تُعْتبر «عصائب أهل الحق» إحدى أشهر الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، وهي على وشك أن تخضع لعقوبات الحكومة الأمريكية بسبب العديد من أنشطتها الإرهابية الموثقة. والآن يحاول زعيمها قيس الخزعلي [إدماج] حركته في “الوسط السياسي”. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن السؤال الرئيسي هو ما إذا كان ينبغي فرض عقوبات ضده أو ضد حركته أو كليهما، أو المساومة من خلال تهديده بفرض العقوبات، بانتظار علامات واضحة على سلوك أقل تدميراً.
الجهات الفاعلة العسكرية – السياسية الشيعية العراقية
منذ عام 2003، انتقل عدد من الجهات الفاعلة العراقية تدريجياً من المليشيات إلى الكتل السياسية. وقد كانت حركة التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر بالإضافة إلى جماعة منشقة تدعى “الفضيلة” أولى الحركات المنتقلة وأكثرها نجاحاً. واحتفظت هذه الجماعات بعدد كبير من الميليشيات في الفترة ما بين عامي 2004-2008 ولكنها اختارت نزع سلاح معظم قواتها نتيجة مجموعة متضافرة من الضغوط العسكرية والسياسية من جانب الأطراف الفاعلة الداخلية، والحكومة العراقية، والولايات المتحدة. واليوم، تشكّل حركة “الصدر” أكبر كتلة في البرلمان، مع أربعة وخمسين مقعداً، وتمثّل أكبر حركة احتجاجية في البلاد. وفي الوقت نفسه، لا تزال الحركة تقود ميليشيا قوية قوامها 12 ألف فرد تحت اسم “سرايا السلام”، التي تشكل بشكل قانوني جزءاً من قوات الأمن العراقية منذ تفعيل «قوات الحشد الشعبي» في حزيران/يونيو 2014.
أمّا الميليشيا الأخرى التي دخلت الطيف السياسي فهي “منظمة بدر”، وهي جماعة معارضة شبه عسكرية تدعمها إيران، وقد اختارت التنافس في جميع الانتخابات العراقية التي جرت بعد عام 2003. واليوم، تقود ثاني أكبر كتلة في البرلمان. وتعتبر “بدر” أيضاً المزود الرئيسي للعناصر في «قوات الحشد الشعبي»، حيث يبلغ قوامها ضعف عدد ميليشيا “سرايا السلام”.
واليوم، تنضم إلى هذه الميليشيات الشيعية المشتركة جماعة «عصائب أهل الحق»، وهي حركة منشقة من التيار الصدري أسسها كل من إيران و«حزب الله» اللبناني في عام 2006. ويسعى رئيس الحركة، الخزعلي، تدريجياً إلى الابتعاد عن هويته العسكرية المؤيدة لإيران ليثبت نفسه كزعيم سياسي عربي عراقي قومي.
التجديد المظهري لقيس الخزعلي
يمكن استخلاص عدد من المواضيع من الخطابات الأخيرة التي ألقاها الخزعلي في 5 كانون الثاني/يناير و23 كانون الثاني/يناير، بمناسبة الذكرى السنوية لانسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011 والإعلان العراقي عام 2018 عن يوم النصر على تنظيم «الدولة الإسلامية»:
الابتعاد عن ايران. قال الخزعلي الذي يسعى إلى الانفصال عن السياسة الإيرانية، “لم أعِش في إيران منذ سبعة عشر عاماً. قد يكون الأمر هو إنني أزور إيران مرة أو مرتين سنوياً لأخذ أطفالي في عطلة لأنني لا أستطيع زيارة أي بلد آخر”. وثم سعى لتأكيد موقفه بالقول: “إذا اندلعت حرب بين الولايات المتحدة وإيران خارج العراق، فهذا الأمر لا يتعلق بنا”.
حكم “ولاية الفقيه” في العراق. في إشارة إلى المفهوم الذي يمنح المرشد الأعلى الإيراني سلطته، قال الخزعلي أنه “من غير الممكن أن يكون لدينا «ولاية فقيه» بنفس الطريقة المتبعة في إيران”. وأضاف: “تشكّل أعلى سلطة دينية شيعية في النجف جزءاً من هويتنا الاجتماعية، وبالتالي فإن المرجع في النجف لا يمكن أن يؤدي دور «ولاية الفقيه» في العراق.”
«قوات الحشد الشعبي». أضاف الخزعلي: “لا يمكننا تحويل «قوات الحشد الشعبي» العراقي إلى «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني لأن أحد أهم أسباب بقاء «الحرس الثوري الإيراني» هو وجود «ولاية الفقيه» في إيران”.
«حزب الله». في ما يتعلق بنموذج «حزب الله» اللبناني، قال الخزعلي: “لا يستطيع الشيعة في العراق التصرف بالطريقة ذاتها التي يتصرف بها الشيعة في لبنان لأننا الأغلبية في العراق، بينما هم الأقلية في لبنان”. وأضاف: “نحن دولة!” – أي أن الشيعة في العراق قد حققوا بالفعل منزلة متفوقة على تلك التي حققها «حزب الله» في لبنان.
وبشكل عام، يسعى الخزعلي إلى تكوين هوية جديدة وشخصية متبصرة تسمح له بالتنافس مع خصمه لفترة طويلة، الصدر، للحصول على اهتمام الشباب. فهو يدعو إلى تعزيز الدولة كأفضل طريقة لمنع التدخل الأجنبي مهما كانت الجهة – الولايات المتحدة أو إيران أو الجهات السنية. ويريد الخزعلي، صاحب الخطابات الشعبية المعادية للأجانب، توسيع نطاق هوية “المقاومة الإسلامية” لتشمل المجال الاقتصادي من خلال استبعاد الاستثمارات الأجنبية من البنية التحتية الحيوية في العراق.
آفاق محاولة «عصائب أهل الحق»
يقدم الخزعلي مجموعة من الحوافز للدولة العراقية والمجتمع الدولي، مقابل الموافقة على اتجاهه للإنضمام إلى التيار السياسي الرئيسي. فمنذ نيسان/أبريل 2018، أبدى استعداده لتسليم أسلحة جماعته إلى الدولة العراقية ودمج ميليشياتها في قوات الأمن العراقية. وفي أعقاب انتخابات أيار/مايو 2018، حصلت قائمة كتلة “الصادقون” برئاسة الخزعلي على 15 مقعداً في مجلس النواب العراقي المؤلف من 329 مقعداً. وقد حققت كتلة “الصادقون” زيادة سريعة في المقاعد، حيث كان لها مقعد واحد فقط في عام 2014. وجاءت هذه الزيادة من خلال اختيار مزيج ذكي من المرشحين الشباب – ولا سيما النساء – وتخويف المليشيات والتلاعب بالأصوات في مراكز الاقتراع في بغداد. وتجدر الإشارة إلى إنّ عضو مجلس الوزراء من «عصائب أهل الحق» عبد الأمير الحمداني، الذي يشغل منصب وزير الثقافة والسياحة والآثار، هو عالم آثار كفوء، تم تعيينه لكي تظهر الحركة في أحسن صورة ممكنة.
أمّا العقبة الرئيسية أمام الخزعلي فهي أن أفعال «عصائب أهل الحق» لا تزال متعارضة مع كلمات قائدها. فطوال تاريخها، قامت «عصائب أهل الحق» بقتل العراقيين – من بينهم من هم من دائرتها الشيعية – الذين وقفوا في طريق الجماعة. ففي منتصف العقد الماضي، قادت «عصائب أهل الحق» حملة التطهير الطائفي في بغداد، وفي كانون الثاني/يناير 2007، عملت مع إيران من أجل تنسيق عملية اختطاف خمسة جنود أمريكيين وقتلهم بدم بارد في كربلاء. ولكن حتى «عصائب أهل الحق» “الجديدة” – التي ظهرت على هذا النحو منذ إنشاء «قوات الحشد الشعبي» في عام 2014 – قد أُثبِت ضلوعها بقتل العشرات من الشباب المتحررين الذين يرتدون ملابس مختلفة بشكل مميز، بالإضافة إلى المطربين، والعاملين في الملاهي الليلية، وبائعي المشروبات الكحولية، والعاملين في منظمات المجتمع المدني، والصحفيين والناشطات على وسائل التواصل الاجتماعي. كما ثبت ضلوع مقاتلي «عصائب أهل الحق» أيضاً في ابتزاز السياسيين ومالكي الكازينوهات والمطاعم والنوادي الليلية، وكذلك استيراد المخدرات إلى العراق وتحصيل رسوم هائلة من سائقي الشاحنات. وقد اختطفت «عصائب أهل الحق» أيضاً رياض العضاض، رئيس مجلس محافظة بغداد، علناً في عام 2014. وفي عام 2016، استولت على مصفاة بيجي، وهي أكبر مصفاة نفط في العراق، وسرقت المعدات الرئيسية من المنشأة وباعتها لأعلى المزايدين.
كما يستمر هذا السلوك الوحشي حتى في الآونة الأخيرة. ففي انتخابات أيار/مايو 2018، وقف أعضاء «عصائب أهل الحق» خارج مراكز الاقتراع في المناطق السنية في شمال وشرقي بغداد، وقادوا حرفياً مئات الناخبين [إلى صناديق الاقتراع] لانتخاب مرشحيهم باستخدام التهديد الجسدي. أمّا في المناطق الريفية، فكانت «عصائب أهل الحق» أكثر عنفاً بصورة علنية. ففي تموز/يوليو 2018، اختطفت الجماعة ضباطاً محليين من الجيش العراقي وزعماء قبائل سنية في منطقة الدجيل، شمال بغداد. وحيث تسيطر ميليشيات «عصائب أهل الحق» على شمال ديالى، جنّدت الجماعة مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» عمداً في أرجاء جلولاء وخانقين بسبب موقفهم المناهض للأكراد، مما أدى إلى عودة العنف المحلي ضد المجتمعات الكردية.
توصيات للسياسة الأمريكية
لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت حركة مقتدى الصدر أو “منظمة بدر” قد انضمتا بالفعل إلى التيار السياسي الرئيسي العراقي النظري، وذلك لأن كلتيهما تقودان قوات مسلحة كبيرة وترفضان الخضوع للسيطرة التامة للدولة. وبالرغم من صحة كل ما ورد، تَعْتبر الولايات المتحدة كل من حركة “الصدر” و”منظمة بدر” جهة فاعلة سياسية شرعية وعنصراً لا غنى عنه في المشهد الحزبي في العراق. لذا، فالسؤال الجوهري الذي يطرحه صانعو السياسة في الولايات المتحدة يتمثّل في ما إذا كان ينبغي على واشنطن معاملة «عصائب أهل الحق» كما تعامل تلك الجهات الفاعلة، أو بدلاً من ذلك، إدراج قيس الخزعلي وجماعته ضمن لوائح الإرهاب، كما فعلت مع الكيانات الأخرى المدعومة من إيران مثل «كتائب حزب الله» و«حركة حزب الله النجباء»؟
ويشير المسؤولون العراقيون إلى كل من حركة “الصدر” و”منظمة بدر” على أنها مثال أولي للاعتدال الجزئي الذي يمكن البناء عليه. فمن جانب الولايات المتحدة، يجب عليها استخدام ورقة الضغط التي يشكلها التهديد بفرض العقوبات لتوجيه سلوك «عصائب أهل الحق» بطريقة غير مباشرة في الاتجاه الصحيح. وعلى وجه التحديد، يجب على الولايات المتحدة أن تشير بهدوء إلى أنها تراقب «عصائب أهل الحق» عن كثب في المحافظات والمدن العراقية، وأنها تقوم بإدراج أعمال الحركة ضمن الأسباب التي قد تدفع الولايات المتحدة إلى فرض العقوبات، وأن ذلك يمكن أن يشمل تقييماً سلبياً لملف الخزعلي الشخصي. يجب على واشنطن أيضاً أن تعلن بهدوء أنها ستراقب مبادرات الخزعلي فيما يتعلق بالشراكة العسكرية الأمريكية – العراقية التي تهدف إلى هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد ألمح زعيم «عصائب أهل الحق» إلى أن وجود المستشارين والمدربين الأمريكيين قد يكون مقبولاً، واصفاً الموضوع بأنه “مسألة عسكرية تقنية”، وليس مسألة سياسية. ولكن، إذا تم طرد القوات الأمريكية من العراق نتيجة التحريضات التي يقوم بها رجال الميليشيات مثل الخزعلي، فإن واشنطن لن تخسر إلاّ القليل من خلال فرض كامل وطأة العقوبات عليه وعلى حركته.
معهد واشنطن