تبدو السياسة الأميركية في سوريا في حالة من الفوضى. في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترمب أنها ستسحب جنودها من شرق سوريا في غضون أربعين يوماً. بعد ذلك، تحولت الأيام الأربعون إلى أربعة أشهر. ومطلع الأسبوع الماضي، بدلت إدارة ترمب قرارها وأعلنت أنها ستترك في شرق سوريا 200 جندي. وبعد يومين، ارتفع العدد إلى 400 جندي.
أما عن المدة التي سيبقى خلالها الجنود في سوريا، فقال مسؤول أميركي رفض كشف هويته إنهم سيبقون لـ«مدة معينة». في النهاية، يبدو واضحاً أن واشنطن لا تعلم حتى هذه اللحظة عدد الجنود الذين سيبقون داخل شرق سوريا وإلى متى سيبقون.
المؤكد أن ثمة مفاوضات مكثفة تجري على قدم وساق الآن داخل واشنطن بين البيت الأبيض الراغب في الانسحاب من سوريا ومسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية، وكذلك مع أعضاء جمهوريين وديمقراطيين في الكونغرس ومراكز استراتيجية معنية بالسياسة الخارجية، يحثون جميعاً في اتجاه الإبقاء على قوات أميركية داخل سوريا.
وحتى الآن، لم تفلح هذه المفاوضات في التوصل إلى إجماع بخصوص ماهية المصلحة الوطنية الأميركية في سوريا. والواضح أن واشنطن ليست لديها أولويات واضحة، مما يعني أن هؤلاء الجنود الـ400 والطائرات التابعة للقوات الجوية الأميركية التي تحلق في الأجواء السورية، أمامهم مهام كثيرة للغاية. على سبيل المثال، يتعين على هذه القوات الحيلولة دون استخدام إيران الطريق المؤدية من العراق قرب التنف، حتى داخل دمشق، بهدف معاونة إسرائيل على هذا الصعيد. أيضاً، يجب أن تعمل تلك القوات على منع عودة تنظيم «داعش» إلى شرق سوريا، وذلك بالتنسيق مع «قوات سوريا الديمقراطية». أما بالنسبة لمسألة كيف ستتمكن القوات الأميركية و«قوات سوريا الديمقراطية» من إصلاح المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السورية التي شجعت البعض على الانضمام إلى «داعش»، فلا أحد يتعرض لها بالمناقشة.
ومن المفترض كذلك من الجنود الـ400 أن يوفروا الحماية للأكراد السوريين ومشروع الحكم الذاتي الخاص بهم في مواجهة تركيا وحكومة الأسد.
يذكر أن ثمة ارتباطاً عاطفياً قوياً بين الأميركيين وحلفائهم الأكراد. ولا يزال الأميركيون يأملون في أن تقبل تركيا بحكم ذاتي محلي لأكراد سوريا، لكن ليس بمقدورهم قول هذا الأمر مباشرة لأنقرة. ولسوء حظ واشنطن، يدرك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الرسالة الأميركية.
وتبدو تلك ثلاث مهام ضخمة بالنسبة لقوة صغيرة من الجنود الأميركيين. هل يمكن لـ400 جندي أميركي حتى لو كان الواحد منهم في قوة سيلفستر ستالون أو بروس ويليس، إنجاز كل هذه المهام في مواجهة روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد ومتطرفي «داعش»، خصوصاً إذا ما تعاون أحدهم ضد الأميركيين؟
تتمثل إجابة إدارة ترمب في أن لندن وباريس ستنشران ألف جندي لمعاونة الأميركيين، لكن حتى الآن لم تعلن أي من لندن أو باريس موافقتها على الطلب الأميركي.
يذكر أن العلاقات الأميركية مع غرب أوروبا في أسوأ حالاتها اليوم منذ 70 عاماً، وتساور لندن وباريس شكوك كبيرة حول مدى الالتزام الأميركي تجاه سوريا. هل يمكن لأي جهة الوثوق بما يعلنه ترمب ومسؤولوه على المدى الطويل؟
من بين الذين وثقوا بكلمة ترمب والآن مني لتوّه بخسارة كبيرة، على الأقل على المدى القصير، الأسد. لقد كان الرئيس السوري واثقاً بأن ترمب سيسحب قواته. وعليه، رفض عرضاً روسياً لمقايضة تقديم تنازلات بخصوص إقامة حكم ذاتي محلي للأكراد مقابل موافقة الأكراد على نشر قوات من الجيش العربي السوري في مناطق بشرق سوريا وعلى امتداد الحدود.
الآن، وبسبب القرار الجديد من واشنطن، خسر الأسد أفضل فرصة سنحت أمامه منذ عام 2012 لاستعادة السيطرة على الحدود الشرقية لسوريا. وسيضطر الأسد للانتظار «مدة معينة» قبل أن تحين فرصته التالية لعقد اتفاق مع الإدارة الكردية.
ومع هذا، تظل الحقيقة أن الأسد يتسم بالصبر، بينما يفتقر إليه ترمب، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية عام 2020. وربما يقبل الأوروبيون بالطلب الأميركي ويرسلون بعض القوات إلى شمال سوريا. وحتى إذا أرسلوا قوات، فلا أحد في واشنطن أو لندن أو باريس يدرك ما الحل الطويل الأمد في سوريا.
من جهته، لن يرحل الأسد عن سوريا، ولن ترحل إيران عن سوريا، ولن تضغط روسيا على أي منهما. أما «داعش»، فسيعمد إلى استغلال الدعم الغربي للأكراد السوريين لتجنيد مزيد من المقاتلين العرب في إطار حرب العصابات التي يخوضها، وستواجه القوات الغربية مزيداً من الهجمات المتطرفة.
وبطبيعة الحال، ستعاون الاستخبارات السورية هذه القوات المتطرفة، مثلما حدث أن عاونت تنظيم «القاعدة» في العراق.
يذكر أن انتحارياً فجر نفسه الشهر الماضي في منبج وقتل 4 جنود أميركيين.
أما الرأي العام الأميركي، فيملك الصبر اللازم لـ«مدة معينة». لقد زرت ولاية يوتاه ذات التوجهات المحافظة في غرب الولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، وتحدثت إلى مجموعة من المواطنين بلغ عددهم نحو 100 شخص حول سوريا والعراق. وقد طلبت منهم ذكر اسميْ مدينتين في شرق سوريا، ولم يتمكن من الرد على هذا السؤال سوى اثنين فقط. أما الباقون، فالتزموا الصمت حيال سياسة ترمب في سوريا، ولم يعربوا عن تأييدهم أو رفضهم لها.
ومع هذا، فمن غير الواضح ما إذا كان هذا الصبر الأميركي سيستمر لفترة طويلة. وتكشف استطلاعات الرأي أن الأميركيين يرغبون في تقليص معدل التدخل في الخارج. والآن، يقترب موسم الانتخابات الرئاسية. وبالتأكيد يدرك ترمب جيداً هذه الحقائق حتى وإن كانت النخبة المعنية بالسياسة الخارجية في واشنطن لم تدركها بعد. والتساؤل إذن: كيف ستصبح سياسة واشنطن تجاه سوريا خلال الشهرين المقبلين؟
الشرق الأوسط