بدا إعلان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، منذ ولادته عاطفياً محمّلاً بالتناقضات السياسية، وبعد ثلاثين عاما على صدوره بات جزءا من التاريخ النظري في أحسن الأحوال، إذ إن جوهره السياسي المتضمن إعلان دولة فلسطينية عاصمتها القدس لم يتم تطبيقه، أو تكريسه على أرض الواقع، وأكثر من ذلك، فإن المشهد الوطني الفلسطيني الجامع نفسه في الجزائر بات من الماضي وحلماً بعيد المنال أيضاً، يمكن فقط في هذا السياق مقارنته وعلى علّاته بالمجلس الوطني الأحادي الذي انعقد في رام الله إبريل/ نيسان الماضي لنستنتج أو نأخذ فكرة عن الحال الذي وصلنا إليه.
استند إعلان الجزائر إلى قاعدة أساس تتمثل في حق الشعب الفلسطيني بإعلان دولته المستقلة وفق القرار 181 – قرار التقسيم – الصادر عن مجلس الأمن الدولي في العام 1947، والذي ينص على إقامة دولتين واحدة عربية على 45 بالمائة من فلسطين التاريخية، وأخرى يهودية على 55 بالمائة منها مع إعطاء وضع خاص لمدينة القدس وجعلها تحت الوصاية الدولية.
غير أن الإعلان وعندما تحدث عن الحق الفلسطيني ونضال الشعب الممتد عبر التاريخ، وعن الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة، والاعتراف بالشرعية الدولية وقراراتها، بدا أنه يشير ضمناً إلى قراري 242 و338 أو كان المقصود الذي فهمه الفلسطينيون وحتى العالم أجمع هو دولة وفق حدود يونيو/ حزيران 1967 أي الضفة الغربية وغزة عاصمتها القدس، وعلى 22 بالمائة فقط من فلسطين التاريخية.
في ذلك الوقت تحديداً، أي عند صدور الإعلان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كانت أسس المشروع الاستيطاني التي تجهض وتقتل أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة قد وضعت فعلاً – أرئيل في عمق الضفة الغربية شمالاً ومعاليه أدوميم التي تمنع التواصل بين شمال الضفة وجنوبها، وتمتد شرقاً إلى غور الأردن بحيث لا تترك المجال لأكثر من حكم ذاتي بلدي موسع حتى لو تمت تسميته بالدولة، بينما على الأرض كانت البيئة مناسبة أكثر آنذاك – والآن – لخيار فكرة الدولة الواحدة مع حرية الحركة والعمل للمواطنين الفلسطينيين تقريباً، على كامل فلسطين التاريخية، وبدا الأمر منطقياً أكثر لو تم الإصرار على خيار الدولة الديمقراطية الواحدة بآليات ووسائل نضالية مختلفة طبعاً، خاصة مع تبني الخيار نفسه من قبل منظمة التحرير– الجهاز التنفيذي للمجلس الوطني – في نهاية الستينيات من القرن الماضي.
بعد الانبهار بالتجربة الجزائرية في الستينيات ثم الفيتنامية في السبعينيات بدا العقل السياسي الفلسطيني مأخوذاً بالتجربة الجنوب أفريقية مع العلاقة الوطيدة بالزعيم نيسلون مانديلا وحزبه، المؤتمر الوطني ونجاحه بعد ذلك في إنهاء نظام الفصل العنصري – أفرج عن مانديلا بعد شهر تقريباً من اجتماع الجزائر – إلا أن إعلان الاستقلال كما مجمل السياسة الفلسطينية تبني فكرة التقسيم وخيارات وأساليب مناقضة للتجربة الجنوب أفريقية.
إعلان الجزائر كان يعبر كذلك عن المكاسب السياسية التى حققتها منظمة التحرير بعد اندلاع الانتفاضة الأولى 1987 وسنوات التيه التي أعقبت الخروج من بيروت – 1982 – الإعلان في جوهره كان تعبيرا صريحا عن رغبة واستعداد وسعي المنظومة الفلسطينية الرسمية للانخراط في عملية التسوية – الاعتراف والتفاوض والصلح – مع إسرائيل وعدم ترك الأمر بأيادي الدول العربية الأخرى.
الإعلان أدى مباشرة طبعاً إلى الحوار الأميركي – الفلسطيني، ولكن بعد الاعتراف الصريح ليس الضمني فقط بالقرارين 242 و338 ثم الانخراط في عملية مدريد وأوسلو على أساس جوهره السياسي أي التقسيم، حل الدولتين، غير أن العملية برمتها وصلت في النهاية إلى طريق مسدود، ناهيك بالأساليب والتكتيكات التفاوضية الساذجة والخاطئة التي تضمنت اعتراف منظمة التحرير – حكومة المجلس الوطني – بإسرائيل دون اعتراف هذه الأخيرة بالدولة الفلسطينية، أو حتى اعتبارها هدفا نهائيا واضحا للعملية التي شملت كذلك حزمة من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية المكبلة التي منعت وتمنع عملياً تكريس الاستقلال أو الوصول إلى حلم الدولة الفلسطينية.
خلال السنوات الماضية، جرت عمليات تنفس اصطناعي لإنقاذ حلّ أو خيار التقسيم وفق 242، وليس 181 طبعاً، إلا أنها وصلت جميعاً إلى طريق مسدود والنتيجة أن الخيار- الحل- كله بات ميّتاً سريرياً، وأخذ معه إعلان الاستقلال الذي لم يكن يوماً عاطفياً، حبراً على الورق، كما هو عليه الآن.
صفقة القرن الأميركية التي وصلت إلى مراحلها النهائية، وقد يتم الإعلان عنها في أي وقت تحمل في طياتها تعبيرا سياسيا صريحا عن موت خيار التقسيم، هي لا تتحدث سوى عن حكم ذاتي بلدي موسع تحت مسمى دولة من دون القدس وحق العودة للاجئين، أو الانسحاب إلى حدود يونيو/ حزيران 1967، كما أن قانون الدولة اليهودية (قانون القومية) الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي بات أساسا وعمادا لسياسات حكومة اليمين المتطرفة يقضي على أي فرصة أو حل يتضمن قيام دولة فلسطينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما قصد إعلان الجزائر.
السيئ طبعاً في ما يخص إعلان الجزائر يتعلق بالمشهد أو الوضع الفلسطيني العام. فبدلاً من الوصول إلى الاستقلال، كما هدف الإعلان وفق خيار التقسيم على علاته وتحقيق حلم الدولة المستقلة التي عاصمتها القدس، بتنا أمام كيانين فلسطينيين منفصلين منقسمين متباعدين خاضعين، وإن بدرجات ومستويات مختلفة للاحتلال الإسرائيلي، أما الأسوأ فهو أن مشهد المجلس الوطني الجامع في الجزائر على علاته بات أيضاً حلماً صعب المنال حتى بهدف المراجعة واستخلاص العبر للتوافق على خيارات أكثر نجاعة وواقعية.
أخيرا، عانى إعلان الاستقلال مشاكل بنيوية في الشكل والمضمون، فلم يكن التقسيم يوماً خياراً عادلاً لأي مشكلة أو تجربة استعمارية، ولم يكن التنفيذ جيداً ذكياً، وحتى شجاعاً للخيار الخاطئ أصلاً من جهة الاعتراف المبكر بفشله، والبحث بالتالي عن خيارات أخرى أكثر عدلاً واقعية، وأما الثالثة فتتمثل في كوننا عاجزين حتى عن التلاقي للتفاكر والتشاور في ظل الاستلاب والمكابرة حول خيارات تحقيق خيار التقسيم بالتفاوض، أو القوة وهو الميت أصلاً، وكما العادة نقطة بقعة الضوء تتمثل دائماً في روح الصمود العالية للشعب ،عقله الجمعي، كما في الحتمية التاريخية المؤكدة لفشل تحلل الكيانات الاستعمارية كلها دون استثناء.