالية للجيش الروسي”، فروسيا تتحدث الآن عن التدابير الواجب اتخاذها لزيادة القدرات القتالية للجيش الروسي، بل تحدث وزير الدفاع عن خطة تطوير وتحديث عسكرية لعام 2027، أي لعقد مقبل، وهذا بالتأكيد سيتم من خلال تقييم الخطط الأمريكية المواكبة للتحركات الروسية.
معاهدة التخلص من الصواريخ النووية متوسطة المدى التي يدور الحديث عنها والاختلاف عليها، وقعها الطرفان الروسي والأمريكي عام 1987، أي في السنوات الأخيرة للحرب الباردة، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وفي التاريخ القريب كان سباق التسلح النووي قد أرهق كلا الدولتين، ولكن الشكوى والأضرار الداخلية كانت بادية على الاتحاد السوفييتي أكثر بكثير من الولايات المتحدة والدول الأوروبية في حلف الناتو، ولذلك اعتبرت نهاية الحرب الباردة هزيمة عسكرية للاتحاد السوفييتي، وقام الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بإعلان الانتصار، وبداية نظام عالمي جديد عام 1991، وهو يعلن شن الحرب على العراق، وإخراجه من الكويت في ذلك العام.
الرئيس الأمريكي ترامب يتهم روسيا بعدم التقيد بتلك الاتفاقية بعد ثلاثين عاما، فتصريح ترامب بهذا الصدد يقول:”التزمنا بالمعاهدة واحترمناها، لكن للأسف الجانب الروسي لم يلتزم ببنودها ولم يحترم المعاهدة، لذا فإننا سنلغي المعاهدة وسننسحب منها”، وهذه الاتفاقية تنص على عدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو متوسطة أولاً، وتدمير كافة منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها ما بين 300 إلى 3400 ميل/ ثانية، وأمريكا ترى الآن ان روسيا قد نقضت هذه المعاهدة، وهو ما يعني بالنسبة لها التخلي عن الاتفاقية، وهو ما تهدد روسيا بمواجهته بتطوير أسلحتها النووية الصاروخية متوسطة وبعيدة المدى، بينما الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ستولتنبرغ دعا موسكو إلى الالتزام الكامل بالمعاهدة بشكل يمكن التحقق منه. وقال قبل يومين: “إن الحلفاء متفقون على أن منظومة الصواريخ الروسية المطورة، تنتهك معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، وتشكل خطرا كبيرا على الأمن الأوروبي ـ الأطلسي”، وبين ستولتنبرغ أن حلفاء الناتو خلصوا إلى أن روسيا طورت نظام صواريخ جديدا، أي أنهم يوافقون واشنطن بهذه الاتهامات، وفي الوقت نفسه يدعو روسيا إلى الالتزام الكامل بالمعاهدة بشكل يمكن التحقق منه.
هذه التصريحات الغربية لم تعجب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقال في التعليق على التصريحات الغربية يوم الخامس من ديسمبر الجاري: “إنه لا دليل على انتهاك روسيا لمعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى”، وجاء ذلك الموقف الروسي ردا على تصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بشأن عزم واشنطن: “الانسحاب من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى”، ومؤكداً على أن الولايات المتحدة لم تقدم أي أدلة على انتهاك روسيا للمعاهدة.
إن الموقف الروسي الذي بينه الرئيس بوتين يقوم على أن روسيا تعارض إلغاء المعاهدة أولاً، ولكنها سترد بالشكل المناسب في حال انسحبت الولايات المتحدة منها ثانياً، أي أن الموقف الروسي سوف يولي أهمية تطوير الأسلحة النووية الأهمية التي يتطلبها سباق التسلح الجديد، إذا أصرت أمريكا على إلغاء هذه المعاهدة، أي أن العالم مقبل على سباق تسلح نووي جديد وخطير، لن يتوقف على روسيا وأمريكا فقط، بل الأرجح ان تدخل كل الدول المطالبة بانهاء التفرد الدولي لأمريكا والمطالبة بعالم متعدد الأقطاب/ من المرجح ان تشارك في سباق الصواريخ الاستراتيجية متوسطة المدى، والقابلة لحمل رؤوس نووية في المستقبل.
ومن الأرجح أن تنقضي المدة التي أعلنتها وزارة الولايات المتحدة الأمريكية لروسيا وهي 60 يوما للوفاء بالتزاماتها المترتبة بموجب معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، قبل أن تجد أمريكا شيئا عمليا تستند إليه، لأن أمريكا لا تسعى لإلغاء المعاهدة لأسباب عسكرية خاصة فقط، وإنما لفرض الرؤى الأمريكية على روسيا في العديد من القضايا الدولية، بما فيها القدرات العسكرية لروسيا الاتحادية، حيث عمد بوتين إلى إعادة بنائها وتطويرها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. إن السياسة الخارجية الروسية والانفتاح على العالم في العديد من القضايا الدولية والشرق الأوسط، ومع دول الاتحاد الأوروبي القريبة من روسيا، بما فيها الجمهورية الأوكرانية، فروسيا تعمل لمد نفوذها في شبه جزيرة القرم، كما زادت من نفوذها في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وهذا يتم النظر إليه على انه توسيع نفوذ مؤازر لحلفاء روسيا في منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم إيران ونظام الأسد، وهو ما لا يرضي أمريكا ولا اسرائيل ولا حلفائهما في المنطقة أيضاً، فالتصعيد في سباق التسلح النووي بين أمريكا وروسيا هو ورقة ضغط على بوتين وروسيا لكي تضبط أطماع توسعها أولاً، ولكي تضبط أطماع حلفائها في منطقة الشرق الأوسط أو في منطقة الجزيرة الكورية أو جزيرة القرم وغيرها أيضا.
القدس العربي