تحمل التوجهات التركية حيال الكثير من الأزمات التي تنخرط فيها أنقرة الكثير من الألغاز، فسياساتها تتجاوز الحدود الظاهرة للحفاظ على الأمن القومي، حسب خطابها المعلن نحو تبرير الانخراط في كل من العراق وسوريا، لأن تدخلاتها السافرة في الأزمة الليبية كشفت عن وجوه تتجاوز ذريعة الأمن القومي.
تتدخل أنقرة بجرأة متناهية في ليبيا البعيدة عن حدودها منذ اندلاع أزمتها قبل نحو ثمانية أعوام، من دون أن تواجه بلوم واضح من المجتمع الدولي، ما جعل جهات سياسية كثيرة تعتقد أن الممارسات التركية تتوافق مع أجندات دول أخرى وتتقاطع مع كتلة معتبرة من تقديرات أنقرة في ليبيا.
ما تقوم به تركيا لو أتت به عاصمة أخرى لكانت النتائج مختلفة من قبل المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، الذي يتشدّق بالبحث عن توفير الأمن والاستقرار لطرابلس وغيرها، ويغض الطرف عن المتسببين الحقيقيين في الفوضى، ويجتهد في البحث عن ثغرات يضمن بها مستقبل آمن للتيار الإسلامي في ليبيا.
الأربعاء الماضي، تم الإعلان، للمرة الثانية، عن ضبط سفينة أسلحة كبيرة قادمة من تركيا لتسليمها إلى الميليشيات النشطة في ليبيا، اكتفت بعثة الأمم المتحدة بتغريدة عبر تويتر، قالت فيها إن “التقارير الواردة عن شحنة كبيرة من الأسلحة وصلت إلى الشواطئ الليبية مثيرة للقلق، ليبيا بحاجة إلى السلام، وليس للمزيد من الأسلحة”.
لم يتحرك سلامة أو المجتمع الدولي في المرة الأولى عندما كشف حرس السواحل اليوناني في بداية العام الحالي، معلومات عن ضبط سفينة قادمة من تركيا ترفع علم تنزانيا متجهة إلى مصراتة في ليبيا، مليئة بالمواد التي تُستخدم في صناعة المتفجرات.
سمع العالم تحذيرات فؤاد أقطاي، نائب الرئيس التركي، على هامش مؤتمر باليرمو للأزمة الليبية في نوفمبر الماضي، ولم يتحرّك أحد لمحاسبته على تصريحات تخلو من اللياقة الدبلوماسية، وحملت تهديدات مباشرة ترمي إلى منع الوصول إلى تسوية سياسية، بعدها بأيام قليلة، أعادت الكتائب المسلحة تنظيم عناصرها وكادت طرابلس تدخل نفقا جديدا من الفوضى.
لم تعد أصابع تركيا في ليبيا خافية، لكن البعض يتعمّدون تجاهل دورها، لأنهم يتفقون مع أهدافها ويرتاحون إلى دعم الميليشيات، ويريدون إرباك المشهد إلى حين اتخاذ قرار في مصير الحل النهائي، وخلق واقع يجعل القوى الإسلامية رقما رئيسيا في المعادلة الليبية.
ويلعب هؤلاء دورا قويا في كل من تونس والمغرب والجزائر والسودان، وتأمل تركيا في توسيع النطاق والتمدد نحو مصر، التي تغرّد بعيدا في هذا الفضاء، وإجبارها على التسليم بتركيبة ثبت أنها أحد عناصر الخلل في المنطقة، وهو ما تشتاط منه أنقرة، ولا تتوانى في البحث عن سبل لاستعادة نفوذ شركائها الإخوان في القاهرة من بوابة طرابلس.
قفزت أنقرة عمليا بعيدا على محددات الجغرافيا السياسية القريبة، ووصلت إلى ليبيا سعيا وراء الحفاظ على استثماراتها هناك، وضمان الحصول على حصة جيّدة للشركات التابعة لها، ومنع خروج الأموال الليبية من تركيا، وتقدر بنحو 21 مليار دولار، وغالبيتها موجودة منذ حكم العقيد الراحل معمر القذافي.
يفسّر هذا البعد سبب تمهّل أنقرة في الاعتراف بالمجلس الانتقالي كممثل وحيد للشعب الليبي، عقب ثورة فبراير، بعد ضمان دور لها يحقق طموحاتها التوسعية، وكانت آخر دولة تعترف به في 1 يوليو 2011. يتصل بذلك بعد آخر له علاقة بالتوظيف الدقيق لتيار الإسلام السياسي، بما يتجاوز التلاقح في الأفكار الأيديولوجوية، لأنه أصبح جزءا من المنظومة التي تسيطر على الخطاب السياسي لنظام الحكم الحالي في تركيا.
حفلت التطورات الماضية بجملة أحداث تؤكد الانجذاب المتبادل بين الجانبين، حيث يعيش على الأراضي التركية أكبر تجمع للإسلاميين في العالم، وفي مقدمتهم إسلاميو ليبيا، علاوة على عناصر عديدة من الصف الثاني، التي تتحرك ذهابا وإيابا بين تركيا وليبيا.
قدمت الحكومة خدمات لوجيستية متباينة، وفتحت خطوط طيران مباشرة بين أنقرة وكل من مصراتة ومطار معيتيقة في طرابلس، وكان يسيطر عليه عبدالحكيم بلحاج، زعيم الجماعة الليبية المقاتلة في ذلك الوقت.
وكشف موقع ويكيليكس في يوليو 2016 عن جانب مهم في طبيعة الدور التركي في نقل أموال الليبي بلحاج، من خلال رسالة صادرة عبر بريده الإلكتروني عام 2013 عرض فيها على مصرفي تركي تابع للحزب الحاكم (العدالة والتنمية) طلب المساعدة لتهريب مبالغ مالية لأجل المحافظة عليها واستثمارها، مقابل دفع عمولة 25 بالمئة من المبلغ، وكان المبلغ وقتها حوالي 15 مليون دولار. وأكد مجلس الاتصالات (الهيئة المعنية بالرقابة على الإنترنت في تركيا)، أنه حجب موقع (ويكيليكس) في تركيا من اليوم التالي للتسريب، بذريعة أن ذلك إجراء إداري.
تتحرك تركيا على الساحة الليبية في خطوط متوازية، فهي تقدم دعما لافتا للكتائب المسلحة، وتدعم العناصر الموالية لها، وتستقطب القيادات التي تقبل التعاون معها، حتى لو كانت لا تحمل مواقف أيديولوجية واضحة ومؤيدة لها.
استقبلت عبدالهادي عوينات مؤخرا، عندما شعرت أن لديه ميولا للانقلاب على زعيمه هيثم التاجوري، قائد ما يسمّى بكتيبة ثوار طرابلس، لكن لم يسعفها القدر في توظيفه للمزيد من التمدّد في العاصمة، حيث لقي مصرعه في 27 نوفمبر الماضي، في معمعمة التصفيات الجسدية الجارية هناك.
لم تأل جهدا على الصعيد السياسي في تقديم الدعم لفايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي، رئيس حكومة الوفاق، والتيار المؤيد له، وتعلم أن المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي ضد التوجهات الإسلاموية والدول الداعمة لها، وتحاول تقليص نفوذه عبر مواصلة السخاء المادي والسياسي في دعم الأول، وبذل جهود مضنية لتقليص أجنحة الثاني.
قام خلوصي أكار، وزير الدفاع التركي، على رأس وفد عسكري كبير بزيارة طرابلس 5 نوفمبر الماضي، ولقاء السراج ومسؤولين أمنيين، ثم استقبل السراج بحفاوة في أنقرة، قبل أيام قليلة من مؤتمر باليرمو، ما يشير إلى دعمه في التوجهات التي يسلكها ضد المشير حفتر والدول المؤيدة له، ومحاولة توفير غطاء سياسي قد يسنده في مواجهة العواصف التي يواجهها.
تبذل تركيا جهدا لتقديم دعم معقد للسراج، وتعزيز نفوذه من خلال استمرار الأزمة وليس البحث عن حلول لها، فإطالة أمدها ربما تساعدها على تمترس حلفائها المتشددين في الأماكن التي يسيطرون عليها حاليا، بعد إعادة ترتيب الأوراق بما يحقق طموحات أنقرة الاقتصادية مستقبلا.
تحاول تركيا الآن استمالة وزير الداخلية القوي فتحي باشأغا، واستقبلته لمدة أسبوع مؤخرا، لتمديد القنوات المتشابكة معه، لأن الرجل يبذل جهودا كبيرة لترتيب الأوضاع الأمنية في طرابلس بما يعيد لها الاستقرار. وتتحسب أن تؤدي تحركاته إلى تقليم أظافر العناصر التي تعمل لحسابها، وتريد من وراء استقباله الإيحاء بأنه رجلها الأمني في طرابلس، متجاهلة ما هو معروف عنه من انضباط عسكري، وعلاقته بها لا تخرج عن مروحته السياسية الواسعة التي يستطيع بها استيعاب الكثير من التناقضات على الساحة الليبية.
لا تعلم أنقرة أن هذا النوع من الممارسات سيؤدي إلى المزيد من الاستفزاز لقوى عديدة ترى أن تركيا تصمم على تجاوز حدود الجغرافيا، وتذهب بعيدا إلى الغرب والجنوب الليبي، لأنها تعلم أن في الشرق قوة عسكرية منظمة لن تسمح لها بالاقتراب منه، ولذلك بدأت دول مثل إيطاليا وفرنسا تتحسّب من التوجهات التركية هناك، وتقلق من تصادم مصالحها معها.
بدأ الرئيس رجب طيب أردوغان يخشى من عواقب الاستنفار الذي صاحب فضيحة سفينة الأسلحة في ميناء “الخُمس”، الأسبوع الماضي، ويتحرّك لطمس روافدها السياسية، ومنع تحويلها إلى قضية رأي عام على المستوى الدولي، وأوفد مولود حمروش وزير خارجيته إلى طرابلس، السبت.
وطالبت القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، في بيان لها، الأربعاء، مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وبعثتها في ليبيا بإدانة تركيا و”فتح تحقيق فوري حولها، واتخاذ موقف جدي حيال ارتكابها جريمة إرهابية، بخرقها قرارات مجلس الأمن”.
وبدأ عدد من نشطاء المجتمع المدني والسياسيين والحقوقيين والإعلاميين والمهتمين بالشأن العام في إصدار بيانات بشأن التدخلات التركية السافرة، ومن غير المستبعد التحرّك باتجاه المجتمع الدولي لمحاسبة أنقرة على جرائمها في ليبيا، واتخاذ حادث السفينة كدليل على انتهاكاتها لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة.
تعتمد أنقرة على علاقتها بالسراج، رئيس الحكومة التي تحظى بشرعية دولية، في عدم تصعيد القضية، وتفويت الفرصة على استهدافها، لذلك كثفت تحركاتها الدبلوماسية، قبل أن تتحول سفينة “الخُمس” إلى القشة التي تقصف ظهرها في ليبيا.
تراهن تركيا على أن بعثة الأمم المتحدة وهي على وشك التحضير لمؤتمر جامع، لا تريد الدخول في تفاصيل قضايا من هذا النوع، وسط أطنان من المشكلات التي تواجه المؤتمر الذي أصبح عرضة للتفجير السياسي في أي لحظة، من قبل قوى ليبية وطنية تراه قفزة جديدة في الهواء للمبعوث الأممي.
العرب