دفعت رسالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى شعبه يوم الأحد الماضي إلى استقالة المذيعة التي أجبرت على تقديمها فيما ردّ عليها الطلبة والمحامون والمحاربون القدماء وطيف سياسيّ عريض بالاستنكار والرفض والتظاهر في شوارع العاصمة ومدن أخرى.
ولو أن الرسالة قرئت في ظروف أخرى فلربما كانت الردود عليها ستختلف.
من هذه الظروف، مثلا، أن يكون الرئيس قادراً على تسليم معاملة ترشحه بنفسه وليس عبر مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان، أو أن يكون موجوداً في بلاده وليس في مشفى سويسري فيما الأنباء تترى من هناك بأن حياته مهددة بشكل دائم وأنه بحاجة لعناية طبية مستمرة، أو (وهذا أبسط الأمور): أن يكون قادرا فعلاً على كتابة الرسالة التي أذيعت على الملأ ووعدت تلك التعهدات العتيدة التي لم يقدم عليها أي زعيم عربيّ آخر.
لا نعلم إن كان بوتفليقة قادرا الآن على تذكر خطاب قسمه لعام 2014 (الذي وزع على العموم لأن الرئيس لم يستطع حينها الحديث إلا لدقيقتين فحسب) والذي قال فيه: «إنني لما استجبت لنداءاتكم الكثيرة التي دعتني للترشح، أصبحت مدينا لكم كذلك بتعهدات والتزامات»، ومن تلك التعهدات التي سيقوم الرئيس بالعودة إلى كل منها بالتفصيل، كما قال: «فتح ورشة الإصلاحات السياسية التي ستفضي إلى مراجعة الدستور»، وأن القوى السياسية ستدعى، وكذلك منظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية، للعمل على «الفصل بين السلطات وتدعيم استقلالية القضاء ودور البرلمان وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها وضمان المزيد من حقوق وحريات المواطنين»، وأنه سيسهر «على مواصلة التنمية وبناء اقتصاد متنوع»، ودعم «العدالة الاجتماعية» الخ… مؤكدا أن هذا البرنامج هو «التزام مقدس مني تجاهكم».
تحمل نسخة العام 2019 من تعهدات بوتفليقة بعض ملامح تعهدات نسخة عام 2014، ومنها «الندوة الوطنية» و«مراجعة الدستور»، وتطبيق سياسات «العدالة الاجتماعية»، ومناهضة أشكال الفساد والرشوة، ولكنّها تحمل أيضاً جرعة أعلى من المبالغة وصلت إلى التعهد بنظام ودستور جديدين، وكذلك وعدا بأن هذه هي آخر مرة يترشح (ويفوز) فيها بالانتخابات من دون تحديد زمن محدد يقوم فيه بالتنحّي (فيما تبرع مدير حملته باقتراح فترة سنة كاملة من موعد انتخابه الجديد).
لا عجب إذن من الجزائريين، على اختلاف توجهاتهم، لم «يقبضوا» التعهدات الجديدة (التي تعتبر «ثورية» بمقاييس توقعات الشعوب العربية من خطابات رؤسائها الطغاة والغائص أغلبهم في دماء مواطنيهم)، فلو أن الرئيس يدرك حقاً أهمّية تلك الوعود التي قطعها خلال 20 سنة من حكمه، فلماذا لم ينفذها في الوقت الذي كان فيه قادرا صحيّا وعقلياً على ذلك، وكيف يمكنه، وهو الآن في مشفى سويسري وحال صحية حرجة يعاني مشاكل عصبية وتنفسية تحتاج رعاية طبية مستمرة أن يقوم بتلك المهام الجبارة كـ»تغيير النظام» والدستور وإدارة ندوة وطنية شاملة ومحاربة الفساد؟
والحقيقة أننا لو أردنا أن نعرف ماذا يريد «النظام» (الذي كتب رسالة التعهدات) فعلاً فعلينا أن نسمع صوت أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش منذ عام 2004 (وهو أيضا وزير الدفاع منذ عام 2013) الذي هدد الشعب ضمنياً بإعادة «سنوات الألم والجمر»، ومفيد هنا إيراد كيف فهمت بعض القوى السياسية الجزائرية، التهديد، ومن ذلك ردّ عبد الرزاق مقري، رئيس «حركة مجتمع السلم»، الذي قال إن ما يهدد استقرار البلد «هو الفساد الكبير الذي حول الدولة إلى عائلات مافيوية متصارعة على نهب خيرات البلد، تتوارث الفساد من الأب إلى الابن إلى الحفيد، وجميع أجنحة السلطة في كل المؤسسات دون استثناء متورطة فيه».