أدى تطور عمليات مكافحة الإرهاب في أوروبا إلى تراجع الجريمة الإرهابية بالقارة، إذ سينتهي عام 2018 ما لم يحدث شيء غير متوقع في ما تبقى من السنة الجارية، بوفاة 20 شخصا تقريبا جراء الهجمات الإرهابية في أوروبا وهي نسبة أقل من السنوات الثلاث السابقة. ورغم المؤشرات الإيجابية يؤكد خبراء أنه وجب على القارة عدم الاطمئنان والتزام الحذر فالإرهاب مازال مرتفعا لاجتذاب داعش عددا كبيرا من الأوروبيين ومحاولة تنظيم القاعدة التمدد أوروبيا، أمام مخاوف من تداعيات الانسحاب الأميركي من سوريا حيث يشكل الجهاديون الأسرى لدى أكراد سوريا تهديدا لأجهزة الأمن الأوروبية.
لندن- الثلاثاء، الموافق لـ11 ديسمبر الجاري، قبيل الساعة الثامنة مساء، قتل شخص يدعى شريف شيكات، مسلح بمسدس وسكين، خمسة أشخاص وأصاب عشرات آخرين كانوا يزورون سوق الكريسماس الشهير أمام كاتدرائية ستراسبورغ بفرنسا.
أُصيب شيكات في تبادل لإطلاق النار مع قوات مكافحة الإرهاب لكنه نجا. وبعد يومين، رصدته دورية في شارع قريب من المكان الذي نشأ فيه، على بعد أميال قليلة من الكاتدرائية، وأطلقت عليه النار وأردته قتيلا. بعد ذلك، أصدر تنظيم الدولة الإسلامية بيانا صحافيا أشاد فيه بشيكات ووصفه بالجندي، غير أنه لم يتضح مع ذلك ما إذا كان التنظيم لعب دورا في الهجوم أم لا.
عمل شيكات في تجارة المخدرات واشتهر بالأعمال الإجرامية، وكان يقف على رأس قائمة مراقبة المتطرفين في فرنسا منذ عام 2008، عندما علق ملصق لزعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن في زنزانته في السجن.
من المحتمل توجيه الانتقادات للسلطات الفرنسية لأنها فشلت في منع الهجوم، غير أن ذلك لا يحجب حقيقة جلية أنه في عام 2018، كان هناك تراجع للهجمات الإرهابية في القارة الأوروبية. حيث تشهد أوروبا حاليا نهاية موجة العنف الجهادي التي بدأت في 13 نوفمبر 2015، مع سلسلة من هجمات داعش التي وقعت في باريس. ففي عام 2015، قُتل 150 شخصا في هجمات إرهابية، تبعها 135 شخصا في عام 2016، و62 شخصا في عام 2017. وما لم يحدث شيء غير متوقع في الأسبوع المتبقي من السنة الجارية، فإن عام 2018 سينتهي بوفاة 20 شخصا تقريبا من الهجمات الإرهابية في أوروبا، أي أقل من السنوات الثلاث السابقة.
تطور العمليات الأمنية
فسرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية في تقرير لها أسباب تقلص الإرهاب في أوروبا، وأشارت إلى أن هذا التراجع المفاجئ لا يعود فقط إلى انحسار قوات داعش، ولكن أيضا إلى تزايد قدرة السلطات الأوروبية في كفاحها ضد الإرهاب، وتمريرها لعدة قوانين صارمة جديدة، وإحباطها لعدة مؤامرات أرادت استهداف أمنها.
هذا التطور في الأداء يعتبر أمرا جيدا، لكن خطر الإرهاب لا يزال مرتفعا: فالجماعات الأخرى مثل القاعدة لا تزال نشطة في سوريا وفي أماكن أخرى، وقد ازداد عدد المقيمين من الجهاديين في أوروبا كثيرا في السنوات الأخيرة، صحيح أن الحكومات الأوروبية يمكنها أن تحتفل بهذا التراجع الأخير في أعمال العنف، لكن ذلك لا يجب أن يجعلها مطمئنة بل عليها اليقظة والحذر.
وبعد مرور سنوات من تنفيذ الهجمات الإرهابية البارزة في أوروبا، المستوحاة من فكر داعش المتطرف، شهد عام 2018 القليل من الهدوء الأمني، وقد وقعت بعض الهجمات الإرهابية هذا العام، معظمها في المملكة المتحدة وفرنسا. كان منفذو هذه الحوادث من الهواة الذين أعلنوا ولاءهم لداعش، لكن ليس بالضرورة أن تكون لهم صلة حقيقية تربطهم بالتنظيم.
ويعود تراجع أعمال العنف بشكل جزئي إلى انهيار تنظيم داعش في الشرق الأوسط، مما جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للجماعة لتجنيد الإرهابيين وتنظيم الهجمات في أوروبا، ولكن السبب الآخر أيضا هو نتاج للتطوير في الخطط التي تتبناها أوروبا في مكافحة الإرهاب.
ووفقا لليوروبول، في عام 2016، تم إحباط ثلاث هجمات فقط بينما تم تنفيذ 13 هجوما؛ وفي عام 2017، تم إحباط 11 هجوما بينما تم تنفيذ 10 هجمات. ورغم أنه لم يتم الكشف عن إحصاءات عام 2018، ولكن من المؤكد أن عدد الهجمات الإرهابية التي تم إحباطها فاق عدد تلك التي تم تنفيذها. وفي سبتمبر الماضي، كشفت السلطات البريطانية أنها أوقفت في المتوسط عملية إرهابية كل شهر على مدى الـ12 شهرا الماضية.
وعلى المستوى الأوروبي، مارس الاتحاد الأوروبي ضغوطا على الدول الأعضاء لتحسين تنسيق وتبادل المعلومات، في حين كثف اليوروبول الدعم العملي لقوات الشرطة الوطنية. وطلب الاتحاد الأوروبي في عام 2016 من الدول الأعضاء مشاركة المعلومات، وهو نظام يعرف باسم “سجل اسم المسافر”، والذي يتضمن معلومات عن المسافرين.
ورفضت الدول الأعضاء مشاركة هذه المعلومات مشيرة إلى أنها تحافظ على الخصوصية ولتخوفها من إساءة استخدام هذه المعلومات. وقد وقعت فرنسا، التي تعتبر من أكثر الدول انتقادا لمثل هذا النوع من القوانين على هذا النظام في عام 2017، وعلى الرغم من أن نظام “سجل اسم المسافر” لم يتم تنفيذه بالكامل بعد، إلا أنه أدى إلى تحسن كبير في نشاط مشاركة البيانات عبر القارة.
كما عززت بعض التشريعات الجديدة التي صدرت من قدرات أوروبا على مكافحة الإرهاب، وجرمت إسبانيا الانضمام إلى شبكات التطرف على شبكات الإنترنت في عام 2015، واعتمدت المملكة المتحدة قانون مكافحة الإرهاب والأمن، الذي وسع وصول السلطات إلى البيانات الإلكترونية الخاصة بالمشتبه في صلتهم بالإرهاب، والذي ساعد الشرطة على رصد حركاتهم ومراقبتهم بشكل أفضل.
يرى البعض “هيئة تحرير الشام” كجماعة جهادية محلية دون طموحات دولية. ومع ذلك، فمن الأرجح أن يستغل تنظيم القاعدة الجماعة. فقد سبق له أن استولى على منظمات جهادية أخرى باستخدام ما أطلق عليه بإستراتيجية “الدمج والاستحواذ”
وفي غضون ذلك، أصدرت فرنسا تشريعا في أكتوبر 2017 استبدل وقنن جوانب من سلطات الطوارئ التي دخلت حيز التنفيذ بعد هجمات نوفمبر 2015 حيث وسع القانون الجديد سلطات الشرطة الفرنسية لإجراء عمليات تفتيش، وسهل على الدولة عملية إغلاق المساجد المتطرفة، ووسع نطاق استخدام عمليات التحقق من الهوية عند الحدود وبالقرب منها.
وقد كشفت موجة الهجمات في 2015 و2016 بعض الإخفاقات بالتنسيق بين وكالات الأمن المحلية والوطنية لكنه حاليا وقع تداركها وتصحيحها. وفي عام 2016، أقرت ألمانيا قانونا جديدا، بالإضافة إلى تسهيل ترحيل الأجانب “الخطرين” وحرمان المواطنين مزدوجي الجنسية المشتبه في تورطهم في الإرهاب من الجنسية الألمانية، ومنح الشرطة الفيدرالية المزيد من القدرة على المراقبة. وبالمثل، أعلن وزير الداخلية البريطاني في يونيو 2018 ساجد جاويد، أن جهاز الأمن الداخلي “إم آي 5” سيقوم على نحو أكثر سهولة بإزالة السرية عن المعلومات المتعلقة بالمواطنين المشتبه في تعاطفهم مع الإرهاب ومشاركة هذه المعلومات مع السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية. كما طورت فرنسا والمملكة المتحدة من قدرة الشرطة المسلحة على الاستجابة السريعة للهجمات. وبفضل زيادة القوى العاملة وخطط التدريب الجديدة، اتخذ الأمر من شرطة لندن ثماني دقائق فقط للرد على هجوم جسر لندن في يونيو 2017.
القاعدة.. العدو البعيد
رغم النجاحات الأمنية الأوروبية وتراجع الجريمة الإرهابية، لكننا نجد بعض المؤشرات غير المطمئنة، أولها هو أن شبكة الجهاديين ذوي الخبرة في أوروبا قد نمت بشكل كبير، حيث اجتذب داعش بين عامي 2011 و2017، حوالي 40 ألف متطوع أجنبي من 110 دول، ما يقدر بـ7 آلاف منهم جاؤوا من أوروبا. وقد قُتل عدد غير معروف منهم في العراق وسوريا، وسُجن أكثر من 1000 منهم في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في تلك الدول.
التراجع المفاجئ لعمليات تنظيم داعش بأوروبا لا يعود فقط إلى انحسار التنظيم في الشرق الأوسط، لكن أيضا إلى تزايد قدرة السلطات الأوروبية في كفاحها ضد الإرهاب وتمريرها لعدة قوانين صارمة جديدة وإحباطها لعدة مؤامرات
التراجع المفاجئ لعمليات تنظيم داعش بأوروبا لا يعود فقط إلى انحسار التنظيم في الشرق الأوسط، لكن أيضا إلى تزايد قدرة السلطات الأوروبية في كفاحها ضد الإرهاب وتمريرها لعدة قوانين صارمة جديدة
وقد عاد الكثير منهم إلى ديارهم، وتم اعتقال بعضهم، لكن العقوبات الأوروبية تتراخى كثيرا بالنسبة للمعايير الأميركية: فالذين يدانون بجرائم تتعلق بالإرهاب يحصلون على خمس سنوات فقط في المتوسط، ويتم الإفراج عن العديد منهم قبل تنفيذ مدة السجن كاملة. وتحذر السلطات في فرنسا من أنه بحلول نهاية عام 2019، ستفرج السجون الفرنسية عن 500 إرهابي وسجين معروفين بتطرفهم. وفي المملكة المتحدة، سيتم الإفراج عن نصف ما يقرب من 200 سجين إرهابي تم سجنهم منذ عام 2009 بحلول عام 2019.
صحيح أن قوات داعش انحسرت في الشرق الأوسط بفضل جهود التحالف الدولي للقضاء على الإرهاب، لكن في المقابل تزايدت شوكة تنظيم القاعدة. وحاليا، تحتوي الجيوب الإرهابية في شمال سوريا وشمال أفريقيا على حوالي 2000 من مقاتلي داعش، في حين ينتمي إلى تنظيم “هيئة تحرير الشام” التابع لـ”القاعدة” خمسة أضعاف عدد الموالين المسلحين في المنطقة.
وعلى الرغم من أن “هيئة تحرير الشام” تقوم بتجنيد عناصرها على الإنترنت، إلا أنها اختارت تعزيز سلطتها في الشرق الأوسط بدلا من تنظيم هجمات في أوروبا قد تلفت أنظار قوات مكافحة الإرهاب الغربية. ويرى البعض “هيئة تحرير الشام” كجماعة جهادية محلية دون طموحات دولية. ومع ذلك، فمن الأرجح أن يستغل تنظيم القاعدة الجماعة من أجل القيام بإعادة صياغة لتكتيك التنظيم. فقد سبق له أن استولى على منظمات جهادية أخرى باستخدام ما أطلق عليه عالم السياسة دانيال بيمان استراتيجية “الدمج والاستحواذ”. وهي أن يشترك التنظيم مع الجماعات المحلية ثم يعمل على التأثير عليها من الداخل، ويحول “توجه فكرة الجهاد من المستوى المحلي إلى العالمي”.
ولطالما كانت لدى القاعدة استراتيجية تستهدف “العدو البعيد”- الغرب- بدلا من المنافسين المحليين. ولن يكون من المفاجئ أن يقرر زعيم التنظيم أيمن الظواهري استهداف أوروبا في المستقبل القريب.
ولا يمكن إنكار أن أوروبا أصبحت أكثر أمنا من الإرهاب مما كانت عليه منذ سنوات، ويرجع الفضل إلى جهود مكافحة الإرهاب التي تبذلها الحكومات الأوروبية، لكن الإرهاب له تقلباته وطرقه الخاصة به. حيث جرت العادة أن تستخدم الشبكات الإرهابية أساليب جديدة لمداهمة الحكومات غير المستعدة، ثم تقوم الحكومات بتمرير تشريع جديد لمكافحة الإرهاب وإعادة تنظيم وكالاتها ذات الصلة، مما يجعل التهديد الإرهابي تحت السيطرة. ثم يعيد الإرهابيون تجميع صفوفهم وتغيير تكتيكاتهم، ثم يستعدون لبدء حملة جديدة، وتبعا لذلك لا يجب أن يخفض قادة أوروبا حذرهم.
العرب