في الوقت الذي قرعت فيه روسيا وإيران الطبول لشن عملية عسكرية في إدلب (في شمال سورية)، جاءت قمة سوتشي في نسختها الرابعة، والتي جمعت الرؤساء التركي أردوغان والروسي بوتين والإيراني روحاني، لتطرح تركيا فيها رأياً آخر، وهو ضرورة الحفاظ على أهالي تلك المنطقة، وطلب وقت إضافي لحل قضية متطرّفي هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، بالضغط عليهم، ودفعهم إلى حل قياداتهم وسحب الأسلحة منهم، أو على أسوأ سيناريو إنشاء فيلق عسكري من المعارضة السورية، ومدعوم من الجيش التركي، للضغط على المتطرّفين في المنطقة.
لعل أبرز القضايا التي طرحت في القمة قضية انسحاب القوات الأميركية من غرب الفرات، وترحيب جميع الأطراف بالخطوة. وكانت الأساليب واضحة لكل من روسيا وإيران، فروسيا استخدمت أسلوب التحدّي، عندما قال بوتين إن من الأحسن أن ترحل هذه القوات. وفي المقابل، هناك تحدٍّ آخر أنه ليس لدى الرئيس الأميركي ترامب القرار الأخير، حاله حال سياسته الداخلية التي دلّت على أنه ليس صاحب القرار.
استغلالاً للوضع، كان لإيران أسلوب هجومي مباشر، باتهام الولايات المتحدة بالتسبب في تدهور المنطقة، وفشل قواتها في إدارة المناطق التي توجد فيها، سواء في العراق أو سورية أو اليمن أو أفغانستان، وطالبت بانسحابها فوراً، وخصوصا بعد مؤتمر وارسو الذي وجّه لإيران
“أبرز القضايا التي طرحت في القمة انسحاب القوات الأميركية من غرب الفرات، وترحيب جميع الأطراف بالخطوة” اتهاماتٍ مجدّداً، من نوع خرقها القوانين الدولية، وطالب الدول الغربية بالوقوف ضد إيران.
ولا يخفى على الجميع أن تركيا لعبت دور الميزان بين القوى المختلفة في المنطقة التي لكل منها مصالحها، فروسيا تأمل البقاء في المنطقة، وملء الفراغ الذي ستتركه أميركا بعد انسحابها (في حال انسحبت جدّياً). وبالتالي، تجد روسيا من تركيا الصديق الأقرب للوصول إلى مصلحتها، وهذا ما جعلها لا تعترض على الرأي التركي في القمة. وكما لوحظ، لم تستخدم أيضا ورقة التطبيع مع دمشق، والتي ترفضها تركيا رفضا تاما، فتركيا بالنسبة لروسيا هي في مقدمة أولوياتها، قبل مصالحها مع إيران والنظام السوري.
في الجهة الأخرى، تبرز أولوية إيران في المحافظة على النظام السوري، وحماية مليشياتها في المنطقة قبل تركيا. لكنها، بحكم تعاونها مع روسيا ليس لديها خيار آخر سوى الرضى والقبول بما تتفق عليه روسيا وتركيا بشأن إدلب، خصوصا أن هذا الأمر يشكل قوة، ولو بصورة أقل نسبيا من روسيا في حال الفراغ الذي ستتركه أميركا، متأملة استخدام ورقة إشراك النظام السوري في الشمال السوري في الفترة المقبلة.
الانسحاب الأميركي من المنطقة، والذي بدأ يفقد حماسته شيئاً فشيئاً، هو العامل الذي سيحدّد طبيعة التعامل في إدلب ومنبج. وربما هو السبب في تمديد إصدار اللجنة الدستورية السورية، منتظرين الوضوح التام للانسحاب، وتحديد الجدول الزمني لذلك، فتركيا ترفض بشدة ترك واشنطن المنطقة لقوات الاتحاد الديمقراطي (بي يي دي) التي تعتبرها الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، والمصنّفة في القائمة الإرهابية، بل صرّحت أنقرة مراتٍ بأنها قادرةٌ على الدخول إلى منبج بمفردها، وتطهيرها من العناصر الإرهابية، خصوصاً أن روسيا وإيران لا ترغبان أيضا بتوحيد صفوف الـ “بي يي دي” في الفترة المقبلة، والتي تضر مصالحهما في المنطقة، بيد أن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من تأكيدها على سحب القوات، لم تقم بأي خطوةٍ تشير إلى ذلك الانسحاب، وهو في حد ذاته مؤشّرٌ على وجود تأثيرٍ للمسؤولين
“أميركا، وعلى الرغم من تأكيدها على سحب القوات، لم تقم بأي خطوةٍ تشير إلى ذلك الانسحاب” الأميركيين في السياسة الخارجية في سورية، والتي تعد امتدادا لسياسة الرئيس السابق، أوباما.
في تقديري، أدركت واشنطن خطأ القرار العشوائي الفجائي الذي أعلنه ترامب، وخطورة تسليم المنطقة لأعدائها وخصومها في المنطقة (روسيا وإيران)، وهذا ما أوضحه مايك بنس، نائب ترامب، في تصريحه في مؤتمر وارسو، إن الانسحاب الأميركي تكتيكي وليس استراتيجيا، وبالتالي، أميركا باقية في المنطقة، على ضوء هذا التصريح، وربما تراوح وتتلاعب بشأن قرار الانسحاب إلى حين الانتخابات الأميركية، والذي قد يستخدمه ترامب، في حملته الانتخابية، بحجة حماية شعبه، وتعود واشنطن “كما فعلت من قبل” في نقض الوعود التي وعدتها لتركيا بإيقاف دعمها لـ pyd وتواصل وجودها في المنطقة.
ومع كل هذه التعقيدات والمخططات في المنطقة، وتضارب المصالح المختلفة، تبقى تركيا “العصا الموازنة” لتلك المصالح، وهذا ما لوحظ في نتائج قمة سوتشي، فتركيا لعبت مرّةً أخرى دوراً مهماً في تحقيق أهدافها في المنطقة، سواء في عدم تقسيم سورية وحماية أمنها القومي والحفاظ على سكان سورية، والتخطيط لإعادة إعمار البنى التحتية، وإرجاع الأمن والاستقرار إلى تلك المناطق، وتسهيل عملية إعادة اللاجئين.
الأهداف التركية النبيلة، والتي تتحلى بها أنقرة خلافاً لجميع الأطراف الأخرى، والخالية من أي أطماع سياسية في الدول المجاورة، تكسبها القوة في صنع القرار في المنطقة، وتجعلها الجهة الوحيدة المدافعة عن سورية في الفترة المقبلة، والمحدّدة لخطوات تحرير سورية بصورة كاملة.
العربي الجديد