كانت وفاة الرئيس الجزائري الأسبق هوّاري بومدين في ديسمبر/كانون الأول 1978م دون نائب يخلُفه -وهو ما حرص عليه طوال حكمه- قد أشعل الصراع على خلافته بين رجال الحزب الحاكم بزعامة محمد صالح يحياوي وبين رجل الدبلوماسية الأول عبد العزيز بوتفليقة، ليتدخل الجيش بدوره في هذا الصراع مرشحا واحدا من قدامى رجاله وهو الشاذلي بن جديد، وقد نص دستور 1976 على ضرورة اختيار رئيس الجمهورية من قِبل جبهة التحرير الوطني حصرا. وبالفعل، ارتقى الشاذلي بن جديد أمينا عاما لحزب جبهة التحرير، بما يعني أنه المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية لا سيما مع ثقله العسكري[1]، الأمر الذي أسفر في نهاية المطاف عن تقلده لمنصب رئيس الجزائر في 9 فبراير/شباط 1979م.
رغم ذلك، ظل الصراع قائما بين اتجاهين، أولهما يطالب بدعم جهاز الدولة واختيار المسؤولين من بين أعضاء المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير وعلى رأسهم عبد العزيز بوتفليقة، والاتجاه الآخر انصبّت دعواه في التركيز على دعم جهاز الحزب على حساب جهاز الدولة وذلك عن طريق تفرّغ المكتب السياسي للمهام الحزبية فقط وكان على رأس هؤلاء محمد صالح يحياوي[2].
استغل الرئيس/العسكري الشاذلي بن جديد هذا الصراع لصالحه حين شرع في بسط نفوذه وتقوية مركزه، ولم يمر عامان على تقلّده لرئاسة الدولة إلا وتركزت في يديه وظائف وزير الدفاع الوطني والرئيس الأعلى للقوات المسلحة والأمين العام للحزب، واتجه بن جديد إلى ما هو أعمق وأبعد من ذلك حين طالب بإعادة تقييم التجربة السياسية وضرورة إحداث تغيير سياسي واقتصادي في البلاد التي سارت على وتيرة واحدة غير تعددية منذ الاستقلال، لكن هذه المطالبات واجهها رجال هواري بومدين[3] وكانوا أكثر نفوذا وعددا في دولاب الدولة ومناصبها المفصلية.
الشاذلي بن جديد الرئيس العسكري الثالث للجزائر (1979- 1992م) (مواقع التواصل)
تزامنت حالة الصراع الداخلي بين مراكز القوى في الدولة مع انهيار سعر البترول بصورة حادة، الأمر الذي حمل آثارا قاسية على واقع الجزائريين المعيشي، وتفاقمت معه أزمة السكن والبطالة في بلد كان يستورد معظم ما يأكل ويلبس، وزادت الأسعار بطريقة جنونية لم يستطع فقراء الجزائر مجاراتها، وليصل الحال باتجاه عجز الجزائر حينذاك عن دفع فوائد ديونها للمؤسسات والبنوك الدولية.
شعر الشاذلي بأنه ضعيف الجانب أمام كبار رجالات حزب جبهة التحرير ممن وقفوا عائقا أمام أي تغيير لميراث بومدين في مفاصل الدولة، وكانوا في الحقيقة أكبر المنتفعين بهذا الجمود السياسي والاقتصادي على المستوى الشخصي، وقد تكتلوا ضده على الدوام في اجتماعات اللجنة المركزية للحزب ضد الانفتاح السياسي والاقتصادي في البلاد، وإزاء هذا الانسداد خرج الرجل في لقائه الشهير في سبتمبر/أيلول 1988م يعلن عن ضرورة إجراء هذه الإصلاحات في جسد النظام[4]، وكان هذا اللقاء بمنزلة الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات.
والحق أن العلاقة بين السلطة والمجتمع أثناء تلك الحقبة لم تكن تستند إلى عقلانية الحقوق والواجبات كما يشير المراقبون والباحثون، أي إلى منطق التكافؤ، وإنما إلى قهر في مختلف أشكاله وأبشع صوره، فقد أدت الممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطويلة والجامدة إلى استنزاف جهاز الدولة وإلى اهتزاز رمز هذه الدولة في الخيال الشعبي، كما يعود هذا الاهتزاز إلى عمق الفجوة بين المعايير الثورية التي كان يتبنّاها الخطاب السياسي وتعلنها الوثائق الرسمية وبين آثارها التي لم يجد المواطن الجزائري لها على أرض الواقع أي دليل.
ومثلما يقول المنصف ونّاس، فإن الدولة الوطنية التي طالما حلم بها الجزائريون لم تكن تلك المعجزة المنتظرة، ربما كانت أقل حتى من الطموح الشعبي، فنموذج هذه الدولة التي تولّدت من ثورات الجزائريين وتضحياتهم كان زهيدا ومخيبا للآمال بسبب ما صحبه من سلوكيات بالغة القسوة والفظاظة[5]، وسرعان ما جاء الاستبداد من جديد، من الثورة إلى الدولة!
اهتم الحزب الحاكم في الجزائر بعد الاستقلال لفترة طويلة بتسيير تناقضاته الداخلية، وتشديد قبضته على هياكل الدولة من أجل استمرار سلسلة المنافع، ليترتب وفق ذلك اهتراء مزدوج؛ لأنه شمل في الوقت نفسه النخب السياسية والمثقفة، ودواليب جهاز الحكم، الأمر الذي أثّر سلبا في مشروعية “الدولة الوطنية” فضلا عن تقبّل الجماهير لمشاريعها التحديثية، هذه العناصر مجتمعة ساعدت على قيام حالة الانفجار الشعبي يومي 5 و6 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وعودة الصراع بين الدولة والمجتمع المدني في الجزائر، وقد كان هذا الانفجار المدوّي علامة أكيدة على حجم الكبت المتراكم[6].
انتفاضة الجزائر في 5، 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1988م كانت ربيعا جزائريا مبكرا (مواقع التواصل)
لذلك؛ مثّلت انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988م ثورة الشباب الذي لم يعد قادرا على العيش في كنف الحزب الواحد الذي استولى على السلطة واستأثر بها، فكانت “ربيعا جزائريا” مبكرا أدرك مجيئه الشاذلي بن جديد قبل حدوثه، وألقى بظلاله على حزب جبهة التحرير التي أُجبرت على الإصلاحات السياسية وعلى رأسها تغيير الدستور الذي سمح في مادته الأربعين بالتعددية السياسية والحزبية في الجزائر لأول مرة منذ استقلال البلاد عن المحتل الفرنسي.
الإسلاميون.. من الإقصاء إلى الظهور!
أفرزت تلك الحرية التي أقرها دستور 1989م في الجزائر ظهور التعددية السياسية، وأصبح في الجزائر لأول مرة 60 حزبا، كان الأكثر بروزا وانتصارا في كل ذلك، ظهور التيار الإسلامي على سطح الحياة السياسية، متمثلا في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” التي أُنشئت في مارس/آذار 1989م وتم الموافقة رسميا عليها من قِبل الدولة الجزائرية في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج، وهذا الأخير كان صاحب جماهيرية عريضة وحضور كاريزمي أسهم في رفع شعبية الجبهة في كامل الولايات الجزائرية.
كان من اللافت أن الرئيس الشاذلي بن جديد استقبل زعماء هذه الحركة بُعيد انتفاضة 1988م، رغبة منه في امتصاص الغضب المكتوم، وسمح الشاذلي، احتراما منه لإفرازات الديمقراطية، بالحرية الكاملة والتامة للتيار الإسلامي، وعلى رأسه “الجبهة الإسلامية”، في التمدد والانتشار في البلاد، حتى إنه اتُّهم من قِبل الاشتراكيين والعسكر وغيرهم من منافسي الإسلاميين التقليديين بالجهل والتغاضي عن خطورة الجبهة وسعيها للسلطة.
لم يأبه الشاذلي لكل هذه الأصوات، والتزم بالديمقراطية ومواعيد الانتخابات بعد إنهاء الإضراب من قِبل الجبهة وانسحاب الجيش بسبب خلافات وتعنتات بين الطرفين، وفي 12 يونيو/حزيران 1990م أُجريت الانتخابات البلدية المحلية في عموم البلاد، ليحقق التيار الإسلامي فيها حضورا وفوزا كبيرا. تزامن ذلك مع تصاعد وتيرة العنف التي قادتها قوات الأمن ضد الإسلاميين، الأمر الذي اضطر هذا التيار وعلى رأسه “جبهة الإنقاذ” إلى القيام بمظاهرات واحتجاجات عارمة في طول البلاد، فضلا عن رفضهم التقسيم الإداري الجديد الذي رأوا فيه محاولات لعرقلة النفوذ والتضييق؛ لتدعوا الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام في مايو/أيار من العام التالي 1991م، وفي الخامس من يونيو/حزيران أعلن الشاذلي بن جديد الأحكام العُرفية في البلاد، ليُعتقل معها عباسي مدني وعلي بلحاج.
ووفق قراءات تاريخية، يبدو أن قرار الشاذلي بن جديد كان بإيعاز وضغط من الجيش الذي كان يعارض صعود الإسلاميين بصورة علنية في أوقات كثيرة قبل الانتخابات التشريعية، معاداة تجسّدت ذروتها حين أعلن المدير العام لوزارة الدفاع الجنرال مصطفى شلوفي في بداية فبراير/شباط 1990م اتهامه لجبهة الإنقاذ صراحة بمحاولاتها الاستفادة من الديمقراطية لفرض نفسها، وذكر بأن الجيش حارس الدستور والحريات العامة، كما رفض الخلط بين الديمقراطية والفوضى، لترد الجبهة عبر مجلة “المنقذ”، ذراعها الإعلامي آنذاك، داعية الشعب إلى الحذر من التهديدات العسكرية، ليرد الجيش عبر وسائله بأن الدستور أعطاه حق التدخل لحماية الحريات العامة، كما أصدرت قيادة الجيش في أبريل/نيسان 1990م أمرا يقضي بمنع اللحية والحجاب في المستشفى العسكري بالعاصمة، ولتهدد الجبهة من ناحيتها بحمل السلاح، إلا أن المراشقة الكلامية لم يصحبها مواجهة مباشرة[7]، لتهدأ الأوضاع وتجري الانتخابات البلدية أخيرا والتي أفضت إلى فوز الجبهة الإسلامية، وهو ما اعتُبر بداية طريقها الممهّد نحو السلطة.
وبالرغم من تأجيل الاستحقاق الانتخابي الأهم ممثلا في الانتخابات التشريعية لستة أشهر، وفرض الأحكام العرفية، واعتقال بلحاج ومدني، فقد عُقدت أخيرا الجولة الأولى في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991م، وكانت تلك الانتخابات بشهادة المعاصرين أول انتخابات حرة نزيهة في تاريخ الجزائر، والتي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية بـ 188 مقعدا في المجلس التشريعي فيما لم تفز جبهة التحرير سوى بـ 16 مقعدا، لتُشكِّل هذه النتيجة صاعقة على الرئيس بن جديد وحزب الجبهة فضلا عن الجيش والمؤسسات الأمنية التي كانت على رأس الرافضين لهذا التيار منذ بدايات صعوده فيما عُرف حينها بزمن “الصحوة” منذ أوائل الثمانينيات[8]، لكن اختلاف رجالات السلطة وانقساماتهم الداخلية، والأزمات الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد، أعأعادت ترتيب أولوياتهم بالتزامن مع صعود الإسلاميين الذين كانوا يتوغلون في بنى المجتمع المدني في جامعاته وجمعياته ومدارسه وغير ذلك.
ابن باديس والبشير الإبراهيمي.. البداية
الواقع أن التيار الإسلامي والعُلمائي كان متوغلا ومتعمقا في الجزائر منذ ما قبل الاستقلال؛ فقد واجه المحتل الفرنسي بشراسة عبر “جمعية العُلماء المسلمين الجزائريين” التي أسّسها العلامة والمناضل عبد الحميد بن باديس ومعه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وآخرون من كبار علماء الجزائر، والذين أشعلوا الثورة والنضال، وأنشأوا المجلات للوصول إلى شرائح الجزائريين في كافة بلدانهم، والتي كانت مجلة “البصائر” على الرأس منها، لتكون صوتا صادحا في مواجهة المستعمر الفرنسي، ناشرين من خلالها أفكارهم، وعلى رأسها تحريض الجزائريين على تعلم اللغة العربية في مواجهة الاحتلال الثقافي الفرنسي والفرنسة التي كانت قد نخرت في العقل الجزائري، وقد مثّلت وفاة الشيخ ابن باديس سنة 1940م واعتقال رفيقه الشيخ الإبراهيمي كابحا لتنامي تصاعد تأثير العلماء المسلمين في الجزائرأثير الإس.
على أن اعتقال الإبراهيمي لم يدم طويلا، ليفرج عنه عام 1943م، وليتولى حينها قيادة الحركة الدينية والثقافية في الجزائر بعد وفاة رفيقه ابن باديس، إفراج قاد الشيخ الإبراهيمي لتعزيز دوره في إنشاء المدارس والمساجد وإلقاء المحاضرات والمؤتمرات، ونشر الوعي الديني، وترسيخ معاني العروبة والإسلام، بالإضافة إلى مواجهة المحتل رغم ما يحمله هذا المسار من تكاليف باهظة، حيث اعتُقل مرة أخرى بعد أحداث مايو/أيار 1945م، ليلجأ بعدها إلى مصر منذ سنة 1952م مستقرا بها، داعيا منها إلى الجهاد المسلح ضد المستعمر حين انطلقت الثورة في 1954م، وكان واسطة لدى الدول الإسلامية لاستقبال الطلبة الجزائريين، حتى عاد إلى وطنه بعد الاستقلال سنة 1962م، وألقى خطبته الشهيرة في مسجد “كتشاوه” الذي كان الفرنسيون قد حوّلوه إلى كنيسة[9]!
ما لبث الشيخ أن حطّ رحاله في الجزائر في سنواته الأخيرة، مع شيخوخة ومرض لازمه، إلا ورأى اتجاه جبهة التحرير الوطني إلى التمسك بالاشتراكية والتقدمية وبعض أعضائها كانوا يؤمنون بالشيوعية أيضا، فأصدر بيانه الشهير سنة 1964م وكان مما جاء فيه منتقدا هؤلاء الساسة الجُدد: إن “المسؤولين -في ما يبدو- لا يُدركون أن شعبنا يطمحُ قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعثَ من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية”[10].
لم يهتم أحد بما ألقاه كبير علماء الجزائر، ورجل الدين الأول بها، حتى وافته المنية في العام التالي في 20 مايو/أيار 1965م، وفي الواقع، فقد رفض هواري بومدين إدخال الأفكار الإسلامية إلى مشروعه السياسي، وكان حذرا حيال الحركة الإسلامية التي نجح في تطويقها وشلّها. حاول بومدين، الذي كان يعلم حقيقة مدى تشبث الشعب الجزائري بالإسلام، أن يعوّض من الفصل بين الدين والسياسة بالضوء الأخضر الذي أُعطي لوزارة التربية لإدخال الدين في البرامج المدرسية وبالنص في دستور عام 1976م على المبدأ القائل “إن الإسلام دين الدولة”.
وفي ظل إسلام رسمي فقد هيبته في اطّراد مستمر كما يشير عبد الحميد البراهيمي أحد شهود العيان على تلك الحقبة، قويت شوكة إسلام معارض، لا يضيق بالتقاليد، وإنما يأخذُ منها بالحد الأدنى، وفيما تبقّى فإنه يتعامل وفقا لتأويلاته الخاصّة، وكان رائد النزعة الإسلامية في جزائر الستينيات والسبعينيات الفيلسوف والمفكر مالك بن نبي، كما كان مسجد الكلية الرئيسية بجامعة الجزائر منذ العام 1968م ملتقى العديد من زعماء الحركة الإسلامية في المستقبل، وفي عام 1973م وقع أول حادث صدام بين الطلبة الإسلاميين والطلبة اليساريين على إثر حريق في مسجد الكلية[11]، ومنذ تلك اللحظة صعد تيار الإسلاميين بمختلف تشكلاته من الإخوان والسلفيين على سطح المجتمع الجزائري، وعلى مدار عقدين كاملين (1968-1988م) ظل هذا التيار يعمل بجد للانتشار في المجال العام حتى حانت لحظة الثمرة.
تلك اللحظة التي جاءت مع انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988م، وما تمخّض عنها من صعود الإسلاميين السياسي، والهزيمة المفاجئة للرئيس الشاذلي بن جديد وحزب جبهة التحرير في الانتخابات التشريعية، ومن خلفهم العسكر الذي مثّل على الدوام اليد الطولى في الدولة وفي تشكيل نظامها السياسي، الأمر الذي عجّل بالانقلاب العسكري بقيادة وزير الدفاع خالد نزار ومجلسه السري قطعا للطريق، ورفضا لاستلام “جبهة الإنقاذ الإسلامية” لمقاليد الحكم في الجزائر، التي وصفها الجيش في بيان انقلابه بالحزب التكفيري والمتطرف، وهكذا نجح الانقلاب في يناير/كانون الثاني 1992م. لم يقبل الإسلاميون هذا القرار الذي اعتبروه قضاء على تجربتهم وأحلامهم واستحقاقاتهم التي أخذوها بالديمقراطية، فانتفضوا في طول البلاد وعرضها، ودعا قسم كبير منهم إلى مواجهة النظام بصورة مسلحة، لتدخل الجزائر في نفق مظلم وهو ما اصطلح على تسميته بـ”العشرية السوداء”، عشر سنوات من القتال والدم والحرب الأهلية.
من الديمقراطية إلى العمل المسلح
أصيب الإسلاميون الجزائريون بصدمة ثقيلة مع وأد تجربتهم الديمقراطية الوليدة والوحيدة والتي سمحت لهم عبر التعددية السياسية إلى الصعود على سطح الحياة السياسية، والتطلع إلى حكم الجزائر، بيد أن الانقلاب العسكري كان السبب الرئيسي في تقوية نفوذ جناح المعتنقين للعمل المسلح داخل التيار الإسلامي في الجزائر على حساب تيار التعايش مع الواقع، ومحاولة الإفادة من المتاح، وتبني أفكار التعددية والديمقراطية والتغيير السلمي والذي كان قد اعتُقل عُقيب الانقلاب مباشرة.
كانت حركة “الإنقاذ” تميل في أغلبها إلى التعايش والاستفادة من الواقع، وترى في العمل المسلح خطرا شديدا، ورغم انخراط كثير من عناصرها بعد ذلك في العمليات العسكرية في فترة العشرية السوداء، فإنه على الجانب الآخر ظهرت عدة حركات إسلامية تبنت المواجهة المسلحة، مثل “الجيش الإسلامي للإنقاذ” والذي ينفي عباسي مدني زعيم الجماعة بأنه أُنشئ بعلم الجماعة لوقوع رؤسائها في السجن[12]، وظهرت أيضا “الحركة الإسلامية المسلحة” التي رفضت تلك الحلول السلمية باعتبارها تهاونا مع “المرتدين” وهم في نظرهم الحكام ورجال السلطة في العالم العربي.
انخرطت الحركة المسلحة في مواجهة قوات الأمن والجيش الجزائري بقيادة عبد القادر شبوطي الشاب الذي كان في منتصف الثلاثينيات من عمره، والذي عُرف باسم “اللواء” بسبب قدراته العسكرية النشطة، وكان من أبرز رجالات حركة مصطفى بويعلي، واستطاع قيادة الحركة المسلحة بعد انقلاب يناير/كانون الثاني 1992م.
لعب شبوطي على عاملي المواجهة المسلحة والحرب الإعلامية أمام قوى الأمن، فأصدر مناشير كانت تعلق في المساجد وعلى جدران الشوارع، وقد تمكّنت هذه الحركة لاحقا من إنشاء إذاعة الوفاء التي كانت أهم أداة إعلامية لتعبئة الجزائريين ضد النظام القائم حينذاك، وكانت تحرص على بث آخر أخبار الاشتباكات العسكرية بين الجانبين، وكانت أبرز عملياتها آنذاك تفجير مقر رياض الفتح، ووضع قنبلة في مقر التلفزيون الجزائري، ووضع قنابل تقليدية في السفارة الأميركية في الجزائر، ومئات القنابل في مخافر الشرطة والدرك الوطني، والهجوم على ثكنات ومخافر قوات الأمن والاستيلاء على أسلحتها[13].
وزاد نشاط الحركة، فشرعت في اغتيال شخصيات سياسية كمحاولة اغتيال وزير العمل، والأمين العام لاتحاد العمال الجزائريين عبد الحق بن حمودة، بل ومحاولة اغتيال وزير الدفاع، والرجل الأقوى في الجزائر آنذاك الجنرال خالد نزار في منطقة تليملي، وتهديد كل المسؤولين الرسميين بالملاحقة والاغتيال، واستطاعوا بحسب البيانات الرسمية قتل ما يزيد على 300 عنصر من رجال الأمن والدرك[14].
على أن “الجماعة الإسلامية المسلحة” دخلت منعطفا أشد خطورة وتشددا حين ارتقى أبو طلحة عنتر الزوابري لإمارة الجماعة في صيف عام 1996م، فبعد تثبيت موقعه في زعامة الجماعة؛ شرع في حملة بالغة الصرامة كان هدفها فرض رؤيته “للدولة الإسلامية” التي يسعى إلى تحقيقها على الشعب الجزائري بالقوة، وكانت تلك المحاولة وما صاحبها من تحريم وتحليل، وتبديع وتفسيق، وتكفير وتأثيم، المؤشر الأبرز على أن “الجماعة المسلحة” كانت تتجه لا محالة نحو سياسة تكفيرية مستقبلا، وأعلنت الجماعة في بيانها الأول تحت قيادة الزوابري الحرب على الخصخصة في الجزائر بهدف الخناق الاقتصادي على النظام الحاكم.
وقال الزوابري في باكورة قراراته باعتباره “أمير المؤمنين في الديار الإسلامية في الجزائر”، و”ولي أمر” المسلمين إنه يعتبر كل العقود والصفقات التي تُبرم مع النظام الحاكم باطلة وغير شرعية، وأكد الزوابري إصراره على مواجهة كل من يعمل لصالح “النظام”، ودافع عن قرارات أصدرها سلفه زيتوني مثل قرار إهدار دم عمال قطاع المحروقات مثل سوناطراك ونفطال[15].
وذهب الزوابري وجماعته المسلحة إلى أبعد من ذلك حيث أعلن أن جماعته ستنفّذ حُكم القتل في كل من يرفض تطبيق فرضي الصلاة والزكاة، وقرر منع خروج النساء من منازلهن إلا إذا ارتدين اللباس الشرعي الإسلامي، ودعوة عموم الناس في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة إلى “السمع والطاعة لأميرها؛ لأنه هو الولي الشرعي لهم، يقوم بمهام الخليفة الشرعية والقضائية والسياسية والعسكرية وغيرها حتى يُنصّب إمام للمسلمين إن شاء الله”[16].
وبالفعل تورطت الجماعة المسلحة الإسلامية في دماء الجزائريين في خلال عام 1997، وهو عام المجازر الكبيرة في العشرية السوداء، حيث أصدرت الجماعة في فبراير/شباط بيانا أعلنت فيه مسؤوليتها عن مذبحة وقعت في بلدية حمام ملوان في منطقة بوقرة في العاشر من ذلك الشهر بحجة أن هذه المدينة السياحية كانت معروفة بعداء أهلها الشديد لله ورسوله وللمؤمنين وانتشار مليشيات “المرتدين” ومراكز الجيش المتفرقة بها[17].
وأخيرا في سبتمبر/أيلول 1997م صدر بيان عنتر الزوابري الذي أقرّ فيه بمسؤوليته عن المذابح التي وقعت في 30 أغسطس/آب من ذلك العام في الرايس في منطقة سيدي موسى قرب العاصمة، والتي قُتل فيها ما بين 200 إلى 300 جزائري، وتلتها مذبحة بني مسوس والتي سقط فيها 80 شخصا، ثم المذبحة الأفجع في حي بن طلحة جنوب العاصمة الجزائر.
خرج الزوابري ببيانه الشهير “صد اللئام عن حوزة الإسلام” مُعلنا تبنيه لتلك لمذابح، وتكفير الشعب الجزائري علانية، فقد جاء فيه أن “الكفر بالطاغوت يستوجب البراءة من أتباعه وعبدته والكفر بهم وبدينهم، وهذه الجماعة الربانية… كما تفكر بالطواغيت جميعا فإنها تكفر أيضا بأهلهم وأتباعهم وكل من نصرهم أو والاهم، ولذلك تجدها تتبع آثار هؤلاء الموالين للمرتدين في المدائن والقرى والصحاري تستأصل شأفهم، وتبيد خضراءهم، وتغنم أموالهم، وتسبي نساءهم ليذوقوا وبال أمرهم”[18].
القتل والدم في عيون ثلاثة من الشهود!
كانت تجربة الحركة الإسلامية المسلحة، وانتهاجها للعنف والتكفير ضد أطياف الشعب الجزائري الأعزل، سببا للتساؤل، هل كان هذا التطرف والتكفير نابعا من أدبيات الحركة، وإيمانها بما تقول، أم أن ثمة اختراقات أمنية حدثت بين صفوف الجماعة، لخلط الأوراق، وتدمير شعبيتها، أو لإطالة أمد الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية في البلاد؟ تلك بعض من الأسئلة التي أُثيرت حول حقبة العشرية السوداء، تلك العشرية التي وُصفت في بعض الصحف الأوروبية بأنها “حرب أهلية جزائرية”، ولعل كتاب الضابط السابق في الجيش الجزائري الحبيب سويدية “الحرب القذرة” كشف لنا تفاصيل مذهلة عما جرى حينذاك، وهو كتاب يُلقي باللائمة على أجهزة الأمن والمخابرات التي دخلت بثقلها في هذه الأزمة، وتورطت في بعض المجازر لخلط الأوراق، ولتحقيق المكاسب.
وما كادت رواية سويدية تنتشر بين الناس وتلقى قبولا كبيرا وصدى واسعا إلا ورأينا كتابا آخر يؤكد ما ذهب إليه سويدية بضلوع الجيش في استغلال العنف لصالحه، بل وإشعاله من وقت لآخر، وقتل الأبرياء دون وجه حق كمسوّغ لاستمرار حربه وانقلابه ووجود نظامه السياسي، تلك هي شهادة نصر الله يُوس في كتابه المثير “مَن قتل في بن طلحة” تلك المجزرة التي وقعت في العام 1997م والتي راح ضحيتها عشرات من الجزائريين الأبرياء. ثم أخيرا شهادة ضابط المخابرات الجزائري الأسبق محمد سمراوي في كتابه “الإسلاميون والعسكر، سنوات الدم في الجزائر” وهو الضابط الذي عاين الأحداث، وكان شاهدا على صُنع القرار على يد الجنرالات والعسكر في مطابخ المخابرات بعيدا عن أعين الناس والإعلام، ولم يقدر سمراوي على تحمل ما شاهده من فظائع وجرائم في السنوات الأربع الأولى من الأحداث بحسب روايته، ليقدم استقالته في العام 1996م، وقد تبعه سويدية الذي هرب من الجيش إلى فرنسا في العام 2000م.
يخلص سويدية في كتابه بهذه الشهادة قائلا: “ما يهم الإشارة إليه فيما وراء هذه الأهوال هو أن هذه الحرب القذرة كانت -ولا تزال- حرب مناورات وألاعيب ملتوية، ملوك هذا الميدان هم عناصر الاستخبارات بقيادة سماعين العماري، ولقد رويتُ كيف كان أولئك الرجال عديمو الذمة قادرين على أي شيء، ولم يلبثوا أن استخدموا طرائق أكثر تعقيدا، بالتلاعب في الخفاء بمقاتلين إسلاميين حقيقيين أو بإنشاء جماعات مقاتلين مزيفين خرجوا مباشرة من ثكنات مديرية الاستخبارات الأمنية. كان الهدف هو مضاعفة العنف ضد المدنيين، والإساءة إلى سمعة جميع المعارضين الإسلاميين، مسلّحين وغير مسلحين”.
ويؤكد سويّدية كلامه هذا بعشرات الدلائل التي ساقها، والتي كان شاهدا عليها أو التي ذكرها له شهود عيان، فعلى سبيل المثال، يروي له زميل من مديرية الاستخبارات عن حادثة وقعت في مايو/أيار 1994م، حيث اختطفت جماعة إرهابية عضوا بارزا وإماما في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يُدعى علي آيت، “اختُطف في العاصمة من قِبل جماعة إرهابية قبل أن يتمكن من الهرب، روى بعدها بأن هؤلاء الرجال الملتحين والذين يرتدون الزي الأفغاني أخذوه إلى شقة مزدانة بالسيوف، والأعلام الصغيرة المغطّاة بالشعارات الإسلامية، ثم جلبوا ستة مدنيين ذُبحوا واحدا بعد الآخر أمامه، وكلّما قدّموا له واحدا من أولئك الرجال، طلبوا منه النطق بفتوى تُجيز لهم قتله، الأمر الذي رفضه الإمام.. روى لي ذاك الملازم بأن أولئك (الإرهابيين) هم في الحقيقة عملاء لمديرية الاستخبارات الأمنية، وما فعلوه كان عملية إفساد مخصّصة للتداول الإعلامي هدفها إفقادُ الإسلاميين سُمعتهم”[19].
يؤكد محمد سمراوي ضابط المخابرات الجزائري تلك الروايات، ويأتي بما هو أفظع وأدق من ذلك وهو الأقرب لمطبخ صنع المؤامرات، حين يقول: “كنّا نعيشُ في جوّ هستيري دموي، يُدلل عليه تصريح كاشف للعقيد إسماعيل العماري (رئيس جهاز المخابرات) بلغ حدّا لا يُصدّق؛ ظلّ منقوشا في ذاكرتي حتى اليوم، ففي شهر مايو/أيار 1992م، وأثناء اجتماع بحضور العديد من ضباط مديرية الجاسوسية المضادة، ومسؤولي الوكالة الوطنية لقمع اللصوصية، قال لنا العماري حرفيا: إني مستعد لقتل ملايين الجزائريين إذا تطلّب الأمر للمحافظة على النظام الذي يُهدده الإسلاميون. وأنا أشهد أنه كان في غاية الجدية”[20].
يسرد سمراوي في كتابه كيف حيكت المؤامرات، وكيف صنعت المخابرات الجزائرية في تلك الحقبة “الإرهاب” و”قادته”، على سبيل المثال يروي كيف أن “رامبو” الجماعات الإرهابية “موح ليفيي” الأمير الإسلامي الأول الذي بدأ يظهر منذ فبراير/شباط 1992م بعد أقل من شهر على الانقلاب العسكري على التجربة الديمقراطية في البلاد، كيف أن هذا الأمير “الإسلامي” المتعطّش للدماء كان ميكانيكيا يُصلح سيارات مصلحة البحث والتحليل التابعة لمديرية “الأمن العسكري” الجزائري، وأن اسمه الحقيقي كان محمد علال، وقد ارتكب مجموعة من عمليات القتل والسطو المسلح باسم الدين!
ويؤكد الضابط سمراوي أن هذا الأمير “موح ليفيي” كان أول من دشّن العمليات “الإرهابية” في الجزائر في الوقت الذي كان قادة التيار الإسلامي المسلح مترددين إزاء هذه الخطوة لحسابات المكسب والخسارة -وبعلم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بهذا-، وبعد سرده للعمليات الإرهابية التي قام بها هذا “الأمير”، وتحليلها أمنيا يؤكد أن “هذه الوقائع، وكذا ظروف عملية شارع بوزرينة لا تترُك مجالا للشك بأن (موح ليفيي) كان عميلا للمخابرات، اصطُنع خصيصا لترهيب المواطنين باسم الإسلاميين؛ لتقتله قوات الأمن آخر الأمر في (تيمزقيدة) يوم 13 أغسطس/آب 1992م؛ إذ لم يكن إلا واحدا من أُمراء (قسم الاستعلام والأمن) العديدين، الذين وُضعوا على رأس الجماعات الإسلامية المسلحة، والذين ستتم تصفيتُهم دائما وبانتظام؛ بمجرد أن يُنجزوا مهامهم المحددة”[21].
لا يضنّ سمراوي بما في جعبته من حقائق “مفزعة” حول “صناعة الإرهاب” في الجزائر بأيدي أذرعها المخابراتية والعسكرية، ويعطي لنا -على سبيل المثال وأمثلته كثيرة- اسما لـ “إرهابي” آخر أذاق الأبرياء من الجزائريين ألوانا من العذاب والقتل، وهو نور الدين صديقي، الذي يؤكد سمراوي أنه “اعتُبر عنصرا خطرا بانتمائه لـجماعة التكفير والهجرة، ونشاطه في بلوزداد، وقد أُلقي القبض عليه ثانية في أبريل/نيسان 1992م بالقرب من سوق السمك في العاصمة، بعد أن تعرّف عليه شُرطي. وقد أُرسل إلى شاطوناف (مقر مدرسة الشرطة الجزائرية) لاستجوابه، ولكنه نجح في الفرار للمرة الثانية بعد أن غافل حرّاسه الطيبين! وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه كان عميلا لقسم الاستعلام والأمن، فأنا لم أسمع خلال ثلاثة وعشرين عاما من العمل في هذا الجهاز أن كائنا قد استطاع الفرار من مركز اعتقال تابع لـ”الأمن العسكري!”[22].
في ليلة 22-23 سبتمبر/أيلول 1997م ارتكب “الإرهابيون” مجزرة بشعة في حي “بن طلحة” إحدى الضواحي الجنوبية للعاصمة الجزائرية، راح ضحيتها 200 رجل وامرأة دون جريرة فعلوها، كان السؤال المحير دائما: لماذا لم تتدخل قوات الأمن لإنقاذ هؤلاء الأبرياء وهي على بُعد خطوات منهم؟ لماذا لم تُصلح أعمدة الإنارة في الحي وقد اشتكى الأهالي كثيرا من هذا الإهمال؟ لماذا لم يتدخل الجيش وقوات الأمن للقضاء على الإرهابيين في البساتين القريبة من الحي وقد أُبلغوا بمكانهم من شهود العيان وبعض أبناء الحي قبل المجزرة؟ لماذا كانت حُجة قوات الأمن دائما عدم قدرتها على اقتحام الحي بسبب الألغام التي وضعها الإرهابيون على الرغم من دخولهم أخيرا بعد المجزرة دون أن تقف في طريقهم أي ألغام؟ هل حرص المهاجمون على انتزاعها أثناء تراجعهم؟ هذا ببساطة محال.
أسئلة كثيرة طرحها شهود العيان على مذبحة حي “بن طلحة” الواقع على بُعد 15 كيلومترا جنوب العاصمة الجزائر، وعلى رأسهم عبد الله يُوس في كتابه المثير للألم “من قُتل في بن طلحة” والذي يسرد فيه معاناة أهل الحي وهو واحد منهم، وتفاصيل المجزرة المروعة، يتساءل الرجل: لماذا أمر رئيس أركان الجيش الجزائري حينذاك محمد العماري قبل سلسلة مجازر سبتمبر/أيلول 1997م بعدم خروج قواته من ثكناتها وبعضها قريب للغاية من مواقع تلك المجازر ومنها “بن طلحة”!
يزيد يوس فوق ذلك قائلا: “عندما لجأ سُكان الأحياء المصابة إلى أماكن أخرى آملين أن يحظوا فيها بالأمان، حاولت السلطات إجبارهم على البقاء في بيوتهم أو العودة إليها؛ إنهم لا يريدون أن يفضح مرأى الأحياء المهجورة انعدام كفاءتهم. جهّزوا إذًا مراكز مراقبة (أمنية) داخل المجمّع، وهو إجراء طالبنا به منذ زمن طويل. مصابيح الإضاءة الخارجية التي لم توضع في أماكنها طوال تلك السنوات بالرغم من المطالبة بها مرات ومرات، ركّبتها البلدية (للسخرية) بعد أسبوع من المجزرة”[23].
الشيء الوحيد الذي أسرعت بإرساله قوات الأمن قبل المجزرة -للغرابة والدهشة- كان سيارات الإسعاف، يقول يُوس مندهشا: “في الأيام التالية (على المجزرة) بدأتُ أعرف أكثر فأكثر أشياء تؤكّد لي توجّسي ومخاوفي. مساء المجزرة في الساعة الحادية عشرة، قبل حتى أن تنفجر القنابل الأولى، توقّفت عدّة سيارات إسعاف أمام مدرسة بن طلحة في الشارع الكبير، كما استقرّ رجال الشرطة أمام مجمع الـ200 مسكن… سيارات الإسعاف هذه بقيت أمام حيّنا طوال الليل، وهي التي نقلتنا مع الفجر إلى المشافي المختلفة. قرينة مرعبة أخرى تدعنا نفترض أن بعض العناصر في قوات الأمن كانت تعلم أن المجزرة ستحدث؛ قبور حُفرت سلفا، في مقبرة سيدي رزين، مقبرة محلة برّاقي التي يُشكّل حيّ بن طلحة جزءا منها، وقبل الحادثة بأسبوع، حُفر ثلاثون قبرا في مساحة مربّعة جديدة احتُفظ بها خصّيصا لضحايا المجازر، كنتُ قد رأيتُ هذه القبور المفتوحة سابقا، لكني لم أُعرها التفاتا”.
يُكمل يوس شهادته، ويقول إنه بعد المجزرة قرر الذهاب إلى المقبرة قائلا: “وتحدّثتُ مع الحارس الذي أسرّ لي أنه قبل المذبحة جاءه عسكريون وأمروه بحفر عدد من القبور، ثم جاء رجال الدرَك وطلبوا منه أن يقوم بردمها، وأخيرا وقبل يومين من المجزرة طلب العسكر منه إبقاء القبور مفتوحة. قال لي أيضا: إنه غداة المجزرة وفي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، أحصى ما مجموعه 147 قبرا، وإن الناس قد دُفنوا فيها كيفما اتفق، امرأة مع رضيعها، عدّة أشخاص في قبر واحد”[24].
تلك هي الحكاية، حكاية العشرية السوداء، قصة حرب أهلية تسببت في مقتل عشرات الآلاف من الجزائريين، مختصرة بأشد عبارات الاختصار، وهي تستحق مجلدات من السرد والحكي، مجلدات لفهم الجذور التي أسست لما يصفه البعض باعتباره “صناعة الاستبداد في الجزائر” بعد ثورة عظيمة ضد أسوأ احتلال فرنسي جثم على صدر شعب، ومجلدات لفهم تطورات الأحداث بالتأسيس لشرعية الانقلابات العسكرية.
الجزيرة