تعتقد الولايات المتحدة أن سوريا تمثل موقعا إستراتيجيا تباشر انطلاقا منه عملياتها العسكرية الهادفة لتقويض النفوذ الإيراني والسيطرة على الشرق الأوسط بشكل ناجع.
لكن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للانسحاب من البلاد تنطوي على قدر كبير من المعلومات المضللة والمخاطر غير المعلنة.
وفي مقاله الذي نشرته مجلة ناشيونال إنترست الأميركية، عمل الكاتب والمحلل في مجال الأمن القومي والسياسة الخارجية دانيال أل دافيز على دحض حجج النخبة من السياسيين الأميركيين الذين يعتقدون أن سحب القوات من الشرق الأوسط هو بمثابة دعوة لشن هجوم على الولايات المتحدة.
من جهتهما، أدلى مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو بتصريحات علنية خلال الآونة الأخيرة شددا من خلالها على أن القوات الأميركية يجب أن تبقى داخل الأراضي السورية للأبد من أجل التصدي للنفوذ الإيراني، وذلك بشكل مخالف لتصريحات ترامب الذي يسعى لسحب هذه القوات خلال أسابيع.
وأوضح الكاتب أن نشر القوات العسكرية بشكل دائم في سوريا والعراق وأفغانستان لا يتسبب في عجز البلاد عن الحفاظ على الأمن الأميركي فحسب، بل إن تأثيره يمتد لتدمير قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن نفسها بشكل فعال ضد التهديدات المحتملة في أماكن أخرى. وبالتالي، يعد هذا التحليل للوضع مخالفا لجميع الأصوات الداعية للوجود العسكري الدائم في المنطقة.
ونقل الكاتب تصريح الرئيس السابق للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي مارك ثورنبيري، الذي ادعى أن الانسحاب من سوريا أو أفغانستان أشبه بدعوة لتنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المسلحة الأخرى إلى العودة للنشاط من جديد.
وزعم السيناتور ليندسي غراهام أن الانسحاب سيمهد لوقوع أحداث شبيهة بتفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، في المقابل يمكن للمتمعن في تاريخ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أن يؤكد أن هذه المخاوف غير منطقية.
العراق ولبنان
وذكر المحلل الأميركي أن المرة الأولى التي أرسلت فيها الولايات المتحدة قوات قتالية إلى الشرق الأوسط كانت في يوليو/تموز 1958.
وفي ذلك الوقت، كان العراق خاضعا لحكم مؤيد للسياسات الأميركية، أي العائلة الهاشمية الملكية، وكانت إيران تحت قيادة الشاه الذي وصل للحكم بواسطة الأميركيين، في حين كانت كل من القاهرة ودمشق معاديتين لواشنطن.
ونتيجة قتل الملك فيصل الثاني وولي العهد ورئيس الوزراء في انقلاب عنيف في العراق، سارع رئيس الولايات المتحدة الأسبق دوايت أيزنهاور إلى إرسال 15 ألف جندي في استعراض للقوة ومحاولة لمنع حدوث انقلابات أخرى من شأنها أن تقود إلى حدوث انقلابات على أنظمة صديقة في المنطقة، ومع حلول شهر أكتوبر/تشرين الأول 1958 تبين للرئيس الأميركي أن الخطر قد ولّى وأمر بسحب القوات.
وفي أغسطس/آب 1982، أمر الرئيس رونالد ريغان بإرسال 800 من مشاة البحرية الأميركية إلى لبنان في إطار عملية حفظ السلام العسكرية متعددة الجنسيات للمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية.
ونظرا لعدم وجود هدف قابل للتحقيق في البلاد، تغيّر الهدف من الانتشار مع مرور الوقت، وفي الأثناء هاجم مسلحو حزب الله ثكنات قوات المشاة بواسطة شاحنات مفخخة سنة 1983، مما أدى إلى مقتل 241 أميركيا.
وأفاد الكاتب بأن ريغان اعتبر الهجوم شائنا، لكنه أمر بسحب قوات بلاده في السابع من فبراير/شباط 1984، وذلك إيمانا منه بعدم جدوى ملاحقة الجناة والتورط في حرب أهلية.
وعلى وقع قرار الانسحاب، ذهب الكثيرون إلى انتقاد ريغان، لكن النتائج التي أسفرت عنها هذه الخطوة أثبتت جدوى قراره، حيث لم تُزهق روح أي مواطن أميركي عقب اختيار الولايات المتحدة عدم التورط في الحرب الأهلية.
خلال المدة الممتدة بين سنتي 1958 و1990، لم تمتلك الولايات المتحدة أي قوات قتالية نشطة في الشرق الأوسط سوى المشاركتين في لبنان والعراق.
عنف وفوضى
وبيّن الكاتب أن الشرق الأوسط مكان تسيطر عليه حالة من العنف والفوضى بغض النظر عن التدخل الأميركي من عدمه، كما أن طبيعة المنطقة لن تتغير بعد مغادرة القوات الأميركية لها. وفي خضم كل هذه الفوضى، كان الأمن الأميركي مضمونا وبمنأى عن التوترات بفضل الترسانة النووية التي تمتلكها الولايات المتحدة.
واستنتج أن الاستمرار في الإبقاء على عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين والمتعاقدين والمسؤولين الحكوميين في خضم مهام عسكرية لا تتسم بهدف واضح يعتبر أمرا غير مجد على الإطلاق، كما أنه يحد من قدرة الولايات المتحدة على حماية أمنها من التهديدات الوجودية المحتملة.
وتطرق دانيال دافيز إلى تجربته الخاصة، حيث سبق له خوض العديد من المعارك لمكافحة عمليات التمرد، وشارك في العديد من بعثات التدريب العسكري الأجنبية.
ولم يثنه التهديد الدائم بشأن إمكانية حدوث معركة واسعة النطاق عن الخدمة في البعثات العسكرية في كوريا خلال التسعينيات، كما كان يشارك في دوريات حدودية في ألمانيا خلال الحرب الباردة.
وقد قلصت التأثيرات طويلة المدى لتراجع التركيز الأميركي على التدريبات والتجهيزات لخوض المعارك المباشرة منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، من قوة الولايات المتحدة وفرصها في الفوز في الحروب التقليدية الكبرى.
ويبدو أنه من المأساوي بالنسبة للأميركيين أن يتكبدوا خسائر مادية وبشرية كبيرة للغاية خلال خوضهم إحدى الحروب الإقليمية الكبرى بسبب تركيزهم على عمليات قتالية صغيرة في جميع أنحاء العالم، التي لا ترتبط بأي شكل من الأشكال بأمنهم القومي.
وأورد كاتب المقال أن الولايات المتحدة لا تنعم بالأمان لمجرد نشرها قواتها في الخارج بشكل دائم، بل إن هذا الأمن منوط بعمليات الاستخبارات والمراقبة واكتساب الهدف والاستطلاع بغض النظر عن مكان بروز التهديدات على كوكب الأرض. علاوة على ذلك، تقود عمليات نشر القوات العسكرية الحالية إلى إضعاف قدرة الولايات المتحدة على خوض المعارك والحروب الوجودية المحتملة.
وخلص دافيز إلى القول إن سحب القوات الأميركية لا يجب أن يقتصر على سوريا فقط، بل يجب أن يشمل العراق وأفغانستان، مشيرا إلى أنه كلما تأخرت واشنطن في تنفيذ هذه الخطوات الضرورية، أمسى الأمن القومي الأميركي أكثر هشاشة.
الجزيرة