رغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاول السيطرة على الوضع لإخماد التحركات الاحتجاجية التي تقودها حركة “السترات الصفراء”، عبر تقديمه تنازلات بإعلان إجراءات كان من أهمها إلغاء الزيادة في الضريبة على الوقود، إلا أنه لم يستطع المحافظة على شعبيته بعدما أظهرت كل استطلاعات الرأي الأخيرة التراجع الحاد في شعبيته فاسحا المجال لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن التي تقدّمت بنحو 5 نقاط في البارومتر السياسي الفرنسي، وهو ما أجبر المراقبين على تعداد الأخطاء التي اقترفها ماكرون وأدت إلى هذا التراجع.
باريس – قال مراقبون للشؤون الفرنسية إن تراجع شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يكشف عن تبدل المعايير التي تقاس من خلال توجهات الرأي العام الفرنسي، لكنها تكشف أيضا عن سوء تقدير ارتكبه الرئيس المنتخب في قراءة فوزه الباهر في الانتخابات الرئاسية عام 2017.
وعقب موجة الاحتجاجات العارمة التي قادتها حركة السترات الصفراء في مختلف مناطق وأنحاء فرنسا وما أفرزته من إجراءات وتنازلات قدّمها ماكرون، كشف استطلاع للرأي نشرت نتائجه الثلاثاء، أن شعبية الرئيس الفرنسي وصلت إلى أدنى مستوى (27 بالمئة) منذ بداية ولايته في مايو 2017، بعدما تراجعت 5 نقاط خلال شهر واحد.
ورأى المراقبون أن مسألة انحدار شعبيته خلال الأشهر الأخيرة إلى حد مطالبته بالاستقالة من قبل المتظاهرين داخل حراك السترات الصفراء، متناسلة في بعض الجوانب من ظاهرة صعوده المفاجئ وإطاحته بمرشحي أحزاب اليمين واليسار، ووصوله الصاعق إلى قصر الإليزيه.
وكان ماكرون قد فاز بالانتخابات الرئاسية التي جرت في 7 مايو 2017 بنسبة 66.10 بالمئة، فيما حصلت منافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن على 33.9 بالمئة من الأصوات.
ويلفت بعض الخبراء إلى أنه ليس صحيحا أن فوز ماكرون مرتبط فقط بالتصويت الجمهوري العام لمنع مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن من الفوز بالرئاسة في فرنسا، بل إن التصويت لماكرون جاء بمثابة عقاب فرضه الناخب الفرنسي ضد كل الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم في العقود الأخيرة، ومثّل ردة فعل غاضبة ضد ولاية الاشتراكي اليساري فرنسوا هولند وولاية سلفه اليميني الديغولي نيكولا ساركوزي.
وقال الخبراء إن دليل ذلك هو أن الناخبين الفرنسيين منحوا في الانتخابات التشريعية في يونيو 2017 الرئيس المنتخب أغلبية داخل البرلمان من خلال التصويت لحزبه الفتي “الجمهورية إلى الأمام”، على الرغم من أن هذه الانتخابات تنافست عليها كافة الأحزاب وسجلت هزيمة لحزب “الجبهة الوطنية” الذي تقوده لوبن مقارنة بالانتخابات الرئاسية قبل شهر، والذي اقتصر تمثيله على 8 مقاعد في البرلمان.
ويعزو المراقبون تدهور شعبية ماكرون إلى عدة عوامل. ويعتبر هؤلاء أن الرئيس الفرنسي أراد استغلال صدمة انتخابه من أجل إحداث صدمة بالكيفية التي مورس فيها الحكم خلال الولايات السابقة.
ففيما حاول كافة الرؤساء التعايش مع حالات الاعتراض الخطيرة التي واجهت تدابيرهم، والتأقلم مع موازين القوى النقابية، سعى ماكرون إلى فرض إصلاحات صارمة وبوتيرة سريعة. وقد نجح الرئيس الفرنسي، متكئا على الأغلبية التي يحظى بها داخل البرلمان، من تمرير سلسلة من القوانين الإصلاحية، لا سيما قانون العمل والسكك الحديد، على الرغم من موجة من الإضرابات والتظاهرات التي سعت لتعطيلها.
ويعتقد بعض المحللين أن ماكرون سعى لاستغلال نفسه كظاهرة طارئة على التقاليد السياسية الفرنسية لفرض خيارات على النحو الذي فعلته رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر في ثمانينات القرن الماضي، من حيث تمكنها من فرض إصلاحات جراحية كبرى وتمكنها من تدجين الحركات النقابية في بلادها.
ماكرون سعى لاستغلال نفسه كظاهرة طارئة على التقاليد السياسية الفرنسية لفرض خيارات على النحو الذي فعلته رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر
ويرجح بعض الباحثين في الشؤون الفرنسية أن ماكرون أخطأ وحكومته في تقدير رد الفعل على الإجراءات الضريبية على الوقود، والتي تطال شرائح اجتماعية واسعة، لا سيما تلك التي تنتمي إلى الطبقات الوسطى والفقيرة.
ورأى هؤلاء أن الرئيس وحكومته تصرفوا على قاعدة “فائض ثقة” جعلهم يقيسون الأمور وفق معايير حسابية لم تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية الموجعة والموقظة لشرائح من الفرنسيين لم تكن تشارك قبل ذلك في أي مظاهرات مطلبية أو سياسية.
ووفق آخر استطلاع للرأي، سجلت شعبية رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب تراجعا أيضا، حيث اعتبره 31 بالمئة من الفرنسيين “رئيسا جيدا للحكومة” مقابل 68 بالمئة من الذين يرون عكس ذلك.
بيد أن مخضرمين في مراقبة الحياة السياسية في فرنسا يرون أن ظاهرة السترات الصفراء لم تكن مفاجئة للإليزيه والحكومة الفرنسية فقط، ولا يمكن لوم السلطة التنفيذية في البلاد على تفجر ظاهرة لم تستطع أي دراسة عميقة أن تفسّر حيثياتها حتى الآن.
وقال هؤلاء إن للانفجار الفرنسي أسبابا فرنسية داخلية، لكن القسط الواسع من الأسباب يعود إلى النظامين الاقتصادي والمالي اللذين يسيّران أمور العالم، ولا يمكن لفرنسا أن تحيد عن قواعدهما.
وتحشر بعض الآراء الأزمة الحالية في البلاد في شخص ماكرون الذي لم يعِ، حسب ما يرون، دوره الجامع للأمة والقائد لها والمدرك لطبيعتها.
وذكّرت بعض المواقف بزلات اللسان التي ارتكبها ماكرون، وبالمواقف التي نسبت له، والتي تعبر عن تسطيح لمشكلة البطالة والفقر في البلاد واعتبارها مرادفة للكسل وقلة الحيلة.
ويعتبر طيف واسع من الفرنسيين أن ماكرون كشف عن طباع لسوء تقدير، وفّرت لليمين واليسار مسوغ اتهامه بأنه رئيس الأغنياء في البلاد.
ولا يخاطر المراقبون في استشراف مستقبل ماكرون في ولايته الرئاسية الحالية كما احتمالات ترشحه لولاية أخرى.
ويقول هؤلاء إن استطلاعات الرأي لم ترفع من مستوى أي منافس سياسي ضد ماكرون حتى الآن، بمعنى أن الأحزاب التقليدية اليسارية واليمينية لم تستفد من اختراق كبير لافت يقلب الطاولة على ماكرون والماكرونية.
ومع ذلك فإن المستفيدة الرئيسية من هذه الأزمة، وفق استطلاعات الرأي، هي زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن. فخلال شهر واحد كسبت 6 نقاط وباتت تلقى تأييد 29 بالمئة، لتصبح واحدة من الشخصيات الأولى الثلاث بعد وزير البيئة نيكولا أولو (42 بالمئة، -3) وآلان جوبيه رئيس بلدية بوردو (35 بالمئة، +1).
ويعتبر المراقبون أن ماكرون وحكومته يعالجان الصدمة التي أحدثها أصحاب السترات الصفراء بمناورة التراجع عن كافة القرارات التي سببت هذا الغضب، كما إرضاء رجال الأمن الذين دفعوا ثمن الأمر في الميادين.
ويستنتج المراقبون أن خطاب ماكرون وإجراءات حكومته أدت إلى تقلّص حجم الاحتجاجات السبت الماضي، على الرغم من أن تحرك السترات الصفراء ما زال خطيرا، وقد يستعيد زخمه في أي لحظة في حال لم تسارع الحكومة وماكرون إلى اتخاذ تدابير وإجراءات بإمكانها إقناع الفرنسيين بأن تغييرا حقيقيا قادما وأن المنظومة السياسية برمتها قد أنصتت لحراكهم.
العرب