جنيف – بعد الانتخابات البرلمانية في مايو 2018 كان من المنتظر أن يقلب العراق الصفحة ليفتح فصلا جديدا ما بعد الحرب على الإرهاب، وذهبت آمال البعض حد تخيّل عراق ما بعد الطائفية، والأحزاب الدينية، بل وعراق بلا إيران أيضا. وتطلع العراقيون إلى مرحلة يبدأ فيها العمل على معالجة الاستقطاب في البلاد والفساد المستشري وعدم الاستقرار الناتج عن العنف؛ لكن الحاصل هو أن الوضع ازداد سوءا وتعقيدا.
يعاني العراق من تراكمات إرث الاحتلال الأميركي، قبل 15 سنة، وما سبقه من حصار وتضييق، ثم ما جاء به من إرهاب وفوضى ومحاصصة طائفية وتدخل إيراني، وهو ما لا يحمل مؤشرات على تحسّن قريب للوضع، سواء من خلال متابعة أزمة تشكيل الحكومة والانقسامات الطائفية أو من خلال ما يرصده مركز جنيف الدولي للعدالة (منظمة غير حكومية مستقلة) في تقاريره حول الوضع في العراق، والتي من أحدثها، إصدار حالة حقوق الإنسان في العراق لسنة 2018، والذي جاء بعنوان لافت لخّص الوضع العراقي، بأنه “شعب مسلوب الإرادة، تحكمه سلطة فاسدة، في غياب لحكم القانون”.
يستمد الخبراء في المركز هذا التوصيف مما تم رصده في العراق من أوضاع متردية، كانت نتيجة للغزو الأميركي الذي تمر هذا العام الذكرى الخامسة عشرة له، لكنه نتيجة أيضا للحكومات التي شهدها العراق على مر هذه السنوات، بعد أن تم حل مؤسسات الدولة وإحلال نظام حكم يقوم على المحاصصة الطائفيّة وإبعاد الكوادر المحترفة في الدولة، ليحل محلها موالون لإيران ومسؤولون استفادوا كثيرا من حالة الفوضى والانقسام.
أعاد هذا الوضع السياسي، العراق إلى عهود غابرة، حيث هناك أحياء بأكملها تفتقر للمياه والكهرباء والخدمات الأساسية، وحيث ينتشر الفقر والأمية وأمراض كان قد قضي عليها منذ أواسط القرن الماضي، بالإضافة إلى أن حقوقه في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية والتعليم، والتجمع السلمي، وتكوين الجمعيات وحرّية التعبير، بلّ حقّه الأساس في الحياة، قد تعرّضت جميعها للخطر نتيجة للعمليات العسكرية العشوائية والمدمّرة التي نُفذت في البلد وكذلك سياسات التخويف والتهديد.
أهم التحديات عند العراقيين
52.5 بالمئة يعتبرون أن الأوضاع الاقتصادية هي أهم التحديات
32.5 بالمئة يعتبرون أن القضاء على الفساد المالي والإداري من أبرز التحديات
9.7 بالمئة يرون أن تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي ضرورة قصوى
3.5 بالمئة أشاروا إلى أن تعزيز الديمقراطية يمثل تحديا مهما لهم
في هذه البيئة من تردّي الأوضاع وعدم الاستقرار، سيطرت الميليشيات، التي تشيع الطائفية ونشر العنف، في مختلف مدن البلاد، وتفاقمت الأوضاع الهشة لسكانها، وغابت سلطة الدولة وسيادة القانون جرّاء ضعف القضاء وعدم استقلاليته.
استخدمت السلطة والميليشيات ذريعة محاربة الإرهاب لتدمير مدن العراق الكُبرى، وتركتها غير الصالحة للسكن وهو ما يعرّض حياة الملايين للخطر، وهناك مدن أخرى يُحرم سكّانها من مجرد التفكير في العودة إليها مثل جرف الصخر.
وعادة ما يتم قمع أولئك الذين يتظاهرون سلميا من أجل حقوقهم، فضلا عن استمرار استهداف الصحافيين. كما ثبت تعاطي الكثير من القضاة وقادة الأجهزة القضائية الرشاوى، وخضوعهم لأهواء السلطة التنفيذية والميليشيات وإصدارهم الأحكام طبقا لذلك. وما تزال المحاكم تستخدم قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005 في إنزال أحكام غير عادلة ضد الكثير من الأبرياء، تصل إلى الإعدام، تنفيذا لرغبات المسؤولين الحكوميين وقادة الميليشيات. وأدى ضعف القضاء والضعف المؤسساتي لأجهزة حفظ القانون إلى سيادة فوضى عارمة في البلاد من أهم مظاهرها انتشار السلاح على نطاقٍ واسع، واللجوء إلى العنف لتصفيّة الحسابات، والركون إلى حكم العشائر لحلّ الخلافات.
بالرغم من أن البلاد تُجري انتخابات منتظمة كل 4 سنوات منذ عام 2003، لكن تلك الانتخابات، بما فيها تلك التي جرت في مارس 2018، ظلّت بعيدة كل البعد عن الديمقراطية. ومن الأسباب الرئيسية لذلك هو أنها تستند إلى دستور يهدف إلى الحفاظ على النظام الطائفي الحالي بكلّ سيئاته، رغم أن الغالبية العظمى من الشعب تطالب بتغيير ذلك.
في كل هذه الانتخابات، لا يستطع الناخبون التمييز بين الأفراد الذين يشكلّون مختلف الائتلافات، حيث لا يتم تقديم المعلومات الكافيّة عن الأسماء، كما لا يتم توفير برامج انتخابية محدّدة، لذلك لا يمكن للجمهور الاعتماد إلا على الوعود الكاذبة للمرشحين الذين يستغلون الأوضاع السيئة في البلاد للحصول على الأصوات. وهنا تستشري الرشوة والفساد على أساس منتظم، ويجري دفع الناخبين للتصويت على أسس طائفية.
وقد اُعتبرت الانتخابات التي جرت في عام 2018 الأسوأ من نوعها، فقد جرت في ظل مقاطعة شعبية عارمة، إذ تؤكدّ تقارير وملاحظات المئات من المراقبين داخل العراق أن أقل من 20 بالمئة قد شاركوا فيها. كما شابها تزوير كبير وتعالت الاتهامات بين الأطراف السياسية المشاركة بها وقدّم كل طرف الأدلّة على حصول تزوير من قبل أطراف أخرى، وعندما تم الاتفاق على إجراء فرز يدوي للأصوات في أحد المراكز الانتخابية المهمّة جرى حرق المركز بما فيه من صناديق انتخابية في فعل مفضوح الأهداف.
منذ الغزو الأميركي تغلغل الفساد في معظم مفاصل الدولة في العراق. وأصبحت الرشوة والرعاية على أساس الحزب أو الأسرة أو المجتمع، هي ممارسة شائعة داخل الحكومة العراقية. ولم يعد بالإمكان تنفيذ أي مشروع كبير أو صغير دون أن يصاحب ذلك دفع رشاوى لغرض استحصال الموافقات الرسميّة عليه. كما لم يعد بالإمكان الحصول على أي وظيفة في الدولة – مهما كانت بسيطة- دون دفع رشاوى للحصول عليها.
الشقّ الآخر للفساد الحكومي هو سرقة الأموال العامة بالجملة. وتتم (السرقة) غالبا من خلال المشاريع الوهميّة التي لا تُنفذ إنما تهرّب التخصيصات الخاصّة بها إلى خارج البلاد من قبل أعلى المسؤولين في السلطة. وحتى نهاية العام 2018، فإن مشاريع الطاقة الكهربائية، الطرق والجسور، المستشفيات، المدارس والجامعات، المصانع، وغير ذلك ظلّت حبرا على ورق في حين أن تخصيصاتها قد استولى عليها المسؤولون المعنيون.
ووفقا لبيانات هيئة النزاهة العراقيّة وعدد من المختصين في العراق، فإن مجموع المبالغ التي هُرّبت خارج العراق هو تريليون و14 مليون دولار أميركي. ومع نهاية العام 2018 ما يزال العراق يحتل موقعا متقدما بين أكثر الدول فسادا في العالم، وأقل الدول في معيار الشفافيّة الدوليّة.
تراجع الحقوق
عبر رصد آراء العراقيين والأوضاع داخل البلاد، يؤكد مركز جنيف أن الوضع في العراق، مع نهاية العام 2018 وبداية العام 2019، هو أكثر من سيء، حيث أن الملايين من العراقيين يعيشون حالة يأس من حصول أيّ تغييّر للوضع في بلدهم. واعتبر 52.5 بالمئة من العراقيين أن الأوضاع الاقتصادية السيئة (الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار) هي أهم التحدّيات التي تواجه حياتهم، حيث يزداد إفقار العراقيين يوما بعد آخر، إذ تزداد أعداد العاطلين عن العمل (60 بالمئة في صفوف الشباب)، وتتجاوز نسبة الذي يعيشون تحت مستوى خطّ الفقر أكثر من 40 بالمئة، ويقدّر أن أكثر من 8 مليون عراقي، أي ما يقرب من 25 بالمئة من السكان، يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدة في واحد أو أكثر من الاحتياجات الأساسيّة التالية:
الغذاء: يعيش أكثر من ربع السكان في العراق الآن تحت خط الفقر البالغ دولارين في اليوم. ويعدّ انعدام الأمن الغذائي حالةً مُزمنة في العديد من المناطق (مثل واسط والناصرية والمثنى). وعندما يتوفر الغذاء الأساسي للغاية، يكون السعر مرتفعا جدّا بحيث لا يقوى على تحمّله سوى عدد قليل.
المياه: يفتقر الملايين من العراقيين إلى المياه الصالحة للشرب ويعيشون في ظل أنظمة مياه مجاري سيئة. وفي المناطق الريفية، حيث لا يحصل سوى عدد قليل جدا من الأسر على مياه الشرب المأمونة، يصبح الوضع أكثر خطورة. كما أن سوء نوعية المياه قدّ أدى إلى الإصابة بكثير من الأمراض التي تنقلها المياه وغيرها من الآثار الخطيرة.
الكهرباء: متوسط ما تلقاه الأسر في بغداد من الكهرباء يتراوح بين 4 و8 ساعات فقط من خلال الشبكة العامة، في حين تتلقى بقية البلد أقل من 4 ساعات في اليوم.
السكن: يزداد عدد العراقيين المحرومين من سكن لائق يوما بعد آخر، وتنتشر العشوائيات في مدن العراق التي تغيب عنها أبسط الخدمات، كما يزداد عدد المشرّدين الذين غالبا ما يتخذون الشوارع والساحات العامة مكانا لإيوائهم في ظلّ تخلّي الدولة عن القيام بواجباتها. ويكون هؤلاء عرضة للانتهاكات والمضايقات وتحت رحمة الميليشيات والعصابات المسلّحة.
ويرصد التقرير تدهورا كبيرا في النظام التعليمي الذي يعاني بسبب تدمير المعاهد التعليمية والمباني في جميع أنحاء البلاد إثر الغزو. فقد تعرضت 84 بالمئة من مؤسسات التعليم العالي العراقية للحرق والنهب والتدمير بعد الغزو مباشرة. وفشلت الحكومة في إعادة بناء نظام التعليم ومنع استخدام المرافق التعليمية كقواعد عسكرية أو مقرّات للميليشيات ومسرحا لتدخل رجال الدين.
وفي السنوات العشر الماضية، قامت وزارة التعليم بهدم أكثر من 700 مدرسة على أساس الحاجة لإعادة بنائها، ولكنها لم تنفذ خطة إعادة إعمار حقيقية. ونتيجة لذلك، ووفقا لتقرير التنمية البشرية لعام 2016، فقد انخفضت معدلات معرفة القراءة والكتابة بين البالغين في العراق إلى نسبٍ كبيرة. فبعد أن استطاع العراق القضاء على الأميّة منذ الثمانينات ها هي تعود إليه ثانية، إذ يقدّر أن ما يقرب من 40 بالمئة من العراقيين لا يجيدون القراءة والكتابة. وبالمثل، تراجعت حقوق المرأة، بعد أن كان العراق دولة رائدة في هذا المجال.
من خلال جعل التعليم إلزاميا للجميع عام 1976، أغلقت الحكومة العراقيّة فجوة معرفة القراءة والكتابة بين الرجال والنساء بشكل خاص، مما ساهم في تمكين المرأة في مجال العمل. غير أن معدّل معرفة القراءة والكتابة في العراق تدهور جدا بعد الغزو. فأصبح ما يقرب من نصف النساء العراقيّات لا يستطعنَ القراءة أو الكتابة.
ومعظم من يصلن إلى البرلمان ضمن نسبة الـ25 بالمئة هنّ من الأحزاب الدينيّة وغالبا ما يقفنَ ضد المساواة للمرأة. لذلك فإن معظم البرلمانيات لا يبدين سوى القليل من الاهتمام بحقوق المرأة.
وتشير الوقائع إلى تردّ كبير لحالة الطفولة في العراق عام 2018، في ظلّ استمرار تراجع الدولة عن القيام بواجباتها. إذ يعاني أطفال العراق من مشكلات مركبة، أهمها فقدان الوالدين أو أحدهما. فهنالك ما يقرب من 5 ملايين طفل يتيم في العراق، ومعظم هؤلاء لا يتلقون تعليما مناسبا، ولا رعاية صحيّة فضلا عن اضطرار الكثير منهم للعمل أو للتسول لسدّ رمق الحياة. ويزداد عموما أعداد الأطفال المتسربين من المدارس، كما يزداد أعداد الأطفال المشردين، خاصّة من نجوا من المدن التي تعرّضت للتدمير وذهب ضحية ذلك بعض الآباء والأمهات. وبالتالي فإن أولئك الأطفال غالبا ما يقعون ضحيّة لانتهاكات خطيرة للطفولة منها تعاطي المخدّرات، ويكونون عرضة للاعتداءات الجنسية ولعصابات الاتجار بالبشر.
وتتضاعف أزمة النساء خصوصا في مخيمات النازحين، التي مازالت تمثل أزمة كبيرة حتى بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
وهنالك أكثر من مليوني نازح عراقي داخل البلاد بسبب عدم الاستقرار وأعمال الميليشيّات. والنازحون هم الأكثر ضعفا لأنهم يعتمدون كليا على المساعدات الإنسانية من أجل البقاء، وهو ما لا يكفي عادة لتوفير مستويات المعيشة الأساسية.
وعلى الرغم من أن القتال مع داعش قد انتهى، لا يزال مئات الآلاف من النازحين لا يستطيعون، حتى اللحظة، العودة إلى ديارهم بسبب تدمير مدنهم، ومنعهم من العودة من قبل الميليشيات. ومن الأمثلة على ذلك بلدة جرف الصخر في محافظة بابل. وتقف وراء ذلك الميليشيات وبعض أعضاء الحكومات المحليّة دون أن تتخذ السلطات العراقيّة أي إجراء يسمح بعودتهم إلى المناطق التي هجّروا منها.
وتنشط الميليشيات بشكل متزايد في العراق. وتتراوح الفظائع التي ترتكبها تلك الميليشيات بين الاختطاف والاحتجاز غير القانوني والإعدام العلني والتعذيب والعنف العام وحتى التطهير العرقي.
وقد ازداد دور الميليشيات مع وصول العديد من قادتها إلى عضوية البرلمان العراقي عام 2018. ويوجد اليوم أكثر من مئة ميليشيا تعمل داخل العراق، وجميعها تنخرط في الاعتقال والاحتجاز والتعذيب، وفي حالاتٍ كثيرة، تنفذ عمليات إعدام دون محاكمة للمدنيين مع إفلات تام من العقاب.
ويختتم مركز جنيف تقريره محذرا من استمرار ممارسات مثل التعذيب والإعدامات والاختفاء السري، داعيا السلطات والحكومة التي تمخضت عن انتخابات 2018 إلى عدم تقييد حرّية التجمّع والتظاهر، مؤكدا أن استخدام العنف أو القوة المسلّحة ضد المتظاهرين من شأنه أن يضع السلطات تحت طائلة المساءلة دوليا.
ويذكّر هذه السلطات بأن الحق في التجمع وحرّية الرأي والتعبير يظل من الحقوق المكفولة بموجب المواثيق الدولية.
العرب