تغير جغرافيا المحتجين دليل على تأزم النظام العالمي

تغير جغرافيا المحتجين دليل على تأزم النظام العالمي

أثر الوضع العالمي المتأزم على الكثير من الأطروحات لفهم أسباب ما طرأ من تحولات سريعة، وقدم أحد التحليلات المهمة العامل الجغرافي المشتبك مع السياسات الاقتصادية كسبب مباشر لظواهر صعود اليمين المتشدد في العالم واندلاع الاحتجاجات المستمرة. ودق ظهور طبقة جديدة من المهمشين الغاضبين، وجاء معظمهم من مناطق ريفية ناقوس الخطر، بما يهدد استقرار العالم ونظمه السياسية، وبدأت بوادر هذا الخطر تزحف على دول مختلفة، مع ارتفاع التحذيرات من عودة التظاهرات في بعض الدول، بصرف النظر عن تقدمها وتخلفها.

فجرت احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، أوجه متعددة من دعوات احتجاج مماثلة في بؤر متعددة من العالم تعيش مناخا اقتصاديا وسياسيا متشابها، وربما تجمعها مطالب إنسانية مشتركة. وانتقلت العدوى إلى بعض دول أوروبا الشرقية، مثل رومانيا والمجر، وأميركا اللاتينية، مثل تشيلي، وكذلك بدأت تقترب من المحيط العربي في دول مثل السودان وتونس، وربما مصر.

لم يكن الفارق بين نجاح الجبهة الفرنسية وفشل بقية الجبهات التي لم تفلح فيها عدوى السترات الصفراء، متمركزا في اختلاف الدوافع السياسية والاقتصادية للمتظاهرين، لكنها تميزت بكونها تحمل “دوافع جغرافية”.

وكما ترتبط الثورات والاحتجاجات بالاقتصاد والسياسة، فإنها أصبحت ترتبط أيضا بالجغرافيا. وظلت المدن والمناطق الحيوية نقطة انطلاق دائمة لخروج الاحتجاجات ومنارة لجموع المحتجين لتصاعد أو خفوت تظاهرتهم.

وظلت المدينة وسكانها المنبع الجغرافي للثورات، بداية من الثورة الفرنسية عام 1789 التي خرجت من تحالف أصحاب المهن والورشات مع عمال المصانع في باريس وانضم لها لاحقا فئة من المزارعين، مرورا بثورات روسيا البلشفية والثورة في رومانيا، ونهاية بثورات الربيع العربي وما تلاها من احتجاجات في تركيا عام 2013 والبرازيل 2014.

لكن كشفت ديموغرافيا المحتجين الفرنسيين أن أغلبهم جاؤوا من مناطق ريفية، أو على الأقل من خلفية بعيدة عن الحضر، قبل أن ينضم إليهم الاشتراكيون والليبراليون وأطياف سياسية أخرى، لتكشف التغيير الذي دب في العالم.

وتشابكت ظاهرة غضب أهل الريف مع ظواهر أخرى، منها ما يعيشه السودان الآن من احتجاجات، انطلقت شرارتها الأولى من مدينة عنبرة الزراعية (شمال الخرطوم) ثم انتقلت رياح الاحتجاج إلى مدن زراعية أخرى، منها دنقلا وبربر وسِنار والقضارف، قبل أن تصل محطتها الأخيرة إلى العاصمة السودانية الخرطوم.

وأصبح لسكان الريف اليد العليا في توجيه دفة التظاهر، وأضيف إلى ذلك قدرتهم أيضا على وضع أسس لنظم سياسية جديدة عبر تحريك سياسة بلدانهم بشكل وضع العالم أمام تغيرات غير مسبوقة. كل هذا يؤكد عليه عالم الجغرافيا الفرنسي كريستوف جويلي، في كتابه الأخير “أفول النخبة”، قائلا “إن سكان الريف أو كما يتم تلقيبهم بسكان الهامش، الذين قادوا المظاهرات الفرنسية، هم من قالوا لا في استفتاء بقاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي في عام 2005، وهؤلاء هم من كوّنوا القاعدة الشعبية التي وضعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سدة حكم أقوى دولة في العالم، وهم كذلك من رجحوا كفة الانفصاليين في بريطانيا عام 2016”.

كان كريستوف جويلي، أول من تنبأ بذلك التغيير الحالي، والتحول الطارئ في نمطية التظاهر وأدوات الاحتجاج والانتخاب. وفي الكتاب الذي صدر بالفرنسية عام 2016 قبل أن يترجم إلى الإنكليزية مطلع العام الحالي، يشير إلى أن الجغرافيا السياسية المتحكم الحقيقي في العالم، في اختيار القادة الممثلين لبلدانهم أو في إثارة الفوضى.

افتتح جويلي كتابه بعنوان جذاب اسمه “القلاع الجديدة”، ورجح أنه مثلما كان يفعل ملوك أوروبا في القرون الوسطى في بناء قلاعهم للدفاع عن عروشهم في الريف والمقاطعات الزراعية، لأنهم يعلمون أن بداية الخطر تأتي من هناك، بات على زعماء العالم الآن إدراك الغاية نفسها.

يفسر كتاب “أفول النخبة” صعود سكان الريف بأنه نتاج طبيعي لتبني سياسة الرأسمالية المتوحشة والجافة في العالم، والتي تعصف بالفقراء والمهمشين.

ويعيش سكان الريف على هامش محاور التنمية التي تصنعها الحكومات، وتنعكس الإصلاحات الاقتصادية المتتابعة على السكان الحضر أولا وبشكل واضح، باعتبار المدن المصنع الحقيقي الحاصد للإنتاج والفاعل في تطبيق السياسات، ويصبح المقيمون في المدن أقل تضررا من سكان الريف وأقل اعتراضا على الصعود القاسي للضرائب، لأن الريفيين لا يرون انعكاسا لتلك السياسات الاقتصادية على مناحي حياتهم في التعليم والصحة والعمل.

وتمتلك المدن أفضل الأدوات لاستقطاب مستوى تعليمي جيد وخدمات طبية متميزة وفرص عمل وفيرة، مقارنة بطبقة المهمشين الذين تقل جودة الخدمات المسداة لهم في محيطهم السكني.

ومع شعور تلك الطبقة بالظلم بدأت تتحول إلى قوة محركة للشارع وقادرة على إنهاء تلك السياسات، ومواجهتها بقوة الاستحقاقات السياسية أو بأدوات الديمقراطية. ويرى العالم الفرنسي أن الغاضبين طبقة اجتماعية جديدة ظهرت على هامش ما يعيشه العالم تماما، مثل ظهور طبقة البرجوازية في القرن السادس عشر من أصحاب الحرف والورش على هامش عصر تفشي الرأسمالية.

وامتلك البرجوازيون القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة للمحافظة على امتيازاتهم بالتحالف مع المستضعفين من عمال وفلاحين أمام الإقطاعيين قبل أن تحتل مراكز القيادة عاصفة بحلفائها.

ومثلما ولدت الطبقة البرجوازية من رحم الثورة الفرنسية ثم انتشرت حول العالم، ظهرت تلك الطبقة الجديدة الآن، ومن فرنسا أيضا، لتقود حراكا سياسيا ومجتمعيا جديدا، وتنقلب على الوضع الحالي.

وقال مصطفى رجب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن القاعدة الجماهيرية للكثير من الحكام والقادة باتت متمركزة في المناطق البعيدة عن المدن.

وأضاف “على سبيل المثال حصد دونالد ترامب أغلب أصواته من المناطق الريفية في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، وهي من دعمته للفوز ومازالت ظهيره الشعبي الذي يراه منفذا للسياسة التي يعتزم تطبيقها”.

أكد لـ”العرب”، أن العالم فوجئ بمتغيرات غير متوقعة، مثل صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وتولي ترامب الحكم في الولايات المتحدة، وانتصار معسكر الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، كل تلك النتائج لم تكن متوقعة لأنها أغفلت الاهتمام بما يعيشه المهمشون في الريف وغضبهم المتنامي ضد السياسات الاقتصادية الحالية.

وأوضح رجب أن النظرية الرأسمالية منذ نشأتها مرورا بتطور عناصرها، لاسيما مع تراجع الشيوعية، توحشت ولم تراع الفقراء عموما، والذي يعيش أغلبهم في المناطق الريفية. ولم ينجح المجتمع الريفي بشكل عام في التكيف مع ظاهرة العولمة من الناحية النظرية، حيث أصبح العالم قرية صغيرة منفتحة ومتقاربة، وتمثل التكنولوجيا جسرا لتلك التقاربات، ومن الناحية العملية تحول العالم إلى سوق مشترك تحكمه قواعد المنافسة.

وفشل سكان الريف في فهم واستيعاب العالم الجديد، وأضحى هؤلاء الخاسر الأكبر من تلك العملية، بسبب صعوبة المنافسة مع المدن والضواحي، وتمركز ذلك العالم المتشابك والمتواصل في الحضر دون اهتمام كبير بأهل الريف في الدول النامية.

ويشعر أفراد الطبقة الجديدة بكراهية حتمية لكل مهاجر لأنه لم يكتف بتقاسم مكاسب تقدم بلدانهم معهم، لكن أيضا لأنه اختار المدينة وابتعد عنهم بحثا عن أكبر مكسب من لجوئه.

ذلك هو القاسم المشترك في أغلب المدن الأوروبية الكبيرة، ويشعر مواطنو الريف في تلك البلدان بالغربة عند زيارة عواصم بلادهم، بعد أن سيطر المهاجرون القادمون من أفريقيا وشرق آسيا وأضحوا عصبها الأساسي، إذ لا يجدون العدالة في توزيع الثروات وينظرون إلى هؤلاء باعتبارهم لصوصا أتوا من الخارج.

تمتلك الطبقة المهمشة نبرة حادة وتعبيرا صادقا مدفوعا بالغضب ضد كل من وضع حياتها على المحك تحت مقصلة الرأسمالية، ويمكن تبرير ذلك باجتياح أعمال عنف في احتجاجات السترات الصفراء والعودة إلى حركات شعبوية عنصرية، وتتسق تلك الرؤى مع غياب الفكر الشمولي القادر على فهم شكل ولغة التواصل العالمية.

وأشارت شيرين فهمي أستاذة الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، لـ”العرب” إلى أن النظم السياسية والاقتصادية الحديثة لم تعد قادرة على الصمود لفترات طويلة أمام رياح التغيير الكبيرة.

ورأت أن سقوط النظام الشيوعي، مع نهاية القرن العشرين، سريعا يمثل عبرة ويعد أكثر الدلالات على أن كل الأنظمة التي صنعتها الدول الكبرى في نهاية الحرب العالمية الثانية قابلة للانهيار، إذا لم يتم تعديلها لمواءمة الأوضاع الجديدة، وإرضاء الطبقة الغاضبة قبل أن تنقلب تماما على الوضع العالمي الحالي.

ولا تتوقف انعكاسات ظاهرة الريف الجديدة عند العالم المتقدم وحده، لكن لها خصوصيتها في البلدان النامية وما تعيشه الآن، ولذلك يتنبأ الخبراء بنشوء ثورات جديدة، وإن لا تبدو غير باحثة عن المزيد من الحريات والعدالة الاجتماعية فإنها ستكون ثورة جياع تبحث عن الغذاء.

وحذّر الكثير من زعماء العالم خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي من تلك الفوضى، وساد الشعور بالقلق من التحولات السريعة، والتي يصعب مواكبتها، وأهمها ما قاله إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا، الذي طالب بضرورة إعادة النظر في أوجه القصور في النظام العالمي لإيجاد حلول للمشاكل القائمة وحماية العالم.

العرب