لطالما مثل السلام الاقتصادي الجانب أو الشق الاقتصادي في كافة التسويات السياسية، أو ما يسمى بمبادرات “السلام الأميركية” بين إسرائيل والأطراف التي وقعت اتفاقيات تسوية (منظمة التحرير الفلسطينية، مصر والأردن)، أو لم تُبرم اتفاقيات ولكنها اكتفت بنمط علاقات سرية كما في بعض دول الإقليم العربية، وتمظهر السلام الاقتصادي بشكلٍ واضح في واقع السلطة الفلسطينية بعد مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى، وتشكل مشروع السلطة المسنود أميركياً في الضفة الغربية بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، ولكنه بقي مستتراً بين إسرائيل وكلٍ من مصر في اتفاقية كامب ديفيد التي وقعت عام 1978، والمملكة الأردنية في اتفاقية وادي عربة عام 1994، واقتصر على الدعم الأميركي السنوي العسكري والاقتصادي المباشر، وعبر وكالة التنمية الأميركية “USAID” ومؤسسات أخرى بصورة غير مباشرة، وقد شكل الجانب الاقتصادي في سياق عملية التسوية متلازمة لكل الاتفاقيات الأساسية أو الملحقة بين إسرائيل والعرب، وحافظ على مكونه الجوهري في الاتفاقيات حتى في أوقات الأزمات، وقد يتآكل بعض الوقت أو يكون عرضة للمد والجزر وفقاً لمتغيرات قد لا ترغب فيها إسرائيل أو الإدارة الأميركية ولكن لا يصل لحد القطيعة.
شكل ومضمون السلام الاقتصادي
من التبسيط المخل اختزال السلام الاقتصادي بصيغته الأميركية أو الإسرائيلية في مشاريع اقتصادية مشتركة، أو مخططات تتعلق بالبنية التحتية أو الطاقة، بل هو مفهوم واسع بأهداف بعضها تكتيكية، والبعض الآخر يتعلق برؤى استراتيجية بعيدة المدى، وإن بدا في مظهره العام بمساعدات مادية سنوية مباشرة وبعض المشاريع لاقتصادية المشتركة، إلا أن له أشكالاً أخرى غير مباشرة تتعدى البعد الجغرافي أحيانا، ومن التبسيط أيضاً اعتبار السلام الاقتصادي بماله الأميركي وبمشاريعه الإقليمية الإسرائيلية الطموحة وصفة لتحقيق سلام حقيقي قائم على رد الحقوق ونصرة المظلومين، وإحداث حالة رخاء ورفاهية وازدهار شامل يطاول جميع الأطراف بلا استثناء، وإنما في المحصلة خدمة الأهداف الأميركية وتمكين المشروع الصهيوني في المنطقة، ومن أبرز أشكال السلام الاقتصادي:
– المعونات المالية الأميركية السنوية المباشرة، في شقها العسكري أو الاقتصادي، إذ كان الشق الاقتصادي حاضراً وبقوة في معاهدات التسوية التي وقعها الكيان الإسرائيلي، وفي جزء منه المعونات السنوية، فبمجرد انفضاض مراسيم التوقيع على الاتفاقيات كانت الدبلوماسية الأميركية تستنفر دولياً لجمع أكبر عدد من الدول الداعمة خاصة الأوروبية لمؤتمرات دعم السلام “وتشجيع الأطراف وإقناعها بخيار السلام وثماره”، وعليه تلقت السلطة الفلسطينية مساعدات مالية أميركية مباشرة بمعدل 60 مليون دولار سنوياً في الفترة 1994-2000، وارتفعت إلى 512 مليون دولار في عهد بوش الابن، بينما قفزت في السنة الأولى لباراك أوباما عام 2009 إلى مليار دولار، وارتفعت مجدداً إلى مليار دولار عام 2013، قبل أن تتراجع مرة أخرى إلى 497 مليون دولار، ثم سجلت 557 مليون دولار عام 2015، و457 مليون دولار عام 2016، و285 مليون دولار في السنة الأولى لحكم ترامب، وتوقفت للصفر مع بداية عام 2019 في سياق تفعيل آليات الضغط الأميركية لتمرير مخطط تصفية القضية الفلسطينية “صفقة القرن”، أما مصر التي وقعت اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 فقد تلقت معونات ومساعدات أميركية عسكرية سنوية قدرها 1.3 مليار دولار، ومساعدات اقتصادية بحوالي 250 مليون دولار، وفي العام 2017 حصلت مصر على 1.23 مليار، خُصص 1.1 مليار للدعم العسكري والأمني، فيما لم تتجاوز المساعدات الخاصة بالتعليم الـ37 مليوناً، والإنسانية 26 مليوناً، بينما بلغ الدعم المخصص للنمو الاقتصادي 45 مليوناً، ووفقاً لـ خدمة أبحاث الكونغرس الأميركي، حصلت مصر على 69 مليار دولار من الولايات المتحدة منذ عام 1979 حتى الآن.
أما المملكة الأردنية التي وقعت مع إسرائيل على اتفاق وادي عربة عام 1994 فقد تلقت عام 2017 معونات أميركية بمبلغ 1.21 مليار؛ 510 ملايين لصالح الجوانب العسكرية والأمنية، و213 مليوناً للموازنة العامة، و188 مليوناً للخدمات الإنسانية الإغاثية، و82 مليون دولار للتعليم، و60 مليوناً للمجال الصحي، ونظراً لتوتر الأوضاع الداخلية في الأردن في ظل التراجع الاقتصادي وحالة الاضطراب الإقليمي تم تجديد اتفاقية المساعدات عام 2018 لمدة خمس سنوات بتشجيع من الكونغرس الأميركي، لتغطي الأعوام من 2018 وحتى 2022 بقيمة اجمالية 6.375 مليارات دولار.
المعونات المالية المباشرة من خارج الولايات المتحدة، وهي المعونات التي تتلقاها الدول أو الكيانات المعنية من أطراف حليفة للولايات المتحدة، في إطار تفاهمات بين الولايات المتحدة وبين دول أو تكتلات سياسية أو اقتصادية كالاتحاد الأوروبي، وهي المعونات التي لا تمر دون ضوء أخضر أميركي، حتى المساعدات التي تقدم دون تفاهمات مسبقة نظراً لظروف طارئة فهي تتم ربما بإيعاز أميركي أو على الأقل موافقة علنية أو ضمنية، وقد نشط الاتحاد الأوروبي بعد تأسيس السلطة الفلسطينية مباشرة بعد اتفاق أوسلو عام 1993 بتقديم مساعدات سنوية مباشرة لخزينة السلطة الفلسطينية في سياق تعاطي دول الاتحاد مع الشق الاقتصادي من التسوية بينما الولايات المتحدة تعاطت مع الجانب السياسي بشكله الطاغي بالإضافة إلى جزء من الاقتصادي، ولا يقتصر الأمر على دول الاتحاد الأوروبي، فقد قدمت دول حليفة للولايات المتحدة مساعدات للسلطة مثل اليابان وكندا وأستراليا ودول أخرى، حتى الدول العربية خاصة الخليجية لا يمكن أن تقدم مساعدات مالية دون الإذن الأميركي.
التسهيلات المالية من المؤسسات المالية الدولية أو من دول بعينها، فقد حصلت الدول المعنية على قروض طويلة وقصيرة الأجل، وودائع، واستثمارات وتسهيلات مالية أخرى من مؤسسات دولية كالبنك الدولي، ومن دول غربية ذات فوائض مالية، وهي أيضاً لا تتم إلا بموافقة أميركية ضمنية أو علنية، فهذه ليست مؤسسات وجمعيات خيرية، والأموال المقدمة أياً كان شكلها أو هدفها هي أدوات لتحقيق أهداف وأجندات سياسية، مثلاً عندما كان الانقلاب في مصر على وشك الانهيار المالي عام 2017 وافق البنك الدولي على تقديم قرض بأكثر من 12 مليار دولار على شكل شرائح وضمن شروط معينة تتعلق بالإصلاح الاقتصادي، وهو أيضا لا يتم إلا بعد الموافقة الأميركية.
– المشاريع التي تطرحها إسرائيل أو الولايات المتحدة ذات البعد المحلي أو الإقليمي، والتي تتعلق بمشاريع البنية التحتية، ومشاريع الطاقة وتحلية المياه، والربط الإقليمي بطرق برية وسكك حديدية، أو مشاريع الربط الكهربائي وإمدادات الغاز، أو مشاريع متعددة الأهداف مثل المشروع المشترك لقناة البحرين بين البحر الأحمر والبحر الميت بين إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية، ويعتبر رئيس الوزراء ورئيس الدولة شمعون بيريز السابق المنظر الأبرز لمشاريع السلام الاقتصادي، فقد أعد مخططاً كاملا عقب اتفاق أوسلو لمشروع إقليمي متكامل اطلق عليه مشروع الشرق الأوسط الجديد، ومشروع إسرائيل كاتس وزير البنية التحتية الإسرائيلي في حكومة نتنياهو الذي يتمحور حول ربط الخليج برياً بإسرائيل من خلال شبكة سكك حديدية إلى مدينة وميناء حيفا على ساحل البحر المتوسط.
وآخر المشاريع الإقليمية التي وجدت لها تطبيقاً على أرض الواقع توقيع الحكومة الأردنية ممثلة بشركة الكهرباء الوطنية، أيلول/سبتمبر2016 اتفاقية مع شركة “نوبل إنيرجي” الأميركية المطورة لحوض البحر المتوسط، لاستيراد الغاز الإسرائيلي بـ10 مليارات دولار للـ15 سنة القادمة، وتوقيع عقد لبيع الغاز الإسرائيلي إلى مصر في شباط/فبراير 2018 بقيمة 15 مليار دولار على مدار السنوات العشر القادمة، وتشكيل منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) في يناير/ كانون الثاني 2019، بمشاركة كلٍ من إسرائيل ومصر والأردن وقبرص واليونان وإيطاليا وفلسطين، والذي يهدف حسب ما أعلنته الدول المشاركة إلى “تأمين احتياجات الدول الأعضاء من الطاقة لصالح رفاهية شعوبها، وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وبناء بنية جديدة واستخدام البنية التحتية المتاحة.
السلام الاقتصادي والغايات الأساسية
ساد خطاب السلام الأميركي ومعه المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية الداعمة نمط من التعابير والشعارات والمصطلحات التي تحمل من الشكل أكثر من المضمون، وتتغلف بعبارات تحجب الحقيقة وتقدم صورة مغايرة للواقع، فقد سادت شعارات “دعم خطوات بناء الثقة والسلام الحقيقي”، ودعم وإسناد الأطراف لتشجيعها على الانخراط في السلام المنشود، والتأسيس لشرق أوسط جديد يسوده الرخاء والسلام في سياق التعاون الإقليمي، ولكن تبقى الأهداف الحقيقية ومعها المخرجات النهائية هي الأهم، وتبقى الحقائق الشاهدة على غايات هذا السلام هي المعيار، ومن التجربة طوال السنوات الماضية من عمر السلام الاقتصادي يتضح أهم الأهداف الحقيقية:
– دعم اتفاقيات التسوية وتوفير أسباب الديمومة والصمود أمام رياح التغيير العاتية التي قد تهب في أي صحوة للشعوب العربية الرافضة لصيغة السلام الأميركي الإسرائيلي، ومن الثابت أن اتفاقيات التسوية الأميركية هي بالأساس لصالح إسرائيل ولمشروعها الاستيطاني الاستعماري، وهدفت إلى ترسيخ مكانة إسرائيل في المنطقة كقوة مهيمنة، وادماجها كدولة طبيعية في المحيط العربي تمارس التطبيع وتمد جسور العلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية بما يخدم مشروعها الاستعماري.
– تعزيز الاتكالية والاعتماد على الآخرين وتثبيط روح المبادرة، واستبدال قيم العمل والإنتاجية والابداع بقيم التكاسل والنكوص، كما تهدف كما في الحالة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو مباشرة، وفي بعض المناطق كما في الضفة الغربية بعد عام 2007 إلى خلق أولويات واهتمامات مصلحية لدى قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بعيداً عن الهم الوطني العام، وإيجاد نمط معيشي معين يصعب الفكاك منه ويجعل من الصعب التخلي عنه في وقت تحتاج فيه القضية الوطنية إلى روح ثورية متقدة تعلي من قيم التضحية والبذل والعطاء.
– تشكل طبقة سياسية مميزة متحالفة مع طبقة موازية من رجال الأعمال، تجتمع على منافع مشتركة ومصالح متشابكة، تتحول مع الوقت إلى طبقة منتفعة انتهازية فاسدة تتقاطع مصالحها مع مصالح وتوجهات الدول والهيئات المانحة والتي بالضرورة تصب في خدمة دولة الاحتلال وفي مخططاتها لترسيخ مكانتها وتحولها إلى دولة طبيعية مركزية في المنطقة، ومع المصالح المتراكمة والسلوك الانتهازي يصبح من السهل على الولايات المتحدة رأس الحربة في مشاريع السلام الاقتصادي وحليفتها إسرائيل تطويع هذه الطبقة وجرها إلى مربع السلام المزعوم بروح مصلحية انتهازية منزوعة من الروح الوطنية.
– توفير أدوات ضغط مالية واقتصادية فعالة لدى الدول والمؤسسات المانحة وبالتحديد الولايات المتحدة يتم توظيفها لتحقيق أهداف سياسية حينما يحين وقتها، فالبنك الدولي ووزارة الخارجية الأميركية ولجان الكونغرس المسؤولة عن إقرار المساعدات الخارجية ليست جمعيات خيرية، وليس في اهتماماتها معاناة الشعب الفلسطيني ولا الشعوب العربية، بل لخدمة الأجندة الأميركية الإسرائيلية التي تتموضع على النقيض من مصالح وطموحات الشعوب العربية وقضيتها المركزية العادلة القضية الفلسطينية، ولطالما فعلت الإدارة الأميركية أدواتها الاقتصادية للضغط على القيادة الفلسطينية وآخرها قطع كل أشكال الدعم الأميركي المباشر للسلطة الفلسطينية والإنسانية عبر “USAID” والمعونات السنوية لأونروا الخاصة باللاجئين الفلسطينيين والتي تقدر بـ 360 مليون دولار، وذلك بعد رفض السلطة الفلسطينية التعاطي مع مخطط ما يسمى بصفقة القرن.
من الواضح أن السلام الاقتصادي هو مكون أساسي في صيغة التسويات الأميركية الإسرائيلية مع العرب والفلسطينيين وهو يخدم الشق السياسي ولا يشكل بديلاً عنه، ومن التجربة يتضح أن السلام الاقتصادي بمكوناته المالية ومشاريعه المحلية والإقليمية لم يقدم إلا القليل للقضايا العربية المصيرية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولم يخدم سوى المشروع الإسرائيلي في ترسيخ وجوده في المنطقة وفي حملات التطبيع المبرمجة، وفي تشكل طبقة انتهازية فاسدة تخلت عن قيم الولاء والانتماء، وقبلت طواعية التساوق مع المشاريع الأميركية الإسرائيلية المشبوهة.