أثناء احتفالات أعياد الميلاد في كل عام يغادر الكثير من الشباب الأوروبي المدن الكبيرة التي يعملون ويقيمون بها، مثل لندن وبرلين وباريس وأمستردام، ويعودون إلى القرى والمدن الأوروبية الصغيرة التي ولدوا وعاشوا بها قبل أن يجبرهم السعي وراء فرص عمل أفضل على الانتقال إلى فضاءات أوسع خارج دوائر عائلاتهم.
وربما تكون أعياد الميلاد هي المناسبة الوحيدة التي تجمع قطاعين مختلفين داخل القارة الأوروبية: قطاع الشباب الأفضل تعليما والأصغر سنا والأكثر قدرة على الاستفادة من التغييرات المتلاحقة في سوق العمل، خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، والذي يعيش عادة في المدن الأوروبية الكبيرة، وهو أكثر قبولا للمهاجرين والوافدين والمنتمين لثقافات أخرى بشكل عام، والقطاع الآخر أكبر سنا، وأقل تعليما، ويعمل عادة في الصناعات والمهن التقليدية، ويعيش في القرى والمدن الصغيرة، وهو بالتبعية يتوجس من المهاجرين الذين لا يعرفهم ولا يفهم غالبا ثقافاتهم، ويتخوف من التغييرات في سوق العمل لأنه غالبا غير قادر على ملاحقتها.
من الطبيعي أن تنعكس هذه الاختلافات الواسعة بين هذين القطاعين في الدول الأوروبية على مواقفهما السياسية والاجتماعية. ولعل هذه الفروق تفسر لماذا صوّت أغلب سكان لندن لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، فيما صوّت أغلب الناخبين الإنكليز خارج لندن لصالح الخروج من الاتحاد.وتوضح لماذا اندلعت مظاهرات “السترات الصفراء” في الريف والمدن الفرنسية الصغيرة بعد أن اتخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرارا برفع أسعار الوقود، الأمر الذي جعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للعمال وسائقي الشاحنات الذين يعتمدون في عملهم على قيادة سياراتهم وشاحناتهم إلى المدن الكبيرة حيث يعملون. وتوضح أيضا لماذا تدافع عمدة أمستردام، فيمكه هالسيما، عن التعدد الثقافي والتنوع العرقي وعن المشروع الأوروبي بخلاف مواقف اليمين المتطرف في هولندا. وهذا هو نفس موقف صديق خان، عمدة لندن، الذي يؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي، ويدعو إلى الحفاظ على المكاسب التي تجنيها لندن باعتبارها من أبرز العواصم الأوروبية التي تحتضن مواطنيها على اختلاف أعراقهم ودياناتهم.
من الواضح أن الانقسامات الحالية في المجتمعات الأوروبية، خاصة في الدول الأوروبية الكبيرة، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تجاوزت الخلافات التقليدية بين اليمين واليسار التي ظلت مهيمنة على الحياة السياسية في أوروبا لعقود طويلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تعاني هذه الدول الآن من خلافات وانقسامات حادة تجاه قضايا رئيسية مثل دور الاتحاد الأوروبي، وكيفية التعامل مع المهاجرين واللاجئين، والهوية الثقافية والدينية للمجتمع في ظل وجود أعداد متزايدة من المهاجرين الذين ينتمون لديانات وثقافات متعددة.
وهناك ثلاث قضايا هامة واجهت الدول الأوروبية الكبيرة خلال عام 2018، وتبحث عن حلول في عام 2019:
-
ماي تبحث عن مخرج من الأزمة
أبرز أزمة واجهتها بريطانيا في عام 2018 هو الاتفاق الذي توصلت إليه تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، مع الاتحاد الأوروبي بهدف تنظيم العلاقة بين الجانبين بعد أن تخرج بريطانيا من الاتحاد في نهاية مارس 2019 كما هو مخطط.
تعرض هذا الاتفاق إلى انتقادات واسعة سواء من قبل أعضاء في حزب المحافظين الحاكم، الذي تتزعمه ماي، أو من جانب حزب العمال المعارض لأنه ببساطة لم يحقق تطلعات وتمنيات من يؤيد الخروج من الاتحاد الأوروبي أو من يعارضه.
يؤدي هذا الاتفاق إلى استمرار خضوع بريطانيا لأغلب قواعد ونظم السوق الأوروبية مقابل حصولها على حق التجارة في السلع بلا قيود مع هذه السوق التي تمثل أكبر شريك تجاري لبريطانيا، هذا علاوة على مشكلة كبيرة مرتبطة بوضع أيرلندا الشمالية التي ستكون خاضعة لقواعد تجارية مختلفة عن باقي أقاليم بريطانيا، وذلك بهدف عدم وجود نقاط تفتيش على السلع التي تنتقل بين أيرلندا الشمالية، وجمهورية أيرلندا التي تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي، وترفض تماما وجود مثل هذه النقاط التي تقسم جزيرة أيرلندا.
يرى مؤيدو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أن الوضع الحالي أفضل، حيث تشارك بريطانيا في صناعة القرارات في الاتحاد الأوروبي بدلا من أن تخضع لقرارات لا تساهم في صياغتها. وتجاه هذه الانتقادات اضطرت ماي إلى تأجيل التصويت على مشروعها إلى مطلع عام 2019.
وإذا رفض مجلس العموم البريطاني هذا المشروع، فستكون هناك خيارات صعبة أمام بريطانيا، من بينها إجراء استفتاء آخر، أو الخروج من الاتحاد بلا أي اتفاق، الأمر الذي ستكون له آثار سلبية واسعة على الاقتصاد البريطاني.
-
ماكرون والسترات الصفراء
ربما لم يتوقع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن شعبيته ستتآكل بسرعة إذا سعى لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية التي وعد بها عند انتخابه، خاصة أنه تجاوز الانقسامات السياسية المعادة في فرنسا بين اليمين واليسار، ونجح في تكوين حزب جديد هو “الجمهورية إلى الأمام”، وتمكن من الفوز بمقعد الرئاسة بفارق واضح عن منافسته مارين لوبان، وتمكن حزبه أيضا من الفوز بأغلبية برلمانية مطلقة.
لكن، ما حدث أن ماكرون دخل في مواجهة مع عدة نقابات بسبب الإصلاحات التي يريد تطبيقها، ثم كانت المواجهة الأكبر مع مظاهرات “السترات الصفراء” التي اهتزت لها فرنسا كل يوم سبت خلال شهر نوفمبر 2018.
اضطر ماكرون بعدها إلى التراجع السريع عن الزيادة في أسعار الوقود التي سعى لتطبيقها، وإلى حزمة من المساعدات للفقراء الذين احتجوا على سياساته بلغت تكلفتها نحو عشرة مليارات يورو. وكانت النتيجة أن تراجعت حدة المظاهرات بشكل ملحوظ، لكنها لم تتوقف بالكامل، والأهم أن أسبابها ودوافعها لازالت قائمة.
من أهم هذه الأسباب أن ماكرون يريد تغيير نموذج دولة “الرفاه الاجتماعي” الذي اعتاد عليه الفرنسيون لسنوات طويلة، والذي أدى إلى وجود ضرائب عالية تنفّر المستثمرين، وعجز مالي هائل يرهق الحكومة.
وفي ذات الوقت يرى العمال الفرنسيون، الذين يحصلون نسبيا على رواتب محدودة، أن ماكرون يحمّلهم وحدهم أعباء إصلاحاته الاقتصادية، وأن مستوى معيشتهم يتراجع باستمرار مع الارتفاع المستمر في الأسعار، وأن ماكرون هو “رئيس الأغنياء” الذي لا يشعر بمعاناة الفقراء. ومن ثم، يمكن أن تندلع مظاهرات “السترات الصفراء” مجددا في عام 2019 إذا عاد ماكرون لسياسات تزعج الفقراء، وعليه أن يجد طريقة لتمرير إصلاحاته دون تحريك الشارع ضده، وهي مهمة عسيرة بلا شك.
-
ميركل وأزمة المهاجرين
اضطرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الاستقالة من رئاسة حزبها، الحزب المسيحي الديمقراطي، في عام 2018 بعد خلافات واسعة سواء داخل حزبها أو مع شريكها في الاتحاد المسيحي، وهو الحزب المسيحي الاجتماعي، حول سياسات الهجرة. غير أن ميركل وقفت بكل قوة مع خليفتها المنتظرة، أنغريت كرامب كارنباور، التي تلقب أحيانا “بميركل الصغيرة” واستطاعت الدفع بها لرئاسة الحزب بعد منافسة قوية مع فريدريتش ميرتس الذي كان يعارض بوضوح سياسات ميركل تجاه اللاجئين والمهاجرين، ويريد أن يتبنى نهجا يقارب ما يطرحه حزب “البديل من أجل ألمانيا” الشعبوي.
ويعدّ نجاح كرامب كارنباور مكسبا كبيرا لميركل، إذ سيساعدها على البقاء ممسكة بزمام السلطة حتى تنتهي فترة ولايتها الرابعة كمستشارة عام 2021.
غير أن هناك تحديا كبيرا في انتظار المستشارة الألمانية في عام 2019، وهو انتخابات البرلمان الأوروبي، إذ يسعى حزب “البديل من أجل ألمانيا” لتكوين شبكة من الشعبويين في البرلمان الأوروبي تضم إيطاليا والنمسا، وتعمل على الضغط باتجاه تشديد قوانين وقواعد الهجرة واللجوء، والتضييق بشكل عام على المهاجرين ممن ينتمون لثقافات أخرى، خاصة المسلمين.
وتبقى المواجهات مستمرة في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا بين من يرون في الهجرة مكسبا اقتصاديا، وتنوعا ثقافيا يزيد من ثراء وقوة المجتمع، وبين من يرونها كارثة تهدد المجتمعات الأوروبية، وتعصف بثقافتها، ومن يرون الاتحاد الأوروبي مشروعا يضمن الازدهار والنمو للدول الأوروبية، ومن يراه تهديدا لدور الحكومة المنتخبة في كل دولة، وتصديرا للعمالة الرخيصة القادمة من شرق أوروبا.
وبقدر ما تتمكن الدول الأوروبية من تقريب الفجوة بين الفئات الأكثر تعليما وانفتاحا التي تعيش في المدن الكبيرة، وبين تلك التي تعيش في الريف والمدن الصغيرة، بقدر ما يمكن لمشروع الوحدة الأوروبية أن ينجح، ويمكن للمجتمعات الأوروبية أن تتجاوز انقساماتها العميقة حول الهجرة والهوية.
العرب