يُرجع العم سالم البصر كرّات وكرّات إلى الوادي، فينقلب إليه خائبا، الأمطار الشتوية في عين دراهم شمال غربي تونس ترفع منسوب مياه الأودية فلا يجد هذا الشيخ إلا النظرات يرسلها باستجداء لعل هذا المنساب الغاضب يترك له “مردومته”، وحطبه وما بنى عليهما من آمال.
و”المردومة” تسمية تونسية للصناعة التقليدية للفحم النباتي، مهنة الفقراء وسكان أكواخ غابات عين دراهم بامتياز، تعرف أوجها كل سنة في فصل الشتاء، لأنها إحدى وسائل التدفئة الأقل تكلفة للطبقات المتوسطة والفقيرة التي تسكن الأرياف وتعجز عن توفير تجهيزات أكثر تطورا لمجابهة البرد.
قصة عشق من نوع خاص
مهنة موسمية شاقة ينتظرها العم سالم ابن قرية الزويتينة بشوق كل مطلع شتاء ليتمكن من صنع الفحم وبيعه ليجني بضعة دنانير تبعث في عائلته الدفء في ليالي موسم الأمطار المعروف بقسوته في عين دراهم، ينتظره بتلهّف ويخشى في الآن ذاته سطوته على مورد رزقه.. قصة عشق من نوع خاص.
تتفرّد عين دراهم بثروة غابية لا مثيل لها في شمال أفريقيا، مما جعل سالم وأمثاله يلتمسون سبلا للرزق في مسالكها عن طريق جمع جذوع الأشجار والحطب لصنع المردومة، يلمح الزائرون لهذه المنطقة الغابية الأدخنة المتصاعدة للمردومة داخل الغابات الكثيفة قرب تجمعات الأكواخ المنتشرة هناك.
خريف العمر وجذع الشجرة
ينصاع جذع الشجرة الثقيل أمام عزم العم سالم، وبسواعد أنهكتها السنون ينهال عليه بفأسه في سجال عنيف يطلق فيه العنان لما يعتمل بنفسه من غبن وفقر وإرهاق بدا على ملامحه، يقول إنه كان يحبذ أن يريح جسده المنهك في خريف العمر لكن الحاجة وقلة ذات اليد دفعاه إلى مزاولة هذه المهنة كل سنة.
تعرف عين دراهم ببعض قراها التي حافظت على موقعها ضمن المدن التونسية العشر الأفقر على الصعيد الوطني على امتداد عقدين متتاليين من الزمن، وذلك حسب تقارير نشرها المعهد الوطني للإحصاء سنة 2017 الذي يراجع هذه النسب ويحدّث أرقامها وترتيبها كل خمس سنوات.
تأجيل التزامات حياتية
يضيف محدثنا أنه يتحيّن الأيام القليلة التي تتوقف فيها الأمطار للإسراع في تحضير المردومة، فالأمطار تفسدها إذا هطلت فجأة فيضطر إلى إعادة الكرة من جديد لتذهب جهوده هباء، فيضطر إلى تأجيل التزامات حياتية لا يحتمل تأجيلها أو إلغاءها.
قرية الزويتينة حيث يعيش العم سالم منذ طفولته تستمد اسمها من سد الزويتينة الذي خصصت الدولة التونسية لإنشائه سنة 1999 حوالي 177 كيلومترا مربعا من الأراضي الفلاحية لأهالي المنطقة والمناطق المجاورة، دون إيجاد بديل يكفل لهم العيش الكريم ويغنيهم عن الاحتطاب ودخان المردومة.
بدرالدين الوهيبي-تونس
يُرجع العم سالم البصر كرّات وكرّات إلى الوادي، فينقلب إليه خائبا، الأمطار الشتوية في عين دراهم شمال غربي تونس ترفع منسوب مياه الأودية فلا يجد هذا الشيخ إلا النظرات يرسلها باستجداء لعل هذا المنساب الغاضب يترك له “مردومته”، وحطبه وما بنى عليهما من آمال.
و”المردومة” تسمية تونسية للصناعة التقليدية للفحم النباتي، مهنة الفقراء وسكان أكواخ غابات عين دراهم بامتياز، تعرف أوجها كل سنة في فصل الشتاء، لأنها إحدى وسائل التدفئة الأقل تكلفة للطبقات المتوسطة والفقيرة التي تسكن الأرياف وتعجز عن توفير تجهيزات أكثر تطورا لمجابهة البرد.
قصة عشق من نوع خاص
مهنة موسمية شاقة ينتظرها العم سالم ابن قرية الزويتينة بشوق كل مطلع شتاء ليتمكن من صنع الفحم وبيعه ليجني بضعة دنانير تبعث في عائلته الدفء في ليالي موسم الأمطار المعروف بقسوته في عين دراهم، ينتظره بتلهّف ويخشى في الآن ذاته سطوته على مورد رزقه.. قصة عشق من نوع خاص.
تتفرّد عين دراهم بثروة غابية لا مثيل لها في شمال أفريقيا، مما جعل سالم وأمثاله يلتمسون سبلا للرزق في مسالكها عن طريق جمع جذوع الأشجار والحطب لصنع المردومة، يلمح الزائرون لهذه المنطقة الغابية الأدخنة المتصاعدة للمردومة داخل الغابات الكثيفة قرب تجمعات الأكواخ المنتشرة هناك.
خريف العمر وجذع الشجرة
ينصاع جذع الشجرة الثقيل أمام عزم العم سالم، وبسواعد أنهكتها السنون ينهال عليه بفأسه في سجال عنيف يطلق فيه العنان لما يعتمل بنفسه من غبن وفقر وإرهاق بدا على ملامحه، يقول إنه كان يحبذ أن يريح جسده المنهك في خريف العمر لكن الحاجة وقلة ذات اليد دفعاه إلى مزاولة هذه المهنة كل سنة.
تعرف عين دراهم ببعض قراها التي حافظت على موقعها ضمن المدن التونسية العشر الأفقر على الصعيد الوطني على امتداد عقدين متتاليين من الزمن، وذلك حسب تقارير نشرها المعهد الوطني للإحصاء سنة 2017 الذي يراجع هذه النسب ويحدّث أرقامها وترتيبها كل خمس سنوات.
تأجيل التزامات حياتية
يضيف محدثنا أنه يتحيّن الأيام القليلة التي تتوقف فيها الأمطار للإسراع في تحضير المردومة، فالأمطار تفسدها إذا هطلت فجأة فيضطر إلى إعادة الكرة من جديد لتذهب جهوده هباء، فيضطر إلى تأجيل التزامات حياتية لا يحتمل تأجيلها أو إلغاءها.
قرية الزويتينة حيث يعيش العم سالم منذ طفولته تستمد اسمها من سد الزويتينة الذي خصصت الدولة التونسية لإنشائه سنة 1999 حوالي 177 كيلومترا مربعا من الأراضي الفلاحية لأهالي المنطقة والمناطق المجاورة، دون إيجاد بديل يكفل لهم العيش الكريم ويغنيهم عن الاحتطاب ودخان المردومة.
سيزيف الغابات
العم سالم أو سيزيف غابات عين دراهم، لم يسمع قط عن عقاب زيوس، ولكن الحاجة تضطره منذ عقود إلى جر جذوع الأشجار الضخمة والثقيلة التي تسقط بفعل الرياح العاتية أو تجرفها السيول عبر مسالك وعرة للغاية داخل الغابة صعودا ونزولا، مشهد وفي للميثولوجيا الإغريقية في زماننا الحاضر.
لا يتنفس الصعداء رغم الإرهاق خشية أن تباغته الأمطار، يقول إن “الراحة للمترفين فقط” ليسترسل في عزف بالمنشار والفأس على الجذوع يكسّرها ويضعها جانبا، هي مقطوعة يجيد ألحانها أمثاله ولا تسمعها إلا الغابة والبطون الخاوية داخل الأكواخ، عمل مضن يستمر حسب كمية الجذوع المتوفرة لديه.
ما إن يفرغ من تقطيع الجذوع والأغصان حتى يمر إلى عملية بناء المردومة، تتمثل في رصف القطع بطريقة هندسية تضمن تماسكها وتدرجا محسوبا لعملية الاحتراق حتى يضمن أكبر كمية ممكنة من الفحم، وبنظرة متفاخرة يضيف أنه من القلائل الذين يتقنون بناء المردومة حسب القواعد الصحيحة.
بعد البناء يحين دور تغطية المردومة بالتراب تاركا فتحات صغيرة لتسهل عملية الاحتراق ببطء دون أن تشتعل النار بقوة فيفسد الفحم، لذلك يفيد سالم بأنه ينام في العراء بجانب مردومته ليغلق أو ليفتح منافذ التهوية في عملية تعديلية لنسق الاحتراق يجيدها ويحفظ تفاعلاتها الكيميائية المبهمة عن ظهر قلب.
مخاطر صحية وبيئية
حسب منظمة الصحة العالمية فإن نسبة الوفيات الناجمة عن أمراض الجهاز التنفسي مرتفعة لوجود نسبة كبيرة من البشر يستنشقون الدخان الناتج عن الاحتراق حيث إن هنالك ما بين 50% و80% من الوفيات يسببها استنشاق دخان الحرائق والدخان الناتج عن الحطب والفحم والأوراق وقش الأرز.
مهنة المردومة تتسبب مع طول مدة العمل فيها بأضرار للجهاز التنفسي، مما يؤدي إلى الوفاة بالتسمم الحراري والالتهاب الرئوي الحاد بسبب غاز أول أكسيد الكربون، دون أن ننسى أن الاحتراق يساعد على زيادة نسبة غازات الكربونات التي تؤثر مباشرة في الصحة التنفسية والجهاز التنفسي للساكنين بقربها.
السلطات وإجراءات قانونية
تتخذ السلطات التونسية إجراءات قانونية تجاه الأفراد الذين يضبطون بصدد تحضير أو إشعال المردومة دون تصريح مسبق للأسباب السالف ذكرها، إضافة للمحافظة على غابات البلاد، والوقاية من خطر الحرائق، لذلك يعمد سكان الأكواخ للتوغل داخل الغابات واختيار الوقت المناسب للقيام بالمهمة.
هي حرب يومية بلا هوادة يشنها العم سالم وأمثاله ضد الأمطار والثلوج، أحيانا ضد الطبيعة وثروات المنطقة أو ضد القانون، مجموعة من المتضادات يدفع الفقر أطرافها إلى مواجهة تزداد تعقيدا جراء تأزم الوضع الاقتصادي للبلاد، وتلمح دخانها المتصاعد دون أن تبصر النيران كما هو حال المردومة.
المصدر : الجزيرة