لم تقدر الأحزاب السياسية التونسية العلمانية أو سليلة الفكر اليساري منذ ثورة يناير 2011 على الصمود أمام الأزمات الداخلية التي باتت لا تقلّل فحسب من أدوارها في ممارسة الفعل السياسي، بل تهدّد أيضا حتى وجودها أصلا. لكن، ولئن وجدت مبررات لتشظي بعض الأحزاب حديثة النشأة التي تأسست بعد 2011، مثل حزب نداء تونس (تأسس سنة 2012)، فإن حزبا آخر مثل حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، الذي يستمد جذوره من أقدم حزب يساري تونسي هو الحزب الشيوعي، يجد نفسه محل تساؤل حول الفشل بأن يكون فاعلا مندفعا في التغييرات الحاصلة.
تونس – عندما اندلعت المظاهرات في تونس ثم انتشرت في دول عربية أخرى، وتحولت إلى عنوان لتغيير مجتمعي وسياسي وتاريخي كبير في المنطقة والعالم، كان يتوقع أن يتصدر اليسار المشهد، باعتبار أن الطبقة المنتفضة والشعارات التي نادت بها هي من صلب الفكر اليساري. لكن مع تقدم الأحداث تبيّن أن هناك خللا ما أصاب الأحزاب اليسارية التي توقفت عن كونها أحزب الطبقة العاملة، وهو أمر لا يشمل فقط اليسار التونسي والعربي، بل يمتد إلى العالم، بشقيه الأوروبي واللاتيني، حيث حلت الأحزاب الشعبوية محل أحزاب اليسار في الدفاع عن حقوق العمال والعولمة والإمبريالية الحديثة.
في التجربة التونسية، يمكن أن نستشف ذلك عن قرب من خلال الأزمة الداخلية التي يشهدها حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، الذي يعد سليل أقدم حزب يساري في تونس تأسس في عشرينات القرن الماضي وهو الحزب الشيوعي التونسي. وتختصر هذه الأزمة، وفق جل المتابعين، حالة الوهن التي وصلت إليها أحزاب اليسار في تونس رغم أنها تميّزت بلعب أدوار كبرى وخاضت نضالات بالجملة خلال العهود السابقة، سواء مرحلة الاحتلال، أو خلال عهدي الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أو من بعده زين العابدين بن علي.
وظهرت هذه الأزمة على السطح مع إعلان مجموعة “مساريون للتصحيح”، التي تضم مسؤولين بمختلف هياكل الحزب، عن رفضها للحوكمة الحالية للحزب “خاصة التجاوزات والخروقات نتيجة القرارات الارتجالية والتعسفية للمجموعة التي استفردت بما تبقى من قيادة الحزب وهياكله وتعمدت خرق قوانينه وتنكرت للقيم والنواميس والأخلاقيات والتوجهات التي نحتت هويته”.
وطالبت المجموعة قيادة الحزب بالاستجابة لمقترحاتها بعقد اجتماع للمجلس المركزي يتم الإعداد له من طرف الجميع بصفة تشاركية وبروح توافقية سعيا لإنقاذ ما تبقى من الحزب وإعادة بنائه في إطار الوحدة والتنوع والتسيير الديمقراطي. ومنحت قيادة الحزب شهرا للاستجابة لمقترحها وحلحلة الأزمة يتم بعدها تقييم تطور الأمور واتخاذ القرارات الملائمة مع عدم استبعاد اللجوء إلى القضاء.
ويعد حزب المسار الديمقراطي من الأطراف السياسية التي انخرطت عام 2016 في المبادرة التي أطلقها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي والتي أفرزت حكومة الوحدة الوطنية التي شاركت فيها أربع منظمات وطنية وتسعة أحزاب مختلفة المشارب الفكرية ومنها حركة النهضة الإسلامية.
أزمة شاملة
تطرح أزمة حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي التونسي، الذي تأسس بشكله الراهن في بداية 2012، بعد اندماج حركة التجديد مع شق من حزب العمل التونسي وعدد من الناشطين المستقلين في القطب الديمقراطي الحداثي ليس فقط فشل أحزاب اليسار التونسي في تقديم مقاربات قريبة من الواقع بل تترجم أيضا “أزمة اليسار العربي ككل”.
وأوعز القيادي في حزب المسار وأحد الموقعين على بيان “مجموعة التصحيح” الحبيب القزدغلي في تصريح لـ”العرب” أن أزمة اليسار التونسي ومن ورائه اليسار العربي إلى حالة التشتت والتشظي ومحاولات الإسلام السياسي استغلال ذلك منذ التغيرات السياسية التي شهدتها تونس والمنطقة العربية في 2011. وحمّل حالة الجمود المزمنة في الفكر اليساري التونسي والعربي مسؤولية إخفاقه، داعيا كل الحاملين لهموم اليسار في تونس والوطن العربي إلى مراجعة أنفسهم وتغليب السياسي على الأيديولوجي في زمن التحالفات والبراغماتية السياسية.
وتشير تصريحات القزدغلي إلى تاريخ من الانقسامات داخل التيار اليساري العربي إضافة إلى حالة من الجمود المزمنة، فالعديد من الأحزاب اليسارية العربية مازالت تدافع إلى اليوم عن “التجربة السوفييتية” وتحاول إسقاطها على المنطقة العربية وكأنها ترسم نموذجا معينا وعلى الناس اتباعه.
وتعكس أزمة الحزب اليساري التونسي، حالة الجمود والتكلس الفكري التي تعيش على وقعها بقية الأحزاب أو التجمعات الحزبية اليسارية في تونس ومنها على سبيل المثال الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية وقومية) بعدما عجزت بدورها منذ فوزها بـ15 مقعدا في البرلمان خلال انتخابات 2014 عن اختراق النسيج المجتمعي أو إقناعه بالخطابات التي تقتصر على التنظير دون تقديم حلول عملية وتنزيلها على الواقع التونسي.
ويرجع الدارسون لتجارب الأحزاب اليسارية التونسية أو العربية، وحتى العالمية، حالة التقهقر التي وصلت إليها جل فصائلها إلى احتكامها لمنطق الانتهازية أو مرض الزعامات السائد ضمن هياكلها، ما جعلها تتقهقر ولا تكون مؤهلة في الكثير من الحالات لتحمّل أعباء الحكم. وكان الحزب الشيوعي في تونس يعرف بنخبته المثقفة، حيث استقطب على مدى سنوات طويلة الأكاديميين والفنانين وغيرهم من النخب الجامعية. وكان يتوقع أن يكون حزب المسار امتدادا سياسيا وثقافيا لتلك النخبة، وقد تضمن الحزب فعلا شخصيات ثقيلة الوزن الثقافي والأكاديمية، على غرار الحبيب القزدغلي، العميد السابق لكلية الآداب بمنوبة، وأيضا سلمى بكار المخرجة التونسية.
وما يعيشه حزب المسار يمرّ به أيضا الحزب الجمهوري وهو سليل فكر يساري، كان يسمى قبل الثورة التونسية الحزب الديمقراطي التقدّمي، الذي سلك نفس طريق الانقسامات بعدما تمسّك أحد قيادييه وهو إياد الدهماني بالبقاء في حكومة يوسف الشاهد، المدعومة من حركة النهضة الإسلامية، كناطق رسمي لها وذلك على عكس خيارات وتوجهات قيادات الحزب.
كما تعيد أزمة حزب المسار الجدل حول أمراض الأحزاب اليسارية وعللها التي لم تسمح لها بالتطور من الأيديولوجيا إلى ممارسة الفعل السياسي الصرف بمنطق براغماتي، وهو ما جعلها لا تتقدّم لتبقى تجاربها مقتصرة في غالب الأحيان على لعب أدوار المعارضة التي يرى فيها البعض أكثر سهولة من تقمّص أدوار الحكم وأعبائه.
وفي زمن يعيش احتضار الأيديولوجيات وبعد عقود من انهيار التجربة الاشتراكية وانهيار بعض التجارب اليسارية سواء في أوروبا الشرقية أو في أميركا الجنوبية، البرازيل وفنزويلا مؤخرا، بقي اليسار العربي محافظا على نفس تصوراته تجاه العديد من المسائل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة المسألة الدينية، وبقي يستعمل نفس المفردات والمفاهيم منذ تأسيسه بما فيها مفاهيم الصراع الطبقي خاصة مفهوم البروليتاريا.
ويؤكد فشل أحزاب اليسار في تونس، لجهة كونها وجدت عقب ثورة يناير 2011 مناخا أكثر ديمقراطية من الدول المجاورة، نموذجا هاما لعدم تمكن اليسار العربي من الإفلات من الأسوار التي وضعها لنفسه وأبقته حبيس أفكاره ولم تمكنه من تجسيد مبادئه كما يراها على أرض الواقع خاصة بعدما شهد أمام أعينه انهيار جنات يسارية عريقة مثل “كوبا وفنزويلا والبرازيل”.
ويراقب اليساريون العرب عن كثب دخول لولا دى سيلفا، المناضل اليساري والرئيس البرازيلي الأسبق إلى السجن، ليقضي حكما بالسجن 12 عاما في قضية فساد وتنتظره 6 قضايا أخرى، فيما دخلت فنزويلا منعطفا خطيرا مع أزمة الرئيس نيكولاس مادورو المتهم بالإضرار بالاقتصاد الفنزويلي واعتراف عدد من الدول بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيسا مؤقتا للبلاد.
كل هذه الملامح تأتي في خضم العديد من المتغيرات الإقليمية والدولية التي توحي بأن العالم يعيش مرحلة مخاض فكري عسير قد ينهي بلا رجعة صراعا كلاسيكيا دام عقودا بين الليبرالية الديمقراطية والأطروحات اليسارية، وهو ما يطرح على الحاملين للفكر اليساري من العرب التأمّل جيّدا في مستقبل التوازنات وخاصة تطوير الخطابات التي بقيت متكلّسة ولا تدور سوى في فلك ترديد عبارات من قبيل كما قال كارل ماركس وكما قال فريدريك إنجلز أو لينين دون العمل الدؤوب على تنزيل ذلك على أرض الواقع أو تبسيطه لدى المتلقي البسيط.
متغيرات دولية
أدى فشل تجارب اليسار منذ عام 1989، تاريخ سقوط جدار برلين، أولا إلى فسح المجال أمام الديمقراطية الليبرالية لتزدهر وتسيطر على خيارات العالم الاقتصادية والسياسية، كما منح فرصة هامة لبروز العديد من الأحزاب الشعبوية التي تعرف بروزا لافتا في السنوات الأخيرة خاصة في القارة الأوروبية ومن أهم التجارب الحالية صعود الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة والتي يقودها جوزيبي كونتي.
وفي هذا السياق، ترجمت التحركات الاحتجاجية التي قادتها حركة “السترات الصفراء” في فرنسا ضد السياسات الاقتصادية للرئيس إيمانويل ماكرون تقدّما واضحا واستثمارا أكبر من قبل زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان لتسارع وتيرة الأحداث وتوظيفها سياسيا على حساب الأحزاب اليسارية التي من أهمها حزب “فرنسا الأبية” الذي يقوده جون لوك ميلونشون خاصة بعدما لقيت لوبان دعما من إيطاليا التي أعربت بصريح العبارة عن دعم الاحتجاجات ضد ماكرون.
كل هذه المعطيات الخارجية الدولية والإقليمية، لم تأخذ بعين الاعتبار من قبل أحزاب اليسار العربية التي يصفها البعض بأنها بقيت مترفّعة وساكنة في أبراجها العاجية وغير عابئة بمعطيات التاريخ الواقع، وفي هذا السياق طالب القزدغلي بمراجعة الأيديولوجيا اليسارية في تونس والوطن العربي تبعا للعديد من المعطيات الداخلية والخارجية وللمتغيرات الإقليمية والدولية لتحقيق وحدة الأهداف المبنية أساسا على الحداثة وقيم المواطنة والديمقراطية وخاصة التركيز على البعد الاجتماعي والاقتصادي.
ورغم أن الفكر اليسار العربي دائما ما نظر للثورة وللعمل من أجل التغيير السياسي في المنطقة لكنه فشل في أول اختبار له بعد 2011، حيث أكد القزدغلي أن اليسار التونسي والعربي لم يكن مهيئا للديمقراطية الاجتماعية الحقيقية رغم أنه دعا طويلا إلى تغيير سياسي مبني على العقلانية والتنوير. وظل الفكر اليساري منحصرا في مجموعات النخب دون أن يتمكن من اختراق البيئة الاجتماعية العميقة للشعوب العربية رغم تقدمية هذا الفكر، وهو ما لوحظ في الانتخابات التي شهدتها عدة بلدان عربية سواء قبل سنة 2011 أو بعدها.
وشدّد الحبيب القزدغلي على أنه لا حل لليسار سوى بالتقارب “الغائب حاليا” والتعامل بمنطق براغماتي لكن دون إغفال المبادئ التي قام عليها وهي “الانتصار للحداثة والبعد الاجتماعي” وجعل الفكر التنويري مصدر إلهام للشباب العربي. وأشار إلى أن حزبه هو أول ما طرح فكرة التحالفات منذ سبعينات القرن الماضي بعد تمكنه من استشراف التغيرات التي حصلت في تلك الفترة.
وبالمحصلة، فإن حالة التشظي هذه قد تؤدي إلى انهيار الفكر اليساري، فرغم أن عددا من الدول العربية شهدت تقاربا بين الأفكار اليسارية والناصرية والقومية على غرار تجربة الجبهة الشعبية في تونس، فإنها تظل محدودة وغير قادرة على استيعاب بقية المدارس اليسارية وذلك بحكم الخلافات القديمة التي مازال اليسار العربي يعاني منها على أمل حصول تغيير في يوم ما.
العرب