لن يسقط النظام السوري غداً. تراجعه المتواصل يزيد في إرباك الساعين إلى تسوية من أجل الحفاظ على ما بقي من هياكل الدولة، خصوصاً المؤسسة العسكرية. فهذه يراهن عليها كثير من اللاعبين جسماً لا بد منه لاحقاً في مهمتين: مواجهة الحركات الإرهابية، والحفاظ على السلم الأهلي بين المكونات المختلفة. الدينامية الجديدة التي تفرضها مكاسب المعارضة الأخيرة تقضي على كل آمال النظام بالبقاء، لكنها في الوقت نفسه تفاقم تفكك البلاد التي لن يكون مصيرها أفضل من مصير العراق. فأرض الرافدين لم تعد دولة عربية بالمعنى القومي. الكرد يعيشون مستقلين في إقليمهم ينتظرون نضج الظروف لإعلان دولتهم. وشركاؤهم العرب يتقاسمون ما بقي من أقاليم بين شيعة وسنة، لا يبدو أنهم سيأتلفون وإن عجل ذلك في تحولهم غنائم في تقاسم إقليمي تتعدد أطرافه. ومآل سورية لن يكون أفضل. لن تعود «قلب العروبة النابض». الكرد شمالاً وشرقاً يستعجلون ربط مناطقهم في ما بينها ربطاً محكماً، وإن على حساب شركاء آخرين لإقامة كردستان الغربية على غرار جارتها الشرقية. والعلويون يديرون معاركهم الأخيرة بما يعزز حماية مناطقهم الحيوية. ومذبحة قلب لوزة بعثت قضية أخرى هي مصير الدروز والأقليات الأخرى.
لكن مناطق سيطرة المعارضة ليست واحدة. تراجع قوات النظام لا يصب في خانة إدارة واحدة سياسية وعسكرية. فلا القوى السياسية المعارضة توافقت على توحيد موقفها وبرامجها. ولا الفصائل العسكرية انضوت في غرفة عمليات مشتركة. وكثرة المؤتمرات واللقاءات التي تعقد في هذه العاصمة وتلك، هدفها الأول ضمان هذه العواصم حصتها في النظام المقبل أكثر مما هو العمل على توحيد هذه القوى. والتقدم في جبهتي الشمال والجنوب لا يصب في خانة قوة واحدة على الأرض.»جيش الفتح» الذي يقاتل في الجبهة الشمالية يضم كتائب إسلامية مع «جبهة النصرة»، ويحظى بدعم تركي – خليجي. ولا يرتاح إليه الغرب. أما القوى التي تقاتل في الجنوب فتبدو أكثر تنظيماً من الناحية العسكرية لتلقيها تدريباً خاصاً في الأردن، في إطار برنامج تديره الاستخبارات الأميركية. علماً أن اعتراضات من وسط الحزبين في أميركا خفضت المخصصات لهذا البرنامج، والذريعة هي التقدم الذي تحرزه حركات التطرف على الأرض. وقد فشلت في عمان أخيراً المحادثات بين وفد «الائتلاف الوطني» ومسؤولين في «الجبهة الجنوبية» التي رفض قادتها أيضاً اعتبار «حركة أحرار الشام» جزءاً من هذه الجبهة. مقابل هذا التشتت تبقى قوى التطرف هي الأقوى والأصلب عوداً في الميدان.
بالطبع هناك عوامل كثيرة وراء تراجع قوات النظام، أولها الإنهاك الذي أصاب الجيش والخسائر التي مني بها، فضلاً عن الانشقاقات الكبيرة، خصوصاً في الجبهة الجنوبية. والثاني هو نتيجة للعامل الأول، أي اقتناع النظام بوجوب حصر اهتـــمامه بالدفــــاع عن المناطق الحيوية التي تشكل سبباً لبقاء النظام وثباته. أو أنها تشكل نواة خريطة «الـــدولة العلوية. وهنـــاك تبدل في موقف روسيا لأسباب كثيرة باتت معروفة. وهناك كلام جدي عن أفكار مشتركة بينها وبين الولايات المتحدة. وحتى إيران التي تزج بمزيد من الميليشيات للدفاع عن النظام لا تريد سقوطه أو تغيير رأسه بلا ثمن. تدعم بقاءه، لكنها لن تتمسك به، ولا شيء يحــــول، بعد بلورة مصير الاتفــــاق النــــووي آخر الشهر، دون أن تضعه ورقة للمساومة بين أوراق كثيرة تتعلق بمستقبل دورها وحجمها في الإقليم… ولكن ليس على حساب خسارتها موطئ قدم في بلاد الشام يهدد مستــقبل «حــزب الله» في لبنان.
لكن كل المكاسب التي تحققها المعارضة، وكل الاتصالات والمشاورات والمؤتمرات التي توحي بأن التسوية قاب قوسين وأدنى، تتجاهل أن عناصر وشروطاً أساسية في تقرير وجهة الأزمة في سورية تظل بأيدي السوريين أنفسهم. فإذا كان اللاعبون الخارجيون يعدون للتغيير فإن مسؤولية المعارضة تصبح مضاعفة. على كل الفصائل السياسية التوافق على قيادة واحدة وبرنامج سياسي واحد لإدارة البلاد في المرحلة الانتقالية. وعلى القوى المقاتلة الاندماج في غرفة عمليات واحدة، وإلا لن تلقى الدعم والاطمئنان إلى دورها بعد سقوط النظام. إن استعجال هاتين الوحدتين وحده كفيل بدفع الدول الكبرى في الإقليم وخارجه إلى استعجال التسوية. فهما تشكلان وقوداً ضرورياً لانطلاق قطار الحل. وبقدر ما هو مطلوب من الفصائل السياسية أن تتخلى عن نهج الإقصاء أو بالأحرى الاستئثار، لا بد من توحيد الجسم العسكري وكل الجبهات. لم يعد مسموحاً أن يدافع بعض «الائتلاف» عن «النصرة» و«سوريتها» وإمكان تخليها عن التشدد الذي أملتــــه ظـــروف معينة… إلا إذا تمكـــنت قـــوى راجحة في الجبهة من دفعها خارج «القاعدة». واعترفت بالمشروع السياسي الذي تجمع عليه القوى السياسية، والذي يترك للشعب السوري أن يقرر بنفسه شكل النظام وهوية الدولة مستقبلاً بما يراعي وجود أقليات وأعراق ومذاهب مختلفة في البلاد. غير ذلك يستحيل توحيد الكتائب المقاتلة وإقناع القوى الخارجية بوجوب التغيير الحتمي للنظام.
في غياب هذه الشروط لن يقتنع أهل الداخل السوري والخارج أيضاً بوجود بديل يمكنه أن يمسك بإدارة البلاد بعد ترحيل النظام. فقد أثبت على رغم تراجعه في أكثر من جبهة أنه لا يزال يسعى إلى تسويق نفسه رقماً لا غنى عنه للحفاظ على ما بقي من الدولة، والأهم من ذلك لضمان أمن الأقليات الذي يتمسك به الأميركيون والروس هدفاً مركزياً وعنصراً لا غنى عنه في أي تسوية. وبات من المسلّم به أنه يلعب ورقة «داعش»، فيخلي للتنظيم ما أمكنه من مناطق ويسهل له العبور لمواجهة خصومه في الفصائل المعارضة الأخرى. كما أن المجزرة التي ارتكبتها «النصرة» في البلدة الدرزية قلب لوزة شمالاً، وتهديد السويداء على أيدي «داعش» وغيره من المتشددين، يقدمان خدمة مجانية إلى النظام وخططه وشعاراته، ويدفعان بالمكون الدرزي إلى البحث عن موقع يقيه ما حل بالأقليات في العراق بعد سقوط الموصل. لن يستطيع الدروز تسويق سياسة الحياد. فلا النظام تفهم موقفهم وموقف شبابهم الذين تخلفوا عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، أو أبدى استعداداً لتسليحهم ما لم يمدوه بالرجال. ولا المعارضة راقها امتناعهم عن الانخراط في الحرب إلى جانبها. وهم بالطبع لا يستسيغون الوقوف مع فصائل متشددة ترى إليهم كفاراً خارجين على الدين. وما حدث في قلب لوز سيعزز مخاوفهم من الحركات المتشددة. ولن يثقوا بما يقدم إليهم من عهود وتطمينات… ولا يرغبون في التوجه نحو إسرائيل. قد لا يبقى لهم سوى بالأردن الذي من مصلحته ومصلحتهم التوصل إلى تفاهم يقطع الطريق على احتمال تدخل تل أبيب، وعلى اقتراب حركات التطرف من الحدود الشمالية للمملكة الهاشمية. ولكن تبقى هناك مصلحة للنظام في تسهيل اقتراب «داعش» من الحدود الشرقية للسويداء، ليقول لأهلها أن لا مفر أمامهم سوى الانضمام إلى جيشه. وليقول للعالم أن لا بديل من النظام لحماية الأقليات. وهي رسالة تخاطب الغرب والروس الذين يؤكدون باستمرار حرصهم على الأقليات ومصيرها ومستقبلها. وليراهن ربما على تدخل إسرائيلي تحت ضغط دروز الداخل والجولان المحتل أو خوفاً من انتشار حركات التكفير على الحدود مباشرة.
«المسألة الدرزية» ليست وحدها الطارئ في مسار الأزمة السورية. نتائج الانتخابات البرلمانية التركية ستؤدي إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية لأنقرة. قد يجد رجب طيب أردوغان نفسه مضطراً إلى ذلك، إذا كان لا بد من تحالف «العدالة والتنمية» مع «حزب الشعب الجمهوري» من أجل تشكيل الحكومة الجديدة. وربما وجد نفسه مضطراً إلى الحوار مع إيران، وليس مع السعودية وحدها، نزولاً عند رغبة الرئيس الأميركي الذي حض أهل المنطقة على حل مشكلاتهم مباشرة مع الجمهورية الإسلامية. وإيماناً منه أيضاً بأن طهران ستجد قريباً مصلحة في التخلي عن الأسد لئلا تنقطع كل خيوطها مع النظام الذي سيخلفه في دمشق عاجلاً أم آجلاً. ولا يغيب هنا أن حكومة أردوغان توسطت قبل سنوات لتسوية الملف النووي الإيراني. وقد تتوسط اليوم لحل المشكلات في المنطقة بين إيران والدول العربية. وما يدفع إلى مزيد من التقارب بين البلدين هو الفوز الذي حققه «حزب الشعوب الديموقراطي»، وتعثر التفاهم بين كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد. ولا شك في أن طهران وأنقرة لا ترغبان في رؤية قيام دولة كردية مستقلة شمال العراق، ويقلقهما تشكل إقليم كردي في سورية.
في أي حال، من المبكر الحديث عن تسويات نهائية، ما دامت الحرب على «داعش» ستطول. وما دامت الإدارة الأميركية تركز على العراق أولاً حيث لا تملك استراتيجية متكاملة، كما صرح الرئيس أوباما «لأن ذلك يتطلب التزامات من العراقيين أيضاً». وما التزمه ويلتزمه العراقيون اليوم هو مواصلة الصراع المذهبي والعرقي. وهو ما يمد بعمر «دولة الخلافة». في هذه الأثناء، سيكون على السوريين أن ينتظروا طويلاً حتى يأتي الدور على «دواعشهم». لذلك ستتفاقم الحروب بين فصائل المعارضة سقط النظام أم لم يسقط. ولن تكون صورة سورية غير صورة العراق. المشرق العربي سيبقى بمعظمه بلا دول وجيوش مركزية. لم تتبلور بعد الخطوط النهائية التي ستفصل بين المكونات الاجتماعية، الدينية والمذهبية والعرقية. ولم تتبلور بعد صورة المصالح الحيوية للدول الكبرى المعنية بالثروة النفطية وبالمواقع الجيوسياسية. ويمكن الدول الإقليمية الكبرى، تركيا وإسرائيل وإيران، أن تطمئن وترتاح إلى غياب القوة العسكرية التي طالما كانت تشعر بتهديدها، سواء جاءت من سورية أو العراق… أو حتى من مصر. يقتصر الوضع اليوم على ميليشيات وجيوش فئوية مهمتها الحفاظ على حدود «الدويـــلات» فقط!
جورج سمعان
صحيفة الحياة اللندنية