لم يحصل، ولن يحصل، شيء بالصدفة في لبنان حيث الوضع مرتبط بالتطورات الإقليمية، بما يحدث في سوريا والعراق واليمن تحديدا. تكفي عودة إلى الماضي القريب للتأكد من ذلك. على سبيل المثال وليس الحصر، لم يكن صدفة بعد سقوط صنعاء في يد الحوثيين (أنصار الله) في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014، مسارعة عدد لا بأس به من المسؤولين الإيرانيين ومن الأبواق الإيرانية إلى الإعلان أن طهران باتت تسيطر الآن على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
لم يكن الأمر مجرّد عرض عضلات وكلام فارغ. أثبتت إيران بالفعل وليس بالقول فقط أنّها تسيطر بالفعل على أربع عواصم عربية، وأن طموحها كان الوصول إلى مرحلة تتحكّم فيها بمضيق هرمز، الذي تشرف عليه مع سلطنة عُمان، وباب المندب في اليمن في الوقت ذاته. لم تستطع تحقيق هذا الطموح بعدما استطاع التحالف العربي الذي يخوض معركة منع سقوط اليمن في يد إيران إخراج الحوثيين من ميناء المخا الواقع بين عدن والحديدة والذي يمكن استخدامه في منع السفن من دخول البحر الأحمر وصولا إلى عبورها قناة السويس.
من الطبيعي في الوقت الحاضر أن تعرقل إيران تشكيل حكومة عراقية. مطلوب من الحكومة العراقية الجديدة برئاسة عادل عبدالمهدي الرضوخ للمطالب الإيرانية. تريد إيران قائد “الحشد الشعبي” فالح الفيّاض وزيرا للداخلية. ما على عبدالمهدي سوى الانصياع لهذا الطلب الذي يعني، بين ما يعنيه، أنّ بغداد تُحكم من طهران، وأن لا فارق لديها بين شيعي وسنّي وكردي عراقي. على الجميع الانصياع لرغبة “الحرس الثوري” الإيراني الذي يريد نقل التجربة الإيرانية إلى العراق.
على من لم يقتنع بوجهة النظر الإيرانية النظر إلى ما حلّ برئيس الوزراء السابق حيدر العبادي الذي صار أقرب إلى سياسي عراقي منبوذ أكثر من أيّ شيء آخر. عزلت إيران العبادي ومنعته من العودة إلى موقع رئيس الوزراء بعد الانتخابات الأخيرة، وذلك بسبب وضعه مصالح العراق فوق مصالح إيران ومناداته بـ“العراق أوّلا” في ضوء العقوبات الأميركية الجديدة على “الجمهورية الإسلامية”.
صار في استطاعة إيران معاقبة أي شخصية عراقية ترفض أن تكون مجرّد تابع لها. حقدها على شيعة العراق في مستوى حقدها على السنّة، نظرا إلى أن الشيعة وقفوا سدّا في وجه احتلالها البصرة ومناطق الجنوب العراقي في حرب السنوات الثماني بين 1980 و1988. لا تؤمن إيران إلا بالذين قاتلوا إلى جانبها في حربها مع العراق. هؤلاء صاروا في السلطة الآن بعدما دخلوا بغداد على دبابة أميركية في العام 2003. أكثر من ذلك، صاروا يزايدون على إيران في إظهار عدائهم لأميركا!
لا يوجد أي استعداد إيراني في الوقت الحاضر لتقديم أي تنازلات في العراق. ما ينطبق على العراق ينطبق على سوريا أيضا، حيث فُوجئت إيران بحجم الضربة الإسرائيلية الأخيرة ووقوف روسيا موقف المتفرّج. نسيت إيران أن روسيا لا تعمل لديها وأن لموسكو حسابات خاصة بها.
نسيت خصوصا الظروف التي رافقت إرسال روسيا قاذفات إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقية أواخر أيلول – سبتمبر 2015 للمشاركة في الحرب على الشعب السوري، وذلك في وقت كانت المعارضة تتقدّم على كل الجبهات. من أبقى بشّار الأسد في دمشق كان التدخل الروسي، وليس الميليشيات المذهبية الإيرانية التي لعبت من دون شكّ دورها في دعم النظام من منطلق مذهبي بحت. لكن هذا الدعم، الذي لم يكن كافيا، أجبر إيران على اللجوء إلى سلاح الجو الروسي.
هناك إصرار إيراني على التصرّف بطريقة توحي أنّها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في دمشق. ترفض حتّى أن تتذكر أن سلاح الجو الروسي لم يتحرّك في اتجاه الساحل السوري قبل زيارة الجنرال قاسم سليماني قائد لواء القدس في “الحرس الثوري” لموسكو وتقديمه كل الضمانات المطلوبة روسيا.
إذا كانت إيران تجد بعض الصعوبة في تأكيد سيطرتها الكاملة على دمشق بسبب اضطرارها إلى مراعاة الجانب الروسي، الذي عليه، بدوره، أخذ مصالح إسرائيل في الحسبان، فإن لبنان لا يزال منذ ثمانية أشهر بلا حكومة بسبب إيران. أخذت إيران لبنان رهينة. تعتقد، خطأ، أن لبنان همّ أميركي وأن في الإمكان استخدامه ورقة في مساومات لاحقة مع الإدارة الأميركية ومع إسرائيل.
يدفع لبنان غاليا ثمن الإصرار الإيراني على تغيير النظام فيه ليصبح “حزب الله” اللاعب الأوّل والوحيد في البلد بما يؤهله لتشكيل الحكومة بالطريقة التي يشاء. لم يعد رئيس الوزراء المكلف، سعد الحريري، يشكل الحكومة بالتعاون مع رئيس الجمهورية كما نصّ الدستور. صار مطلوبا أن يشكّل “حزب الله” هذه الحكومة… وإلّا لا حكومة في لبنان. لم يُنتخب رئيس للجمهورية إلا بعد موافقة الجميع على مرشّح “حزب الله”. ولّد ذلك سابقة في غاية الخطورة لجهة وضع اليد الإيرانية على لبنان بطريقة مدروسة، وذلك نتيجة جهد دؤوب بدأ بتغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، وصولا إلى تغيير تركيبة البلد ودستوره.
أخيرا، ليس صدفة أن لا شيء يتقدّم في اليمن. بعد كلّ الضغوط التي مُورست على التحالف العربي للحؤول دون حسم المعركة في الحديدة، أمكن التوصل إلى اتفاق ستوكهولم الذي يفترض انسحابا حوثيا من المدينة ومن مينائها الاستراتيجي. يتبيّن الآن أن اليمن ورقة إيرانية وأن “أنصار الله” على غير استعداد لإخلاء الحديدة والميناء، وأنّ كلّ ما كان مطلوبا من اتفاق ستوكهولم هو توفير شرعية للحوثيين بصفة كونهم الطرف الآخر الوحيد الذي يفاوض “الشرعية” اليمنية ويعقد اتفاقات معها.
من العراق، إلى سوريا، إلى لبنان، إلى اليمن، يتبيّن كلّ يوم أن إيران تحوّلت مع حلول السنة 2019 إلى لاعب إقليمي لا يمكن تجاهله، خصوصا في غياب إستراتيجية أميركية واضحة. كان مفترضا أن تتوضّح هذه الإستراتيجية الأميركية في أعقاب تمزيق الرئيس دونالد ترامب الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني وفرضه عقوبات على “الجمهورية الإسلامية”.
لم يظهر بعد تأثير هذه العقوبات على الداخل الإيراني على الرغم من حال التململ الشعبي التي تسود كلّ المناطق. كلّ ما ظهر يتمثل في أن إيران لاعب إقليمي مهمّ عرف كيف يستغل الغرائز المذهبية ويستثمرها إلى أبعد حدود. مشكلة هذا اللاعب أنّه يعرف كيف يهدم، لكنّه لا يعرف كيف يبني. هدم قدر ما يستطيع في العراق وسوريا ولبنان واليمن حيث تحكم صنعاء جماعة لا علاقة لها بأي مقياس حضاري، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا تعليميا.
هدّم النظام إيران نفسها من دون أن يجيب عن سؤال في غاية البساطة: لماذا يفعل ذلك وكيف يمكن أن يفيده ذلك مستقبلا؟
العرب