ما تزال التعديلات الدستورية التي اقترحتها المجموعة البرلمانية الموالية للرئيس تثير جدلا كبيرا، يتوقع أن يتواصل وأن يزداد إثارة على مدى الأسابيع والشهور القليلة المقبلة. غير أن معظم الكتابات التي تناولت هذا الموضوع ركزت على بعد واحد يتعلق بمدة الولاية الرئاسية، وإتاحة الفرصة للرئيس الحالي للترشح لولايتين أخريين. ولأن هذا البعد وحده قد لا يكون هو الأكثر أهمية وإلحاحا، رغم محوريته، فإن فهم الدوافع والدلالات الحقيقية من وراء طرح هذه التعديلات وفي هذا التوقيت بالذات، يتطلب إلقاء الضوء على أبعاده الأخرى التي تستهدف تحقيق غرضين رئيسيين لا يقلان خطورة أو تأثيرا:
الأول: تأكيد استقلالية المؤسسة العسكرية وتمكينها من الهيمنة على مفاصل الحياة السياسية ككل. فالتعديلات المقترح إدخالها على المادة 200 توسع كثيرا من صلاحيات القوات المسلحة لتشمل، إضافة إلى صلاحياتها التقليدية، «صون وحماية الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات السياسية للدولة ومدنيتها». والتعديلات المقترح إدخالها على المادة 224 تقيد من حق رئيسي الدولة والحكومة في اختيار وزير الدفاع، وتشترط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة أولا على تعيينه. ويتضح من التعديلات المقترح إدخالها على هاتين المادتين أن الهدف الرئيسي منها هو تقليص فرص وصول رئيس مدني إلى السلطة، وضمان خضوعه التام لإرادة وهيمنة المؤسسة العسكرية في حال تمكنه من الوصول إليها، في ظروف خاصة أو استثنائية، بل شرعنة الانقلاب عليه إن هو حاول التملص من تلك الهيمنة.
والثاني: إخضاع السلطة القضائية لإرادة رئيس الدولة من خلال تمكينه من: 1- رئاسة المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية (م 185 ب). 2- اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا من بين أقدم خمسة نواب، وتعيين نائب الرئيس من بين اثنين ترشح الجمعية العمومية أحدهما، وكذلك تعيين رئيس وأعضاء هيئة المفوضين بناء على ترشيح رئيس المحكمة (م 193) 3- تعيين النائب العام من بين ثلاثة يرشحهم مجلس القضاء الأعلى (م 189). 4- تعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية من بين خمسة ترشحهم مجالسهم من بين أقدم سبعة من نوابها» (م 185). أما التعديلات المطلوب إدخالها على نص المادة 190 فتؤدي عمليا إلى تقليص وتقزيم دور مجلس الدولة وتقليص صلاحياته إلى مجرد «الفصل في الدعاوى التأديبية والإفتاء في المسائل القانونية لجهات يحددها القانون»، ومن ثم إلغاء صلاحياته الأساسية في «الفصل في المنازعات الإدارية ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه». ويتضح من مجمل هذه التعديلات أنها تقضي تماما على استقلال السلطة القضائية.
بعبارة أخرى يمكن القول إن التعديلات المقترحة، لا تستهدف معالجة ثغرات تكشفت من خلال تطبيق الدستور الحالي، الذي انتُهكت معظم نصوصه، أو لم تدخل أصلا حيز التنفيذ، بقدر ما تمثل انقلابا كاملا، ليس فقط على مكتسبات ثورتي 25 يناير و30 يونيو»، اللتين تفاخر بهما نصوص الدستور الحالي، وإنما أيضا على تقاليد المؤسسة العسكرية المصرية، التي ترسخت عقب هزيمة 67، وجسدتها فكرة «القيادة من الخلف» بدلا من الإدارة المباشرة لشؤون الدولة والمجتمع. فكيف يمكن فهم وتفسير الدلالة الحقيقية للتعديلات المقترحة؟
الواقع أنه تصعب الإجابة على هذا السؤال بدون وضع التعديلات الدستورية المقترحة ضمن سياق عام، يستهدف استجلاء موقف المؤسسة العسكرية من تطور الأحداث التي راحت تعصف بمصر منذ هبوب رياح ثورة يناير. فمن المعروف أن قيادة هذه المؤسسة كانت تتابع المحاولات الرامية لتوريث السلطة بشعور متزايد من القلق وعدم الارتياح، ليس فقط لأنها كانت تستهدف نقل السلطة إلى شخصية مدنية، ولكن أيضا لأنها تواكبت مع تعاظم النفوذ السياسي للأجهزة الأمنية، من ناحية، ولمجموعة منتقاة من رجال الأعمال الفاسدين، من ناحية أخرى. ورغم أنه يمكن القول بدون تجاوز، إن ثورة يناير أتاحت أمام المؤسسة العسكرية فرصة مرغوبة لإسقاط مشروع التوريث، إلا أن هذه المؤسسة لم تكن مستعدة إطلاقا لدعم مطالبها الخاصة بإسقاط النظام، وهو ما أفسح المجال أمام حل وسط يقضي بتنحي مبارك عن السلطة، الأمر الذي اعتبرته الثورة انتصارا مدويا لها، مقابل تعهد المؤسسة العسكرية بضمان سلامته الشخصية، وعدم المساس بثروته أو الإقدام على محاكمته سياسيا. ولأن إدارة المرحلة الانتقالية جرت في ظل أوضاع ثورية تصعب السيطرة عليها، فقد تعين على المؤسسة العسكرية أن تراعي موازين القوى السياسية على الأرض، ولكن بدون التخلي عن أهدافها النهائية في استعادة النفوذ والسيطرة على كافة مفاصل الدولة، حتى إن تطلّب الأمر عملية متدرجة. وهو ما لم تنتبه إليه قوى الثورة بالقدر الكافي. ويمكن القول إن هذه العملية التدرجية جرت على النحو التالي:
ففي مرحلة أولى: بدت المؤسسة العسكرية مضطرة للتحالف مع جماعة الإخوان، باعتبارها التنظيم الأكثر فاعلية وقدرة على تحريك الجماهير، بهدف عزلها عن بقية القوى الثورية، حتى لو تطلب الأمر خطوة تكتيكية توحي بالاستعداد لاقتسام السلطة معها وفق قاعدة «لكم البرلمان ولنا الرئاسة». غير أن حصول الجماعة منفردة على ما يقرب من نصف مقاعد البرلمان أغراها بالتخلي عن القوى التي فجرت الثورة، والتحالف مع حزب النور الذي حصل وحده على ربع مقاعد البرلمان، ما أدى إلى تفجر صراع علني بين الجماعة المؤسسة العسكرية، خاصة بعد أن لاحت احتمالات فوز مرسي بالمقعد الرئاسي. ولأن الأخير اعتقد أن الصراع حسم نهائيا لصالحه، خاصة بعد تمكنه من إقالة كل من حسين طنطاوي وزير الدفاع، وسامي عنان رئيس الأركان، فقد قرر ترقية اللواء السيسي، مدير المخابرات العسكرية وقتها، إلى رتبة فريق أول وتعيينه وزيرا للدفاع، بدون أن يدرك أنه الرجل الذي كان يعده طنطاوي لخلافته في قيادة المؤسسة العسكرية.
الرصيد الجماهيري للسيسي راح يتبدد بمرور الوقت، لأسباب كثيرة تتصدرها الإجراءات القمعية والتضييق على الحريات
وفي مرحلة تالية: تمكنت المؤسسة العسكرية من استغلال أخطاء فادحة وقعت فيها الجماعة للتقارب هذه المرة، ليس فقط مع القوى المدنية التي تمثلها «جبهة الإنقاذ» التي تشكلت عقب إعلان دستوري ركز كل السلطات في يد مرسي، وإنما أيضا مع قوى سلفية يمثلها حزب النور الذي راح يتهم الجماعة بالعمل على «أخونة الدولة»، ومع قوى الدولة العميقة المرتبطة بالأجهزة الأمنية، التي بدت على أهبة الاستعداد للمساهمة في تحريك الشارع ضد حكم الجماعة، وهو السياق الذي ساعد على ظهور حركة «تمرد» ومهد لاندلاع انتفاضة 30 يونيو، التي عكست مطالب ومصالح كافة القوى المناهضة للجماعة، رغم اختلاف دوافعها. ويلاحظ هنا أن المؤسسة العسكرية، التي كانت قد تمكنت في المرحلة الأولى من استغلال التناقضات التي اندلعت بين قوى وحدتها الرغبة في إسقاط مبارك، نجحت في المرحلة الثانية في استغلال التناقضات التي اندلعت بين قوى وحدتها الرغبة في إسقاط حكم الجماعة، رغم اختلاف الدوافع في الحالتين.
لم تشعر المؤسسة العسكرية بأنها حققت أهدافها كاملة لمجرد نجاحها في إسقاط حكم الجماعة، وتظاهرت باضطرارها للتدخل لدعم الإرادة الشعبية الرافضة لحكم الإخوان، أملا في نفي شبهة القيام بانقلاب عسكري على حكومة منتخبة، الأمر الذي دفعها لإعلان خريطة طريق توحي بأنها ستكتفي بحماية ودعم الجهود الرامية لإقامة ديمقراطية حقيقية بعيدا عن خطر «الفاشية الدينية». ولأنها لم تكن في وضع يسمح لها بتصدر المشهد السياسي، فقد فضلت إدارة المرحلة الانتقالية الثالثة من وراء ستار، وقامت بإسناد رئاسة الدولة إلى المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية، واختارت البرادعي نائبا له وممثلا لجبهة الإنقاذ، وتعيين حازم الببلاوي رئيسا للحكومة. كان هذا هو السياق الذي تولت فيه لجنة الخمسين برئاسة عمرو موسى صياغة الدستور الحالي، الذي عكس بطريقة أو بأخرى طموحات تيار لعب دورا حاسما فجّر انتفاضة 30 يونيو، وهو التيار الذي تخفت وراءه كافة القوى المعادية لثورة يناير، والمدعومة من بقايا نظام مبارك الذي اسقطت الثورة رأسه لكن جذوره كانت ما تزال حية. وقد استمر الحال على هذا المنوال إلى أن قرر السيسي ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية، فدخلت البلاد في مرحلة كليا.
كان بوسع السيسي في بداية هذه المرحلة تبرير قراره بالترشح، رغم مخاوف متصاعدة من احتمال عودة المؤسسة العسكرية للهيمنة المباشرة على مقدرات البلاد، بوجود مخاطر تستدعي قيادتة المباشرة للسلطة التنفيذية في مرحلة حرجة، نظرا للشعبية الكبيرة التي تمتع بها من جانب قطاعات واسعة تخشى عودة الإخوان، الأمر الذي ساعد على تقبل الجبهة الداخلية إجمالا لنتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها بأغلبية ساحقة، رغم أنها بدت أقرب إلى الاستفتاء منها إلى الانتخابات الفعلية. غير أن الرصيد الجماهيري للسيسي راح يتبدد بمرور الوقت، لأسباب كثيرة تتصدرها الإجراءات القمعية والتضييق على الحريات، إلى أن وصل إلى نقطة حرجة قبيل إقدامه على إعلان نيته للترشح لفترة ولاية ثانية، خاصة حين بدا مصرا على استبعاد كافة المرشحين القادرين على منافسته جديا. فقد تولت أجهزته الأمنية إجبار الفريق أحمد شفيق على سحب ترشحه عقب اعتقاله، ولم تتردد بالزج بالفريق سامي عنان في غياهب السجن، لتخلو ساحة السباق الانتخابي إلا من مرشح وحيد لا يعرفه أحد قامت بانتقائه بنفسها. وحين وصلت الأمور إلى هذا الحد تبدد كل أمل في حدوث أي تحول ديمقراطي حقيقي. وجاءت التعديلات الدستورية المقترحة حاليا لتؤكد من جديد أن مصر تخضع لحكم عسكري صارم لا مكان فيه لتعددية حقيقية ولا اعتراف بالرأي الآخر المختلف.
فهل نتوقع والحال هكذا أن يوافق الشعب المصري على تعديلات دستورية من هذا النوع في استفتاء عام؟ هذا ما سنناقشه في مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله.
القدس العربي